إلى الصديق إلياس خوري
هذه قصة رجلين ومدينتين وبلدين جمعهما زمن واحد وقضية واحدة اسمها الحرية في مواجهة الاستبداد.
هذه القصة ليست عن الشيوعية وأحزابها، وليست عن ديكتاتورية البروليتاريا وأيديولوجيتها البائدة، وليست عن الليبرالية ودعاتها. إنها قصة عن الصداقة والوفاء، عن الحياة والموت، عن الكرامة والخنوع، عن الاستقلالية والتبعية، عن الصمود والتعذيب، عن التضحية والأمل.
بعد عام تقريبا من إعلان الوحدة بين سوريا ومصر في 22 شباط/فبراير من عام 1958، ومع ازدياد التوتر بين الرئيس عبد الناصر وبين الشيوعيين، الذين رفضوا الوحدة الاندماجية، ولم يمتثلوا لقرار حل الأحزاب، ودخلوا في العمل السري، اعتقل في مدينة حمص المدرس الشاب سعيد الدروبي بتاريخ 14 شباط/فبراير 1959، وكان عضوا في نقابة المعلمين، وفي «منطقية» حمص للحزب الشيوعي السوري اللبناني، ورفيق وصديق رياض الترك العزيز، وزميله في التدريس وفي عضوية النقابة. في ذلك اليوم المشؤوم ذهب سعيد إلى أحد الاجتماعات الحزبية مكان رياض الترك الملاحق والمتخفي وتم اعتقاله بدلا منه.
في اليوم التالي سلمت المباحث جثة سعيد إلى أهله، مدعية أنه انتحر. تم فتح التابوت المغلق في المنزل لتكتشف العائلة أن الجثة متفحمة، والبطن منتفخ، والجسد ممتلئ بآثار التعذيب الوحشي بالكهرباء وأعقاب السجائر. وقفت الأم الثكلى على شرفة منزلها إلى جانب السرايا في وسط حمص تصرخ و»تولول» وتدعو المارة للصعود لمشاهدة ما فعلوا بابنها. في ذلك الزمن لم تكن المدينة ولا البلد قد عرفت بعد أو ألفت قصص القتل تحت التعذيب على يد الدولة الأمنية الوليدة. صعد الناس فرادى وجماعات لتعزية العائلة ولإلقاء نظرة الوداع على سعيد الدروبي، وكان معظمهم يشيح بنظره من هول منظر الجثة التي أثخنها التعذيب.
خرجت لسعيد الدروبي جنازة ضخمة لم تشهد مدينة حمص مثيلا لها، استنكارا لجريمة قتله الوحشية تحت التعذيب، وتضامنا مع عائلته النافذة في المدينة. شارك في الجنازة فقراء حمص وأغنياؤها، يسارها ويمينها، طلاب وزملاء سعيد في التعليم، وشاركت كل عائلات المدينة، وامتد موكب الجنازة كسيل بشري في شارع الحميدية، من دوار الساعة القديمة وصولا إلى باب تدمر.
كُلف رياض الترك المتخفي والملاحق، بإلقاء كلمة «منطقية» حمص في الحزب، خلال مراسم الدفن، فاختبأ في المقبرة في انتظار وصول الجنازة، وهناك خرج وألقى كلمة التأبين على قبر سعيد، أدان فيها الاستبداد وتحدى القتلة وعلى رأسهم عبدو الحكيم رئيس مباحث المدينة والمحقق جواد عبّارة المسؤول المباشر عن مقتل سعيد. تم بعدها تهريب رياض الترك من المقبرة عن طريق رفاقه الذين قطعوا الطريق على الناس وأفسحوا له منفذا من درج باب تدمر في اتجاه باب الدريب، متأكدين أن أحدا لن يلحق به لاعتقاله.
بقي الترك عدة أسابيع متخفيا في مدينة حمص، في الوقت الذي كانت المباحث تحاول اعتقاله بأي ثمن، بسبب الكلمة التي ألقاها في الجنازة، وتم نشرها في جريدة «الأخبار» الصادرة عن الحزب في لبنان، إلى أن تم تهريبه إلى البقاع، خلسة عبر الحدود، في أواخر أبريل/نيسان من عام 1959 بطلب من فرج الله الحلو قائد الحزب في لبنان. أمضى رياض الترك نحو شهر في العاصمة اللبنانية مقيما عند أخيه، عاين فيها أوضاع اللاجئين والهاربين السوريين المزرية، إذ كان أغلبهم ينتظر تأمين سفر وإقامات ومنح دراسية لهم في دول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي. في المقابل طالب رياض الترك قيادة الحزب السوري اللبناني، التي كانت تلتقي به في بيروت، دون أن يعرف أسماءها ومناصبها، أن تعيده إلى سورية لاستكمال نشاطه. تمت الموافقة على طلبه لكنها اشترطت أن تتم إعادته إلى العمل السري في دمشق بدل حمص، مخافة أن يجري التعرف عليه في مدينته الأم ويتم اعتقاله فيها.
الرجل الغامض وإعادة بناء التنظيم
في يوم تهريبه إلى دمشق سلمه أحد القادة اللبنانيين أوراقا ثبوتية لبنانية مزورة، وتم إيصاله إلى منطقة الحدود، وطلب منه عبور أحد التلال عند انبلاج الصبح، والنزول إلى بلدة سرغايا السورية، وأخذ «باص» من ساحة القرية إلى دمشق، وحدد له موعدا بعد الظهر مع المسؤول الحزبي في دمشق على موقف عين الكرش في شارع بغداد. وعندما سأل الترك إذا كان هذا الشخص الذي ينتظره على موقف «الباص» يعرفه؟ فقيل له نعم هو يعرفك وأنت تعرفه كذلك!
عبر رياض الترك الحدود خلسة ووصل إلى دمشق، وظل يتجول في شوارعها في انتظار أن تحين ساعة الموعد ليتفاجأ عند الساعة الخامسة أن ذاته القائد اللبناني الذي أعطاه قبل يومين الأوراق الثبوتية المزورة في بيروت، ينتظره بنفسه في قلب العاصمة السورية دمشق، ومن هناك نقله إلى بيت سري في الجادة الثالثة من حي المهاجرين، كان مخصصا في الأساس لاختباء خالد بكداش، لكن هذا الأخير غادر إلى لبنان ومنها إلى براغ وصوفيا، حيث أقام معززا مكرما أمينا عام لحزب شيوعي حليف لموسكو.
في دمشق، وعلى مدى أكثر من شهرين راح هذا القائد اللبناني يتردد أسبوعيا، مرتين أو ثلاث، على هذا البيت السري، لزيارة رياض الترك، وجعله يعمل تحت إشرافه على إعادة تنظيم أوضاع الحزب وقيادة عدة فرق ممن تبقى من الشيوعيين في العمل السري في المدينة، بعد أن تم اعتقال معظم أعضاء «منطقية» دمشق، وتم إخراج بعضهم وتهريبه إلى بيروت، نتيجة اعتقال مسؤول «منطقية» دمشق الكادر القيادي رفيق رضا الفاكهاني وانهياره تحت التعذيب وتسليمه قوائم بأسماء أعضاء الحزب في دمشق، بعد أن تم ابتززه بزوجته الشابة التي وضعت هي الأخرى تحت الإقامة الجبرية.
خلال هذه الأسابيع من العمل السري توطدت العلاقة بين رياض الترك والقيادي اللبناني، فقد ترك هذا الشخص المجهول والغامض عميق الأثر عند الشاب الحمصي، بما بدا منه من صفاء ذهن وتفان في العمل وعمق ثقافة وتواضع جم. كان هذا القيادي يعد رياض الترك ويشد من أزره ويحصنه نفسيا، متمنيا عليه ألا يضعف أو يساوره الشك إذا سمع رفاقا له في الحزب يدلون باعترافاتهم في الإذاعة.
تنوير الشيوعيين
في ذلك الوقت بدأت إذاعة دمشق تبث يوميا اعترافات بعض الموقوفين الذين انهاروا تحت أشد صنوف التعذيب والضغط الجسدي والنفسي، نتيجة «برنامج تنوير الشيوعيين» كما سماه في مذكراته سامي جمعة، الضابط في المكتب الثاني السوري المسؤول عن التحقيقات. فكتب عن تلك المرحلة السوداء في كتابه «أوراق من دفتر الوطن» الصادر في دمشق بتقديم احتفائي من العماد مصطفى طلاس وزير دفاع نظام حافظ الأسد، السطور السوداء التالية: «أخيرا وصلنا إلى المرحلة الحاسمة، إذ طلبت من الذين اقتنعوا بخطأ مسيرتهم السابقة، وأبدوا إيمانا بالقومية العربية، أن يعلنوا عبر الإذاعة انسحابهم من الحزب الشيوعي، وتبرأهم من الشيوعية، فأبدى 90 في المئة من الموجودين في المفرزة (مفرزة الطلياني) موافقتهم الفورية، وبدأ الأستاذ فؤاد شحادة من الإذاعة السورية يتردد على مكتبي يوميا ليسجل للمنسحبين أقوالهم، التي كانت تذاع مساء كل يوم من إذاعة دمشق. كان المتكلم يبدأ بتقديم نفسه والمركز الذي كان يشغله في الحزب الشيوعي السوري. ثم ينتقل إلى عملية النقد الذاتي لممارساته وماضيه السياسي، ويختتم حديثه بإعلان انسحابه من الحزب الشيوعي السوري. فور إذاعة كلمة صاحب العلاقة في الإذاعة، كنا نبادر إلى إطلاق سراحه، ونعمل على إعادته إلى وظيفته، التي كان يشغلها في الدولة قبل اعتقاله، أما من كان بلا عمل فكنا نعمل جاهدين على توفير فرصة عمل له».
أما عن مصير العميل رفيق رضا، فكتب عنه سامي جمعة الآتي: «بعد أن سلمنا رفيق رضا الجهاز السري بكامله في دمشق وبعدما تأكدت أنه نسف كل جسوره مع الشيوعية ولم يبق له سوانا حاميا وراعيا عزمت على مقابلة صنيعه بالمثل… وبعد تسوية وضع رفيق رضا خيرته بين أن يذهب طليقا حيث يشاء أو أن يعمل موظفا عندنا فاختار العرض الأخير وتم تخصيص راتب مجز له إضافة للسكن، وبدأ يعمل تحت إشرافي المباشر بمهمة توعية الشيوعيين، الذين يتم القبض عليهم وأولئك الذين لا نفلح في إقناعهم بالتخلي عن الشيوعية والانسحاب من الحزب. وقد سجل رفيق رضا نجاحا باهرا في هذا المضمار، إذ كان كل الذين تحاور معهم ممن يعرفهم، وممن قام هو شخصيا بتنظيمهم في الحزب، فأزاح بذلك عن كاهلي جزءا كبيرا من الأعباء، التي كنت أحملها. وقد بقي رفيق رضا يعمل في المخابرات حتى وافاه الأجل في منتصف الثمانينات من عمره».
ووفقا لحسبة بسيطة وبالاستناد إلى كلام سامي جمعة فإن رفيق رضا، الذي كان بعمر الستين عندما ارتضى لنفسه العمالة والوشاية برفاقه، فهذا معناه أنه ظل يعمل مع أجهزة المخابرات السورية حتى منتصف ثمانينات القرن المنصرم، خلال عهد حافظ الأسد!
في 25 حزيران/يونيو من العام 1959 تمكنت مفرزة من المباحث بقيادة شاهر قويناتي من اعتقال سكرتير الحزب الشيوعي السوري اللبناني فرج الله الحلو في مدينة دمشق، بعد أن مكنت له في أحد البيوت السرية المستأجرة من قبل عضو الحزب صبحي الحبل، الذي اعتقل قبله بعدة أيام، وتم اقتياد فرج الله الحلو، الذي كان يحمل هوية لبنانية باسم عساف منصور ولقبه السري أبو فياض إلى مفرزة الطلياني، حيث كان في انتظاره رفيق رضا والضابطان سامي جمعة وعبد الوهاب الخطيب والمحقق وحيد انطالكي. تعرف رفيق رضا على فرج الله الحلو على الفور وطالبه بالتعاون مع المحققين، فما كان من فرج الله إلا أن هب واقفا وبصق في وجه رفيقه السابق قائلا له: «خائن» وفقا لشهادة سامي جمعة نفسه في كتابه آنف الذكر.
قتل تحت التعذيب.. وتذويب بالأسيد
تعرض فرج الله الحلو المريض بالقلب لتعذيب شنيع تضمن الضرب والجلد بالسياط والشبح، ونفخ البطن بمنفاخ سيارة هوائي، والضغط على البطن بالقدم ليخرج الهواء، والصعق الكهربائي، والحرمان من النوم بتنقيط المياه المستمر على الرأس. كان هدف المحققين معرفة أسماء أعضاء التنظيم السري المتخفين وأماكن اختبائهم، كما حاولوا عبثا معرفة استخدامات حمالة المفاتيح، التي عثر عليها بحوزته، وإذا ما كانت تخص البيوت السرية التي يتردد عليها في دمشق، وأماكن وجودها. رفض فرج الله الحلو التعاون مع الجلادين والإجابة على أي من أسئلتهم، واستمر يردد عبارة خائن بحق رفيق رضا إلى أن وافته المنية صباح اليوم التالي على أيدي جلاديه.
عندما تم إطلاع عبد الحميد السراج على تفاصيل الجريمة، وهو وزير الداخلية في الإقليم الشمالي، ورجل عبد الناصر القوي في سوريا، طلب هذا الأخير من رجال المباحث التكتم على الأمر وإخفاء الجثة. فتم دفنها في البداية في بساتين الغوطة، ليتم بعد ذلك بعدة أيام إخراجها وتذويبها في حوض من «الأسيد» بهدف إزالة أي دليل على الجريمة، حتى لا يؤدي الأمر إلى ازدياد التوتر في العلاقات السوفييتية المصرية، التي كانت تتعرض للكثير من الشد والجذب، بين توقيع معاهدة بناء السد العالي وقبول السوفييت بتمويله، والحملات الإعلامية المتصاعدة، بسبب انقلاب عبد الكريم قاسم في العراق المؤيد للسوفييت والمعادي لناصر، وبسبب موقف الأحزاب الشيوعية العربية المتحفظ على الوحدة المصرية السورية.
أعلن الحزب الشيوعي السوري اللبناني في 4 تموز/يوليو 1959 على صدر الصفحة الأولى من جريدته «النداء» الصادرة في بيروت، خبر اختطاف المباحث السورية لفرج الله الحلو، وحمل السلطات مسؤولية سلامته الشخصية، وضرورة الحفاظ على حياته. في الوقت الذي نفت فيه السلطات السورية خبر اعتقال الحلو، وأشارت إلى أن سجلات الحدود السورية اللبنانية لم تسجل دخوله أصلا إلى سوريا.
في بيت الجادة الثالثة في حي المهاجرين، سيطول انتظار رياض الترك للقيادي اللبناني المجهول لعدة أسابيع، ليكتشف لاحقا من خلال إعادة التواصل مع بيروت، عبر رسول بعثه عن طريق حمص، أن هذا الشخص المجهول لم يكن سوى فرج الله الحلو قائد الحزب، وأنه اعتقل في 25 حزيران/يونيو من قبل المباحث السورية، وأن فرج الله لم يسلمه ولم يش به إلى الجلادين، رغم مرور عدة أسابيع على اعتقاله.
كانت مفاجأة رياض الترك بحجم الأثر، الذي تركه هذا القيادي في نفسه، فهو لم يكن ليتخيل أبدا أن هذا الإنسان الذي بدا وكأنه يلبس قبعة الإخفاء، ويعبر الحدود أسبوعيا، ويحصن الكوادر، ويرفع المعنويات، ما هو إلا قائد الحزب الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو، في الوقت الذي غادرت فيه معظم الكوادر السورية إلى خارج البلد، هربا من البطش، وفي الوقت الذي كان فيه خالد بكداش يعيش مترفا في أوروبا الشرقية.
استمر رياض الترك في قيادة العمل السري في دمشق لعدة شهور، قبل أن تتم مداهمة أحد الاجتماعات التي قصدها، وإلقاء القبض عليه وبحوزته الأوراق الثبوتية اللبنانية. أخضع رياض الترك بدوره لتعذيب وحشي، فقد على إثره حاسة السمع في واحدة من أذنيه، في محاولة للتعرف على شخصيته الحقيقية، ولانتزاع معلومات عن الفرق الحزبية السرية، التي يقودها، دون أي نجاح. كان مستحيلا على رياض الترك أن يتخاذل أو يستسلم، ومثال سعيد الدروبي وفرج الله الحلو ملء عينيه، حتى إن المباحث فشلت في التعرف على اسمه الحقيقي وانتزاعه منه تحت التعذيب، ليتم بعدها نقل رياض الترك إلى سجن المزة، وعرضه على كل المعتقلين الحماصنة من الحزب، في محاولة للتعرف عليه، بسبب لهجته التي دلت على أنه من حمص، إلى أن تم لها ذلك، وأدركت أن رياض الترك وقع أخيرا بين أيديها.
التوتر مع السوفييت وترهات هيكل
بدأت منذ ذلك التاريخ حملة عالمية للمطالبة بكشف مصير فرج الله الحلو ورياض الترك والإفراج عنهما وعن بقية المعتقلين الشيوعيين في سوريا. ويروي محمد حسنين هيكل، في كتابه «سنوات الغليان» الذي أصدره في عام 1989، واستنادا إلى وثائق المخابرات المصرية التي في حوزته، تفاصيل قضية قتل فرج الله الحلو، وتعذيب رياض الترك، حتى قرب من الموت، وتأثيرها على العلاقة المصرية السوفيتية في ذلك الوقت، فكتب أن خروتشوف وقف خطيبا في احتفالات الأول من أيار/مايو من عام 1961 وتحدث عن «أن الشيوعيين العرب، هم المناضلون الحقيقيون من أجل الاستقلال السياسي والاجتماعي، يوضعون في السجون والمعتقلات في الجمهورية العربية المتحدة». وأضاف هيكل أن جريدة «البرافدا» الناطقة بلسان الحزب الشيوعي السوفييتي بدأت بنشر تفاصيل هذه الفظائع، فقالت، والاستشهاد هنا من كتاب هيكل، «إن زعيما شيوعيا هو السيد فرج الله الحلو قد قتل بواسطة وضعه على الخوازيق في سجن المزة في دمشق». وأكد هيكل «أن عبد الناصر بعث ببرقية إلى عبد الحميد السراج يسأل فيها عن هذا الموضوع فكانت المفاجأة أن السراج بعث من دمشق يقول إن الموضوع من أوله إلى آخره ملفق لأن فرج الله الحلو توفي في بيروت قبل سنتين من قيام الوحدة، وأن نعيا مستفيضا له نشر في جريدة الحزب الشيوعي اللبناني، كما إن بيانا رسميا من الحزب عن وفاته صدر عن أمانة سر الحزب الشيوعي اللبناني في حينه، فكيف يأتي ذلك مع ما جاء في جريدة «البرافدا» يوم 9 مايو/أيار 1961».
رفض فرج الله الحلو التعاون مع الجلادين والإجابة على أي من أسئلتهم، واستمر يردد عبارة خائن بحق رفيق رضا إلى أن وافته المنية على أيدي جلاديه.
يتابع هيكل أن «البرافدا» لم تسكت. وانتظرت يومين لتعلن أن زعيما شيوعيا آخر هو السيد رياض الترك قتل في سجون الجمهورية العربية المتحدة». وكانت المفاجأة حسب هيكل أن «صحف لبنان نشرت صورا، وأجرت أحاديث مع رياض الترك، ظهر منها أنه ما زال حيا يرزق، ومازال يمارس نشاطه في بيروت. ونشرت الصحف المصرية نقلا عن الصحف اللبنانية صورا وأحاديث مع السيد رياض الترك، ومع ذلك فإن الحملة لم تتوقف، رغم أن نائب وزير الخارجية المصري استدعى السفير السوفييتي في القاهرة، ولفت نظره إلى هذا التورط الذي وقعت فيه «البرافدا» ووقعت فيه بعدها إذاعة موسكو».
ويضيف هيكل في ملاحظة كتبها كهامش في الصفحة ذاتها، أن الرئيس جمال عبد الناصر، اتصل به يومها وسأله أن يبعث بصورة لرياض الترك إلى رئيس تحرير «البرافدا» ساتيكوف، الذي كانت تربطه علاقة صداقة مع هيكل.
أما قصة صور رياض الترك الملفقة وادعاء الصحف الناصرية أنه لم يمت ولا يزال يمارس نشاطه في بيروت، في محاولة لتكذيب الأنباء، التي كانت تقول إن فرج الله الحلو ورياض الترك قضيا نحبهما في السجون السورية، فقد روى لي رياض الترك شخصيا، كيف أن المباحث اقتادته ذات يوم من سجنه إلى مكاتب وزارة الثقافة، وأدخل إلى قاعة خلف ستارة، وتم سحب الستارة ليجد نفسه في مواجهة عدسات المصورين والصحافيين، فقال لهم فورا إنه رياض الترك، وأنه لا يريد الإدلاء بأي تصريح، لأنه سجين سياسي محروم من حريته. ويومها ظنت أجهزة المخابرات أنها بإثباتها أن رياض الترك حي يرزق، فإنها يمكن أن تصيب عصفورين بحجر، وتشكك في الأنباء التي تحدثت عن مقتل فرج الله الحلو.
وبمعزل عن حجم المغالطات والتحريف في ما كتبه هيكل في عام 1989، ونقله عن أرشيف المخابرات المصرية، فإن «تخريجات» المخابرات السورية – المصرية لم تنطل يومها على أحد، وظهرت الحقيقة كاملة بعد وقوع الانفصال، وخروج رياض الترك حيا يرزق من سجن المزة لا من شوارع بيروت، يحمل آثار التعذيب على جسده، كما تم توقيف أغلب المتورطين في قضية قتل فرج الله الحلو وإحالتهم إلى المجلس العدلي، وتسجيل اعترافاتهم، وصدور أحكام قضائية في حقهم.
المفجع هنا أن هيكل، المشغول دائما بإعادة كتابة التاريخ على أهوائه، كان يكفيه أن يطّلع على محاضر تحقيقات القاضي أحمد زهير العادلي ولائحة الاتهامات في المجلس العدلي والاعترافات والأحكام التي صدرت بتاريخ 30 مايو 1962 عهد الانفصال، حتى يجنب نفسه وقلمه مثل هذه الأكاذيب بحق فرج الله الحلو ورياض الترك.. أكاذيب لا ندري إلى اليوم هل كذبها المصريون على الروس، أم هيكل على جمهور قرائه، أم المحققون على رؤسائهم، أم ضباط المخابرات على وزير داخليتهم، أم الوزير على رئيسه!
من بين آلاف الشيوعيين الذين تم اعتقالهم خلال تلك الفترة، لم يبق في نهاية عهد الوحدة إلا نحو سبعين معتقلا رفضوا التوقيع على تعهد بالانسحاب من الحزب، والتخلي عن قناعاتهم السياسية. رياض الترك كان واحدا منهم، وأمضى عاما وأربعة أشهر في سجن المزة، وأخلي سبيله إلى جانب رفاقه الآخرين بعد وقوع الانفصال في 28 أيلول/سبتمبر 1961.
خرج رياض الترك إلى الحرية، أقوى وأصلب، يحمل درسا في الحياة والوفاء، تعلمه من تجربته مع فرج الله الحلو، ودينا له ولقضية الحرية والكرامة، في سوريا ولبنان وفلسطين، القضية الأساس التي استشهد من أجلها القائد اللبناني. خرج رياض الترك ليستأنف مع العديد من رفاقه في سوريا ولبنان ما كان بدأه فرج الله الحلو من مراجعة مواقف الأحزاب الشيوعية من قبول قرار تقسيم فلسطين، إلى الاستقلالية عن السوفييت، إلى القطيعة مع البكداشية وعبادة الفرد، إلى الانفتاح على طروحات القومية العربية، إلى إعادة الاعتبار لقضية الحرية والديمقراطية في الحياة السياسية، إلى أولوية مواجهة الاستبداد ودولته الأمنية.
كان رياض الترك يردد أمامي كلما أتى الحديث على ذكر فرج الله الحلو، أن هذا القائد هو شهيد قضية الحرية في منطقتنا، وأنه في مكان ما، كان يصارع ديكتاتورية الأسد إلى جانبهم. كنت أستطيب هذه الاستعارة، حتى لو بدت وكأنها آتية من عالم الغيب، وكنت أحاول دائما أن أتلمس معانيها من خلال بعض اللحظات المهمة في ذاكرتي الشخصية، كمثل ذلك اليوم من عام 2001، الذي نزلت فيه سهى بشارة للاعتصام إلى جانب مجموعة من المثقفين والناشطين اللبنانيين في قلب شارع الحمراء في بيروت، وفي عز الوجود السوري في لبنان، للاحتجاج على إعادة اعتقال رياض الترك من قبل نظام الأسد الابن، أو كمثل ذلك اليوم المشؤوم، الذي قتل فيه سمير قصير وخرجنا جميعا في جنازته ننادي بحرية لبنان وديمقراطية سوريا.
لكن هذه الاستعارة، تحولت ذات يوم إلى واقع معاش. في ذلك اليوم من شهر آذار/مارس من عام 2011 صرخ السوريون «الموت ولا المذلة» لا حبا في الموت لكن توقا للحياة. في ذلك اليوم أدركت أن حرية الشعوب لا تذاب في الأسيد، وأن المجاز يمكن أن يصير حقيقة.
كاتب سوري