تعاني السويد منذ سنوات قلقاً سياسياً عاماً له أسبابه الداخلية والخارجية. وقد بلغ هذا القلق ذروته مع اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، وانعكاساتها الأمنية المباشرة والمستقبلية الاستراتيجية على منطقة شمال غرب أوروبا التي تشمل فنلندا مع دول شبه الجزيرة الاسكندنافية (السويد، الدانمارك، النرويج، أيسنلدا). وقبل هذه الحرب كانت هناك جملة عوامل داخلية قد تفاعلت مع الأزمات الدولية وتبعاتها، وتفاعلاتها مع الواقع السويدي؛ وفي مقدمة هذه العوامل غياب الشخصيات السياسية الكاريزمية القادرة على إيجاد الحلول شبه المستحيلة في الأوقات الصعبة، وهي ظاهرة تميزت بها السويد باستمرار، وساعدت في إبعادها عن الحروب والنزاعات الداخلية على مدى نحو 200 عاماً.
وفي غياب مثل هذه الشخصيات، تراجع الاهتمام بالعمل السياسي بين الشباب الذين ركزوا بصورة أساسية على التعليم العالي والبحث، والاستثمار في فرص العمل المتميزة على المستويين المحلي والدولي؛ هذا إلى جانب تنمية المواهب الرياضية والفنية، والانشغال بالنشاطات المختلفة التي توفرها، أو تشرف عليها، منظمات المجتمع المدني باختصاصاتها واهتماماتها المتنوعة.
وقد استغلت القوى اليمينية المتشددة التي انتعشت في الدول الأوروبية سواء الشرقية منها أم الغربية هذه المتغيرات في صالح مشاريعها السياسية، ومساعيها في الهيمنة على الحياة السياسية عبر اعتماد خطاب شعبوي يتمحور حول حاجات الناس الحيوية اليومية، وهواجسهم من تزايد عدد المهاجرين، ومحاولة الربط بين هذا التزايد وارتفاع منسوب الجريمة المنظمة في المجتمعات الأوروبية، وفي المجتمع السويدي على نحو خاص .
ومن الواضح أن الظاهرة الترامبية أعطت هذه التيارات اليمينية جرعة إضافية، وذلك عبر التشديد على المصالح الوطنية القومية أولاً، والتشكيك في نتائج ومستقبل العولمة؛ واتخاذ موقف سلبي من المهاجرين، خاصة من ذوي الأصول الإسلامية القادمين من منطقة الشرق الأوسط، وهم يشكلون إلى جانب الصوماليين الجزء الأكبر من المهاجرين المسلمين إلى السويد، مع وجود نسبة قليلة من مواطني دول المغرب العربي (تونس، الجزائر المغرب، ليبيا).
ومع تدفق الموجة الأكبر من المهاجرين السوريين والأفغان والفلسطينيين على السويد في عام 2015 تبين بوضوح للجميع عجز المؤسسات السويدية الخاصة بتأمين السكن والرعاية الصحية والتعليم، وغيرها من المؤسسات التي يتميز بها مجتمع الرفاه السويدي عن تأمين المطلوب للجميع؛ الأمر الذي أدى إلى اختناقات كبرى، لا سيما في القطاعين السكني والصحي. وما نجم عن ذلك تمظهر في تذمّر شعبي عام استغلته القوى السياسية السويدية المتطرفة التي بنت شعبيتها على أخطاء الأحزاب السويدية العريقة التي تناوبت على حكم السويد، وذلك وفق قواعد العملية الديمقراطية التي تعد ركناً أساسياً من أركان الدولة والمجتمع السويديين؛ ويُشار هنا على وجه التحديد إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي، أكبر الأحزاب السويدية وتقوده راهناً رئيسة الوزراء السابقة ماغدلينا أندرسون؛ وحزب المحافظين الحاكم، ويقوده حاليا رئيس الوزراء أولف كريسترسون.
وفي سياق متصل بهذا الموضوع، يُشار هنا إلى استفادة حزب ديمقراطيي السويد اليميني المتشدد، الذي يعد وفق استطلاعات الرأي حالياً الحزب الثاني من جهة الشعبية، ويقوده جيمي أوكسون، من تصرفات وتحركات وتصريحات عدد من ممثلي الإسلام السياسي في السويد، واتخذها ورقة لإبراز مخاطر الإسلام على القيم والمقومات المجتمعية والثقافية السويدية، أداة فعّالة في ماكينته الإعلامية.
ولم يعد سراً أن ظاهرة إحراق نسخ من المصحف في أماكن وأوقات استفزازية من قبل أشخاص لا يرتبطون مع المجتمع السويدي بروابط وثيقة كانت بدعم وتغطية مقنعين من هذا الحزب، الذي بلغ الأمر بزعيمه إلى حد الدعوة في المؤتمر الأخير للحزب الذي انعقد في 27-11-2023 إلى إزالة المنارات والقباب والرموز العمرانية الإسلامية، وعدم بناء المزيد من المساجد بل وهدم الموجود منها، لأنها لا تنسجم، حسب رأيه، مع هوية المجتمع السويدي وقيمه. وقد أثار هذا التصريح جدلاً واسعاً حتى ضمن تحالف الأقلية الحاكمة؛ ووصل الأمر برئيس الوزراء المدعوم برلمانيا من الحزب المذكور إلى التعليق على التصريح المذكور قائلاً: إن مثل هذه التصريحات تثير الانقسام في المجتمع، وتعطي صورة سلبية عن السويد، كما أكد في تصريحات أخرى أن السويد تلتزم بحرية اختيار الدين، والمعتقدات، وبيّن أن السويد تحترم المؤمنين من أتباع جميع الديانات، كما تحترم غير المؤمنين أيضاً.
القطع مع سياسة الحياد
وربما كان هذا الموقف الواضح من جانب رئيس الحكومة هو ما دفع أوكسون إلى التراجع عن تصريحه، ليعلن بأنه كان يقصد بكلامه المساجد الخاضعة لهيمنة الإسلاميين المتشددين/الإسلامويين، ولم يكن يقصد بذلك المسلمين في السويد بصورة عامة. ولكن هذا الموقف لم يقنع المنتقدين من السويديين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والفكرية، وما عزز مواقف هؤلاء هو الموقف السلبي الذي اتخذه مسؤولون كبار في حزب أوكسون من قرار البرلمان الدانماركي الخاص بمنع إحراق الكتب المقدسة الخاصة بجميع الأديان، وهو القرار الذي صدر قبل أيام. والجدير بالذكر هنا أن نسبة المسلمين في السويد تعادل اليوم تقريبا ما بين 6-8 في المئة من مجموع السكان البالغ نحو 10 ملايين نسمة.
أما بالنسبة إلى انعكاسات الحرب الروسية على أوكرانيا، والمخاوف المشروعة من تصاعدها واتساع رقعتها فقد تجسدت سويدياً، إذا صح التعبير، في القطع مع سياسة الحياد، والتقدم بطلب العضوية إلى حلف الناتو بناء على اتفاق علني نادر بين الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم في ذلك الحين وحزب المحافظين الحاكم الآن، وبدعم من الأحزاب الصغيرة ما عدا حزب اليسار. ولكن من دون التمهيد لذلك بمناقشات مفتوحة في الفضاء العام، ومن دون اللجوء إلى تنظيم استفتاء شعبي عام، وهو الأمر المتبع عادة في السويد قبل اتخاذ القرارات المصيرية التي تكون نتائجها بعيدة المدى، وذات تأثير على مستقبل الأجيال المقبلة؛ هذا رغم عدم إلزامية نتائج هذه الاستفتاءات بموجب القانون السويدي الأساسي.
وقد أثار هذا الأمر اعتراض وانتقاد الكثير من النخب السويدية والجماعات اليسارية، وحتى اعتراض بعض القوى القومية المتشددة التي ترى أنه من الأفضل للسويد ان تكون مستقلة في سياساتها الاقتصادية والدفاعية وغيرها، وأن لا تسلم مسألة البت في أمورها الحيوية إلى القوى الخارجية الحليفة، سواء في الاتحاد الأوروبي أم في الناتو.
ولكن الذي حصل لاحقاً هو أن النظام الداخلي الخاص بالناتو يستوجب موافقة برلمانات وحكومات جميع الدول الأعضاء قبل الموافقة على قبول أي دولة لتكون عضواً جديداً في الحلف الدفاعي.
ورغم حاجة السويد إلى مظلة الناتو الدفاعية لضمان أمنها المستقبلي، والقطع مع الهواجس المبنية على الأطماع الروسية في المنطقة الاسكندنافية، وهي أطماع تستند إلى تجارب تاريخية ما زالت تُدرّس للأطفال والشباب السويديين في مختلف المراحل التعليمية.
غير أن الناتو من ناحيته يحتاج هو الآخر إلى العمق والتقنية السويديين لتأمين امكانية ايصال الدعم إلى دول البلطيق وبولونيا وفنلندا وغيرها من دول أوروبا الشرقية التي انضمت إلى حلف الناتو بعد انهيار حلف وارسو عام 1991 مع سقوط الاتحاد السوفياتي السابق في العام نفسه.
وبعد اخفاق الجهود الكبيرة التي بُذلت حتى الآن مع تركيا لإقناعها بالموافقة على عضوية السويد في الناتو، وربط رئيس الحكومة المجرية فيكتور أوربان المعروف بتوجهاته اليمينية، وهو قريب موسكو رغم عضوية بلاده في الناتو، موافقة بلاده على عضوية السويد مع الموافقة التركية؛ لجأت الولايات المتحدة مع السويد إلى خيار آخر؛ ويتجسّد جوهر هذا الخيار في وضع 17 قاعدة عسكرية سويدية تحت تصرف القوات الأمريكية، ورفع درجة التنسيق المشترك، الموجود أصلاً، بين البلدين، وهذا معناه على الصعيد العملي أن الهدف الأساس من انضمام السويد إلى الناتو في الظروف الراهنة الناجمة عن الحرب الروسية على أوكرانيا قد تحقق. وأن السويد قد باتت وفق الحسابات الاستراتيجية في مأمن بناء على اتفاقية دولية علنية مشروعة. ولكن يبقى موضوع الانضمام الرسمي إلى الناتو، والمشاركة في مؤسسات الحلف وخططه وبرامجه هدفاً مشتركاً تسعى إليه السويد والغالبية الساحقة من أعضاء الناتو.
هل ستوافق تركيا أخيراً على الطلب السويدي؟ أم أن انعكاسات وتبعات الحرب الإسرائيلية على غزة، وحالة الاستقطاب التي تهيمن راهناً على الجاليات المسلمة واليهودية في الدول الأوروبية ومنها السويد؛ هذا إلى جانب مواقف غالبية الدول الأوروبية، ومنها السويد، الواضحة في ميدان الإقرار بالحق الإسرائيلي في الدفاع عن النفس، مع تذكير خجول بأهمية أخذ سلامة المدنيين الفلسطينيين، لا سيما الأطفال والنساء بعين الاعتبار؟
وإذا وافقت تركيا على انضمام السويد إلى الناتو، هل سيوافق أوربان على ذلك؟ هذا مع الأخذ في الحسبان بأن الموقفين التركي والمجري في الحسابات الاستراتيجية هما حتى الآن لصالح بوتين الذي يحاول هو الآخر اليوم استغلال الأوضاع في غزة عبر إظهار التعاطف مع المسلمين والفلسطينيين لكسب تأييد الموقفين العربي والإسلامي وفك العزلة عن نظامه. وهو يفعل ذلك رغم معرفة الجميع بأن قواته لم تكن لتدخل سوريا لولا الموافقة الإسرائيلية التي ارتكزت على جملة قواعد تنسيقية ما زالت سارية المفعول إلى يومنا هذا، وكل ذلك كان بطبيعة الحال ضمن دائرة التفاهمات التي كانت مع الجانب الأمريكي في عهد أوباما صيف عام 2015.
كاتب وأكاديمي سوري
نسبة المسلمين
في السويد تعادل تقريبا ما بين 6-8 في المئة من مجموع السكان
“العربي الجديد”