من خلال الفشل في الدعوة إلى وقف إطلاق النار في غزة طوال خريف العام 2023 ووصولاً إلى شتاء العام 2024، لم تسمح إدارة بايدن للحرب بالانتشار بشكل خطير فحسب، بل شجعت الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة أيضًا على زيادة قمعها وتدميرها للمجتمعات الفلسطينية بشكل كبير، بما في ذلك في الضفة الغربية والقدس الشرقية. وإذا كان بايدن غير قادر على المطالبة بإنهاء الحرب في وقت يشهد إجماعًا شبه عالمي على الحاجة إلى وقف إطلاق النار، وحيث تدعم مثل هذه الخطوة أغلبية واضحة من الأميركيين -حوالي ثلاثة من كل خمسة، وفقًا لاستطلاع رأي أجري في أواخر كانون الأول (ديسمبر)- مثل هذه الخطوة، فإنه لن يكون قادرًا على وضع الولايات المتحدة في موقف يوفر قيادة جريئة لما يسمى “اليوم التالي”.
لكنَّ وقفًا لإطلاق النار وحده لا يكفي لإنهاء سلوكٍ غير قانوني على الإطلاق. وكانت التجاوزات في الحرب على غزة متطرفة حتى أنها تركت القانون الدولي، بالنسبة للعديد من المراقبين الدوليين، ممزقًا وفي حالة يرثى لها. وكانت إحدى النتائج عزل واشنطن وتقويض ادعائها بالدفاع عن المعايير الدولية والنظام الدولي الليبرالي. وتشير حقيقة أن جنوب أفريقيا، وهي من قادة الجنوب العالمي، اتهمت إسرائيل بالتهمة الاستثنائية المتمثلة في الإبادة الجماعية أمام “محكمة العدل الدولية”، إلى المدى الذي لم تعد فيه أجزاء كثيرة من العالم تتماشى مع رغبات واشنطن وحلفائها الغربيين، مما يقوض قيادة الولايات المتحدة في المؤسسات الدولية. وفي الحكم الأولي الذي صدر في 26 كانون الثاني (يناير)، قررت المحكمة الدولية أن بعض الأعمال الإسرائيلية المزعومة في غزة تشكل انتهاكات معقولة لاتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية. وعلى الرغم من أن المحكمة لم تطالب بوقف إطلاق النار، إلا أنها أمرت بمجموعة شاملة من الإجراءات التي يجب على إسرائيل اتخاذها للحد من الضرر الذي يلحق بالمدنيين الفلسطينيين. وإذا استمرت واشنطن في دعمها غير المشروط لإسرائيل في غزة من دون مطالبتها بالالتزام بهذه التدابير، فإنها ربما تبدو أكثر تواطؤا في الحرب. ولذلك، من الضروري أن تدعم الولايات المتحدة المساءلة الدولية عن جرائم الحرب المزعومة لجميع الأطراف.
بعد وقف إطلاق النار، يجب على الولايات المتحدة أن تكون جادة بشأن دفع إسرائيل إلى تغيير مسارها. وحتى الآن، قوبلت جهود صناع السياسة الأميركيين لوضع خطة لغزة ما بعد الحرب بالرفض المتكرر من قبل المسؤولين الإسرائيليين. وقد رفضت إسرائيل فكرة إعادة “السلطة الفلسطينية” إلى غزة، وهي الفكرة التي تشكل حجر زاوية في الاستراتيجية الأميركية الحالية. وبدلاً من ذلك، يتحدث السياسيون الإسرائيليون صراحة عن استعادة المستوطنات غير القانونية وإنشاء منطقة عازلة في شمال غزة، ويبدو أنهم عازمون على إجبار أعداد كبيرة من الفلسطينيين على الخروج من القطاع -وهي كلها تصورات تنتهك الخطوط الحمراء الأميركية الصريحة. وفي الوقت نفسه، تجاهلت حكومة نتنياهو بشكل منهجي حتى أكثر الطلبات تواضعًا للتقليل من قتل المدنيين الفسطينيين، والسماح بإيصال المساعدات الإنسانية، والتخطيط لغزة ما بعد الحرب، والمساعدة في إعادة بناء “السلطة الفلسطينية”. ويبدو من المرجح أن تنتهي استراتيجية إسرائيل الحالية إما بالطرد الجماعي لسكان غزة، أو بحملة دائمة لمكافحة التمرد، والتي ستكون مكلفة وعنيفة. وقد عارضت الولايات المتحدة بشدة الخيار الأول، تماشيًا مع المواقف التي أعرب عنها حلفاؤها في الأردن ومصر بقوة، ولأن الحملة المذكورة ستزيد الأمور سوءًا فحسب كلما طالت مدة بقاء القوات الإسرائيلية في غزة. لكن إدارة بايدن رفضت فرض أي عواقب لمحاولة إجبار إسرائيل على قبول هذه المطالب.
للتغلب على التعنت الإسرائيلي، يجب على الولايات المتحدة أن تتوقف عن حماية إسرائيل من عواقب انتهاكاتها الجسيمة للقانون الدولي والأعراف الدولية في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى. ويمكن لمثل هذه الخطوة في حد ذاتها أن تبدأ نقاشا سياسيا أساسيا داخل إسرائيل وبين الفلسطينيين، وهو ما يمكن أن يفتح بدوره إمكانيات جديدة. وفي الوقت نفسه، يجب على البيت الأبيض أن يربط تقديم المزيد من المساعدات لإسرائيل بالتزام الأخيرة بالقانون الأميركي والمعايير الدولية، وأن يشجع جهودًا مماثلة في الكونغرس بدلاً من معارضتها. كما يجب أن تُصدر الإدارة الأميركية تعليمات إلى الوكالات الحكومية الأميركية بضرورة اتباع القانون والقواعد الدولية لدى تقديم المساعدة لإسرائيل بدلاً من البحث عن طرق مبتكرة لانتهاكها.
في الواقع، أدى إحجام بايدن عن ربط المساعدات العسكرية لإسرائيل بحقوق الإنسان -أو حتى بالقانون الأميركي- إلى تحركات غير عادية اتخذها أعضاء حزبه. ولنتأمل هنا القرار الذي اقترحه في كانون الأول (ديسمبر) السناتور الديمقراطي كريس فان هولين و12 من زملائه، والداعي إلى ربط تقديم مساعدات عسكرية تكميلية لإسرائيل وأوكرانيا بشرط استخدام الأسلحة وفقًا للقانون الأميركي والقانون الإنساني الدولي وقانون النزاعات المسلحة. وبالمثل، اقترح عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فيرمونت، بيرني ساندرز، وهو سيناتور مستقل، قرارًا من شأنه أن يجعل المساعدات العسكرية لإسرائيل مشروطة بمراجعة وزارة الخارجية الأميركية لانتهاكات حقوق الإنسان المحتملة في الحرب. لكنّ من غير المرجح، كما اتضح فعليا مع هزيمة اقتراح ساندرز في كانون الثاني (يناير)، أن تنجح مثل هذه الجهود من دون قيادة رئاسية، وخاصة في عام انتخابي يتردد فيه الديمقراطيون في الكونغرس في تقويض الآفاق الانتخابية لرئيسهم الذي لا يحظى بشعبية مسبقًا. وحده البيت الأبيض يمكنه أن يتولى القيادة بنجاح في هذه المسألة.
قواعد للواقع
من المفارقات أن الصدمات التي عانى منها الفلسطينيون والإسرائيليون منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) أظهرت الحاجة الملحة إلى حل على أساس دولتين -وعدم احتمالية تطبيق مثل هذا الحل. ما يزال بإمكان البيت الأبيض أن يحاول، إذا كان على استعداد لاستخدام العضلات الأميركية لإعادة فتح الطريق إلى دولة فلسطينية. ولكن لا شيء في نهجه الحالي يشير إلى أنه سيفعل أكثر من مجرد الاستمرار في الإعلانات الخطابية عن الهدف بينما يتم في الحقيقة تمكين الواقع المروع.
يمكن أن يؤدي ألم وصدمة الحرب لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين إلى دفع عمليات إعادة تقييم داخلية -وإلى صعود قيادات جديدة- على كلا الجانبين في وقت لا يعرض أي نتيجة جيدة أخرى في الأفق. ربما يكون بايدن قادرًا على حشد الدول العربية لتطبيع العلاقات مع إسرائيل كما يريد البيت الأبيض بشدة، بشرط أن توافق إسرائيل على عملية تفضي إلى الدولتين. ولكن يبدو أن قلة من الفلسطينيين، أو الأطراف الأخرى التي قد تكون متورطة في مثل هذه الخطة، يمكن أن تثق بالقيادة الأميركية، بالنظر إلى سجل الإدارة الأميركية خلال الحرب وقبلها. لقد أصبحت المصداقية الأميركية في الشرق الأوسط في أدنى مستوياتها على الإطلاق.
في هذا المنعطف، سوف تحتاج أي مبادرة تقوم على حل دولتين إلى تحقيق نتائج ملموسة ومسبقة حتى تكون لها فرصة للنجاح. وسوف يتعين ترجيح هذه الفوائد الملموسة بشكل أكبر لصالح الفلسطينيين، بالنظر إلى فداحة ظروفهم القاسية. وعلى سبيل المثال، يمكن لبايدن أن يعترف على الفور بدولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأن يلتزم بعدم الدفاع عن المستوطنات الإسرائيلية في الأمم المتحدة، وأن يجعل المساعدات العسكرية لإسرائيل مشروطة بالتزام إسرائيل بالقانون الدولي والامتناع عن ارتكاب أي أعمال تقوض الدولة الفلسطينية. ويمكن للولايات المتحدة أيضًا أن تتعهد بضمان الأمن الإسرائيلي داخل حدود إسرائيل المتفق عليها دوليا. لكن من المستبعد جدا أن تقبل إسرائيل أيا من هذه الشروط، ولا يوجد في تاريخ بايدن ما يشير إلى أنه قادر على ممارسة الضغط اللازم لفرضخت.
سوف يدّعي المدافعون عن ضرورة الدفع المتجدد نحو حل الدولتين أنه الخيار الأكثر واقعية. ومن الواضح أنه ليس كذلك. بغض النظر عن الكيفية التي ستنتهي بها الحرب في غزة، من غير المحتمل أن يكون حل دولتين -أو حل دولة واحدة عادل، إذا كان ذلك يهُم- معروضًا من الأساس. في الواقع، لا يوجد أي مسار فوري للمضي قدمًا من دون التصالح أولاً مع واقع الدولة الواحدة الأكثر قتامة الذي كرسته إسرائيل. ولذلك، يجب ألا تركز سياسة الولايات المتحدة على الجهود غير المعقولة لإحياء المحادثات حول نتائج غير قابلة للتحقيق، بل يجب أن تركز بقوة على توضيح المعايير القانونية ومعايير حقوق الإنسان التي تتوقع الوفاء بها. يمكن لواشنطن استخدام قوتها لمعارضة الشروط والسياسات التي لن تدعمها، سواء كان ذلك يتعلق بطرد الفلسطينيين من غزة، أو استمرار الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، أو استمرار وتعميق نظام الإدارة العسكرية على طريقة الفصل العنصري في المناطق الفلسطينية. يجب توضيح تلك الحدود، ويجب إنفاذها. ويجب على الولايات المتحدة دعم آليات العدالة الدولية والمساءلة عن جرائم الحرب وتطبيقها على جميع الأطراف. وينبغي أن تطالب بالالتزام بالقانون الدولي لحقوق الإنسان والمعايير الدولية في معاملة جميع الأشخاص الخاضعين للسيطرة الإسرائيلية الفعلية، سواء كانوا مواطنين إسرائيليين أم لا. ويجب أن ترفض مواصلة العمل كالمعتاد مع أي حكومة إسرائيلية تنتهك هذه المعايير.
من خلال وضع حدود قانونية ملموسة للوضع الحالي، ستستعيد الولايات المتحدة بعض المصداقية التي فقدتها في الشرق الأوسط والجنوب العالمي. ومن خلال جعل الواقع الحالي أكثر انسجامًا مع القانون الدولي، يمكن لواشنطن أن تبدأ في خلق الظروف التي يمكن أن يظهر فيها مشهد سياسي أفضل ذات يوم. لقد حان الوقت لكي تتحمل حكومة الولايات المتحدة مسؤولية النهج الفاشل الذي أدى إلى اندلاع هذه الحرب المدمرة. فقد أدت عقود من إعفاء إسرائيل من اتباع المعايير الدولية مع متابعة الحديث الفارغ والذي بلا أسنان عن مستقبل دولتين غير قابل للتحقيق إلى تقويض مكانة الولايات المتحدة بشدة في المشهد العالمي. ويجب على واشنطن التوقف عن استخدام قوتها لتمكين الانتهاكات الصارخة للحقوق والمعايير الدولية. وإلى أن تفعل، سوف يستمر الوضع الراهن غير العادل وغير الليبرالي بشكل عميق، وسوف تكون الولايات المتحدة بصدد العمل على إدامة المشكلة بدلاً من حلها.
*مارك لينش Marc Lynch: أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن. متخصص في شؤون الشرق الأوسط، خاصة شؤون الإسلاميين والعراق وفلسطين، وهو مؤلف كتاب “أصوات الشعب العربي الجديد” من منشورات (دار جامعة كولومبيا للنشر، صدر في كانون الأول (ديسمبر) 2005. بدأ مبكراً في التعرف علي الوطن العربي الذي عاش فيه ثلاث سنوات في بداية التسعينيات متنقلا بين عمان والقاهرة، وله رؤية حول ضرورة دمج الإسلاميين في الحياة السياسية في المجتمعات العربية. ينشر كتاباته في مجلة “فورين أفيرز”.
*شبلي زكي تلحمي Shibley Telhami (1951): أستاذ جامعي في العلوم السياسية، أميركي من أصل فلسطيني من فلسطينيي 1948. أستاذ كرسي أنور السادات للسلام والتنمية في جامعة مريلاند، كوليج بارك، وزميل غير مقيم في مركز صبان لسياسات الشرق الأوسط في معهد بروكنجز. وباحث ومحلل سياسي. عمل مستشارًا للبعثة الأميركية في الأمم المتحدة (1990-1991)، ومستشارًا لعضو الكونغرس السابق لي هاملتون، وعضوًا في وفد الولايات المتحدة إلى اللجنة الثلاثية الأميركية الإسرائيلية الفلسطينية، التي انتدبت حسب اتفاقية “واي ريفر”، من بين الكثير من المناصب والعضويات الأخرى.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Two-State Mirage: How to Break the Cycle of Violence in a One-State Reality