يفرق إلان بابيه في كتابه عشر خرافات عن إسرائيل بين «الاستعمار الاستيطاني والاستعمار الكلاسيكي» بثلاثة مظاهر، الأول أن الاستعمارات الاستيطانية «تعتمد مبدئياً وعلى نحو مؤقت على السلطة كي تتمكن من الاستمرارية» بمعنى أن المستوطنين يكونون غير منتمين إلى الأمة التي تشكل السلطة التي تساندهم، حيث يمكن لهؤلاء أن ينشقوا عن السلطة ويثوروا عليها، تماماً كما يحدث اليوم في الداخل الإسرائيلي الذي يرى انشقاقاً وتمرداً بل وهجرة عكسية لكثير من مستوطنيه، والثاني أن الاستعمارات الاستيطانية ترغب في الاستيلاء على أرض أجنبية في حين أن الاستعمار الكلاسيكي يرمي للسيطرة على الموارد الطبيعية في «ممتلكاته الجغرافية الجديدة»، لنجد هذه الصورة الفرقية واضحة بين استعمار بريطانيا للهند على سبيل المثال وبين استيطان إسرائيل الصهيونية لفلسطين، حيث في الحالة الأولى لم تدّع بريطانيا ملكية «أصلية» للهند من حيث إنها أرض إنجليزية أصلاً، في حين أن الاستيطان الصهيوني يدعي ملكية أصلية يهودية للأرض، عودة بتاريخها للغائر من الزمن، وهو غائر تاريخي غير صحيح في الواقع مطلقاً، دع عنك انعدام سنده المدني في الزمن المعاصر.
المرعب في الموضوع يتبين حين الوصول للمظهر الثالث للاستعمار الاستيطاني الذي يفرقه عن ذلك الكلاسيكي والذي يتمثل، كما يقول بابيه، «في الطريقة التي تتعامل بها الحركة الاستعمارية مع وجهة الاستيطان الجديدة». فالمستوطنون هم «لاجئون من النوع الذي لا يبحث عن بيت فسحب، بل عن موطن». من هذا المنطلق، تتجه هذه الحركات الاستيطانية للاستيلاء على «وطن» بحجة ملكية «أخلاقية أو إلهية» له. عادة ما تكون وسيلة مثل هذا الاستيطان الديني أو الأخلاقي هي الإبادة الشاملة للسكان الأصليين. وعليه، لا عجب أن نجد أن التأييد الأكبر للاستيطان الصهيوني اليوم يأتي من الولايات المتحدة، وهي الدولة التي بدأت بإبادة شبه شاملة للسكان الأصليين بحجة أخلاقية لتطوير وتنمية الأرض وأخرى دينية لنشر المسيحية فيها، وهي الحجج المستمرة إلى اليوم بصيغة مطورة تحت تسمية Manifest Destiny أو ما تصوره الحكومات الأمريكية على أنه قدرها لنشر الديموقراطية في العالم وحماية «الأمم الرجعية» من رجعيتها وفرض الديموقراطية الغربية قسراً عليها دساً لها في حلوق لا تتذوقها بنكهتها الأمريكية الغربية.
في سبيل تحقيق هذا الاستيطان الأممي «الأخلاقي الديني»، يعمل الاستيطان على تنفيذ عمليات إبادة جماعية وتطهير عرقي، وهذان قد لا يتمان بالصورة البشعة المباشرة التي نراها الآن في غزة من حيث تدمير بناها التحتية وحشوها بأجساد أبنائها الغزاويين وبالأخص الأطفال منهم، وذلك في وضح النهار وبأعداد تصل للآلاف، ولكنهما قد يأخذان مساراً أبطأ خطواً وزمناً، ليأتيا؛ أي الإبادة والتطهير، عن طريق رفع نسبة المعاناة والتهديد المستمر الذي يمحو تماماً الشعور بالأمان، عن طريق الاستيلاء على البيوت «بأحكام محاكم استيطانية»، عن طريق التجويع الممنهج وتحطيم البنى الاقتصادية وسد المنافذ العابرة وتحويل المنطقة إلى سجن كبير خانق مكتظ بعدد يفوق أضعاف ما يحتمل ليموت هذا الداخل جوعاً واكتظاظاً ومرضاً. لا تحتاج الإبادة والتطهير لفعل حقير بشع مباشر يشوه سمعة المحتل الاستيطاني، كما هو حادث الآن في غزة بسبب سوء تقدير الصهاينة لما سيكون عليه الرأي العالم الشعبي العالمي المتأثر اليوم بوسائل التواصل التي ما عاد ممكناً إخفاء الحقائق بوجودها، يمكن للإبادة والتطهير أن يكونا من النوع «اللايت»، أن يأخذا منهجية ناعمة بطيئة فردية أحياناً، وذلك بقتل شخص واحد في يوم واحد، وطرد عائلة واحدة بحكم واحد، وتجويع منطقة واحدة في شهر واحد، إلى أن يتم إنهاك الشعب بأكمله، فيباد بإنهاكه أو يهيم شتاتاً على وجه الأرض.
وبلا شك، سيحتاج المستوطن لأداة تساعده في تنفيذ كل ذلك، إن أتت مخططاته مباشرة وقحة أو ناعمة مختبئة، وهذه الأداة هي ما يصفها بابيه بمنطق «تجريد الإنسان من إنسانيته». ففي كل حالة تاريخية بشرية تمت فيها ممارسة الإبادة والتطهير، تمت معها محاولة تحويل سكان المنطقة الأصليين إلى كائنات أقل بشرية، إلى همج رجعيين، أو عصابة متطرفين، أو بشر أقل قيمة عقلية وجسدية، وهكذا تسهل تصفيتهم، سريعاً أو بطيئاً، أمام العالم، بل ولربما بتسويق فكرة أن هذه التصفية هي نوع من الحماية للجنس البشري وتنقيته من «الشوائب» العالقة به. وهكذا، حول الاستيطان الصهيوني المجتمع الفلسطيني، بمقاومته المشروعة حماس، إلى مجموعة بشرية رجعية متطرفة متشنجة بل وجاحدة، ترفض «الاستعمار التنويري» كما يقدم الصهاينة أنفسهم حسب توصيف بابيه، هذا الاستعمار الذي أتى لينقذهم من أنفسهم وبدائيتهم وليأخذ بيدهم إلى الحياة المعاصرة، فقط ليتكشف للعالم الآن، أنه فعلاً أراد الأخذ بأيادي الفلسطينيين، ولكن مقطوعة عن أجسادهم المتناثرة أشلاء.
لقد كانت فلسطين أمة على وشك أن تصبح دولة رسمية في أوائل القرن العشرين، أمة كاملة الثقافة، متطورة الفنون والآداب، أمة زراعية متحضرة ممتدة من النهر إلى البحر بمدنها العريقة وبتنوعها الديني الصحي وبمزارعها الغنية وبيوتها العتيقة ومعابدها الأثرية، أمة مستعدة، تماماً كما جارتيها العراق والأردن لتصبح دولة مدنية حديثة، ليأتي المحتل الصهيوني الاستيطاني فيحولها إلى كانتونات ضيقة متناثرة، فيعزل شعبها بعضهم عن بعض، بل ويحاول بلا نجاح كبير، ضربهم ببعضهم بعضاً، وليضيق عليهم ويفصلهم حتى في أحيائهم الواحدة، وليضع بعضهم تحت حكمه المباشر مثل حال أجزاء من الضفة الغربية، وبعضه الآخر تحت حكمه الاستيطاني غير المباشر مثل حال غزة، وليستمر في محاولة شيطنة هذا الشعب المخلص وإظهاره على أنه معاد للسلام وهادم لكل محاولة تهدئة من الجانب «الإسرائيلي»، في حين أن الحقيقة أنه لم تكن هناك خطوة واحدة حقيقية نحو السلام ولم يتحقق أي مظهر من مظاهر التهدئة حتى تحت معاهدات واتفاقيات وهدنات وقحة، مثالاً وليس حصراً، اتفاقية أوسلو، التي استخدمها المحتل تتابعاً لسرقة الأرض، والتي كسرها المحتل تتابعاً طمعاً في المزيد رغم سوئها وقلة ما يخدم الفلسطينيين فيها، والتي صدرها المحتل تتابعاً لإثبات أنها دليل على مقاومة الفلسطينيين للسلام، في حين أنها اتفاقية تبيع فلسطين وتؤمّن على وعد بلفور وتشرذم الأرض وتقاوم أي فرصة حقيقية للسلام في كثير من موادها.
اتفاقية أوسلو هي صورة من صور التأمين على الإبادة والتطهير اللايت، لكن إسرائيل الصهيونية بغبائها تسرعت لتطلق صورة متجددة فاحشة من الإبادة والتطهير الدمويين العلنيين، وذلك في عصر «السوشال ميديا»، لتنقلب الطاولة عليها وتتبدى السوءة عن آخرها. والآن لا مجال للستر، انكشفت العورة وتبدت الحقيقة وفاحت رائحة الكذب العطنة. بدأت مرحلة سقوطكم واقتربت نهايتكم وسيتذكر العالم يوم 7 أكتوبر 2023 على أنه اليوم الفعلي لتحرير فلسطين.
المعلومات حول الاستعمار الكلاسيكي والاستعمار الاستيطاني من كتاب إلان بابيه عشر خرافات عن إسرائيل، الصفحات 61-62.