لولا اشتعال جبهة الجنوب منذ الثامن من تشرين الأول بين حزب الله وقوات الاحتلال الإسرائيلي، لاستحق لبنان في سنة 2023 لقب “تفجير القوى السياسية لملف اللجوء السوري”. فعلى مدار عشرة أشهر، شكل اللاجئون السوريون مخرج السلطة وأركانها للتملص من مسؤوليتهم بكل ما حل في البلد من أزمات وانهيار منذ خريف 2019، وحتى منذ تدفق أكبر موجة لجوء إلى لبنان عقب الحرب السورية في 2011.
ففي هذا العام، بلغ التحريض العنصري والطائفي والسياسي والشعبي ذروته. كما وقع الجيش اللبناني في فخ العجز عن ضبط الحدود البرية بين لبنان وسوريا، حيث تنشط شبكات التهريب بين البلدين، فيما حكومة نجيب ميقاتي وأقطابها السياسية واصلت سياسة التلاعب بالملف بين المفوضية وابتزاز المجتمع الدولي الرافض لعودة السوريين، والخائف من تدفق قوارب الهجرة إلى أوروبا، وبين النظام السوري الذي لم يبد رغبة أو نية بعودة أبناء سوريا من دون ثمن سياسي ومالي.
فكيف بدأت وانتهت 2023 مع اللاجئين السوريين؟
بدأ لبنان 2023، بقصة غرق مركب هجرة غير نظامية قبالة شاطئ سلعاتا، في الليلة الأخيرة من 2022، وكان على متنه 232 مهاجراً، تمكن الجيش اللبناني من إنقاذهم، فيما غرقت امرأة وطفل وتم انتشال جثتهما أثناء عمليات الإنقاذ. وكان معظم ركاب هذا القارب يحملون الجنسية السورية، ومعهم مجموعة صغيرة من اللبنانيين والفلسطينيين. وللمصادفة أيضًا، ينهي لبنان 2023، بغرق قارب في 17 كانون الأول الجاري، وكان على متنه 51 مهاجرًا سوريًا، بينهم اثنان من الجنسية الفلسطينية، تمكنت بحرية الجيش من انقاذهم قبالة شاطئ طرابلس، قبل أن يقوم الجيش بترحيلهم إلى سوريا.
نبذة المواقف
وما بين هذين الحادثين المأسويين، حفلت 2023 بالمواقف السياسية التصعيدية والتحريضية ضد اللاجئين السوريين، كانت شرارة انطلاقها في 12 كانون الثاني على لسان رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، حين تحدث عما أسماه “تسلل للإرهابيين تحت غطاء النازحين”. ومما قاله حينها: “على الحكومة اللبنانية أن تطبق خطتها حول العودة، وأن تعمل فوراً على إعادة المسجونين الخطيرين”. وقال أيضًا: “إن تغيير النسيج الديموغرافي وضرب الهويات الوطنية هو العنصرية، واستغلال ضحايا لعبة الأمم على طاولة رسم الخرائط والمصالح هو المؤامرة بذاتها”.
ففي تلك الفترة، كان لبنان يرتكز على خطة أعلن عنها المدير العام للأمن العام السابق اللواء عباس إبراهيم، في تشرين الثاني 2022، وكانت تقوم على ارسال قوافل السوريين إلى سوريا، لكنها سرعان ما فشلت، بعدما خرجت أول دفعة من عرسال نحو سوريا، وضمت المئات فقط، ثم تراجع تباعًا زخم القوافل.
ولم يكن باسيل وحده صاحب المواقف التصعيدية ضد اللاجئين هذا العام. فكذلك مواقف البطريرك مار بشارة بطرس الراعي كانت في الصدارة، انطلاقًا من اعتباره أن الوجود السوري يشكل خطرًا على لبنان، وهو ما تماهى معه قائد الجيش جوزيف عون الذي وصف قضية تدفق أفواج السوريين عبر المعابر البرية غير الشرعية، بـ”الخطر الوجودي على لبنان”.
وفيما صدرت مواقف تصعيدية عديدة على لسان نواب حزب القوات اللبنانية هذا العام، ومنها ما قاله النائب جورج عدوان “دقت ساعة عودة السوريين إلى بلادهم”، قال رئيس حزب الكتائب أيضًا: “إن لبنان كان قبل أزمة النزوح يحتل المرتبة 19 بين الدول الأكثر اكتظاظًا. أما اليوم فبات رقم 3 مع 585 ساكنًا ضمن الكيلومتر المربع الواحد”.
وعلى إثر هذه المواقف، شهد لبنان في نيسان بروز حملة يقودوها ناشطون تحت عنوان “الحملة الوطنية لتحرير لبنان من الاحتلال الديمغرافي”، ودعت اللبنانيين للتظاهر ضد اللاجئين، قبل أن يصدر وزير الداخلية بسام المولوي قرارًا بمنعها، لكنه بالمقابل منح البلديات سلطة واسعة لاتخاذ إجراءات تضيق على حركة السوريين بحجة احترام القوانين اللبنانية، مما أسفر عن إشكالات كثيرة شهدتها بعض المناطق والقرى بين اللبنانيين والسوريين، وشكلت مسًا واضحًا بالسلم الأهلي.
ولعل من أكثر المواقف التي أثارت جدلًا، كانت قبل أيام من اندلاع جبهة الجنوب، على لسان أمين عام حزب الله حسن نصرالله، الذي دعا لأول مرة “تسهيل سفر اللاجئين السوريين إلى أوروبا”، على قاعدة أن أزمة اللجوء تندرج بإطار المعركة السياسية والحصار الأميركي والغربي على سوريا. ومما قاله حينها: “الموضوع الأهم هو معالجة الأسباب لا النتائج، والمسؤول الأول عن النزوح الأمني إلى لبنان هو من أشعل الحرب في سوريا، أي الإدارة الأميركية، وهي المسؤولة أيضاً عن النزوح الاقتصادي”!
تخبط الحكومة
وكان هذا العام أيضًا حافلًا بتخبط حكومة تصريف الأعمال في إدارة ملف اللجوء السوري، حيث تسبب سلوك ميقاتي بتفجير الخلافات بين وزرائه، ولا سيما بين وزراء الخارجية والمهجرين والشؤون الاجتماعي. بينما كان ميقاتي يحمل ملف اللجوء السوري ذريعة لاعتلاء المنابر الدولية ولمطالبة الدول بمساعدة لبنان وحكومته.
في نيسان، برز خلاف وزير الشؤون الاجتماعية هيكتور حجار مع المفوضية، حول القيمة المالية للمساعدات التي كانت تسعى الأخيرة إلى تقديمها للاجئين السوريين. وحينها قال حجار: “لا نستطيع أن نوافق على أن تكون المساعدات تتجاوز قيمة راتب مدير عام أو محافظ بالدولة اللبنانية أو وزير أو نائب”.
وفي حزيران، عقب إنهاء أعمال المؤتمر السابع “لدعم مستقبل سوريا والمنطقة” في بروكسل، طالب وزير الخارجية عبد الله بو حبيب، بزيادة دعم المؤسسات الحكومية والمجتمع المضيف، وقال: “هناك خطر من توترات بين اللبنانيين والنازحين السوريين وارتفاع العنف بسبب الأزمة والصراع للحصول على وظائف”. وهو خطاب لم يلق أي صدى في هذا المحفل الدولي.
وفي الشهر عينه، كلفت حكومة تصريف الأعمال بو حبيب بمهمة التواصل مع الجهات المعنية في سوريا للبحث في ملف عودة اللاجئين السوريين ولتحديد موعد الزيارة الرسمية، وجاء ذلك قبل زيارة تحضيرية قام بها وزير المهجرين عصام شرف الدين إلى سوريا، أثارت جدلًا واسعًا، إلى أن تنصلت الحكومة لاحقًا من مضمونها.
وحينها حمل شرف الدين إلى سوريا مطلب تشكيل لجنة ثلاثية بين لبنان وسوريا والمفوضية، وتناول مسائل مكتومي القيد السوريين وخدمة العلم العسكرية، والمساجين السوريين، مع طرح فكرة نقلهم إلى سوريا.
لكن في منتصف تموز، أثار إعلان النائب الفرنسي تيري مارياني بأن “البرلمان الأوروبي صوت بأغلبية ساحقة على قرار يدعم إبقاء اللاجئين السوريين في لبنان”، بلبلة في لبنان، قبل أن يتبين أنه قرار غير ملزم.
وما هي إلا أيام، حتى أعلن وزير الخارجية عبد الله بو حبيب في 17 تموز، قرار التنحي عن رئاسة الوفد الرسمي، ثم عزف عنه لاحقًا.
لاحقًا، أعلن بو حبيب التوصل مع المفوضية إلى اتفاقية للعمل على استلام الداتا التابعة لجميع السوريين على الأراضي اللبنانية.
إجراءات أمنية ووزارية
وفي أيلول، أعلنت حكومة ميقاتي سلسلة مقررات متعلقة بملف اللاجئين السوريين، وتدفق مئات السوريين يوميًا عبر المعابر البرية غير الشرعية، وأخذت في 18 بندًا طابع التوصيات المباشرة للأجهزة الأمنية والوزارات المعنية بتوسيع صلاحيتهم في إطار ملاحقة السوريين وترحيلهم.
وفي أيلول أيضًا، تفاقمت عمليات التصدي والترحيل التي ينفذها الجيش اللبناني بحق اللاجئين السوريين، وكشفت حينها مصادر “المدن”، أن ما لا يقل عن نحو 6 آلاف شخص سوري، تم ترحيلهم أو إعادتهم عبر الحدود البرية.
قبل وبعد الحرب
وفي 5 تشرين الأول، أي قبل يومين فقط من عملية طوفان الأقصى في قطاع غزة، نظّمت قيادة الجيش في مديرية التوجيه جولة ميدانية على الحدود الشمالية مع سوريا، لأكثر من خمسين صحافيًا/ة، من الإعلام المحلي والفضائي والوكالات الأجنبية. وقدم فيها عرضًا مفصلًا حول رؤيته لواقع التسلل الحدودي، وعرض أرقامًا وخريطة لطبيعة المناطقة، إضافة للصعوبات التي تواجهه ولائحة من المقترحات، التي حملت في كل بند رسالة سياسية مختلفة.
أما التطور اللافت، فكان في خضم اشتعال جبهة الجنوب، وصول الوفد اللبناني برئاسة بو حبيب إلى دمشق في 23 تشرين الأول، للبحث بملف العودة، من دون أن تسفر الزيارة عن نتائج.
وفي مطلع كانون الأول، قامت المفوضية على تسليم الجانب اللبناني الداتا المتعلقة باللاجئين السوريين، بعد نحو ثلاثة أشهر من المباحثات، ووفقًا لمعايير وشروط محددة تتبعها مع مختلف الحكومات حول العالم. وحتى الآن، لم يتبين آلية وأهداف استعمال لبنان لهذه الداتا.
“المدن”