هتف متظاهرون في مدينة بنش ضد قائد هيئة «تحرير الشام» الجولاني ما يشير إلى حجم الشقاق بينه وأنسبائه في بنش الذين ظلوا فترة أحد أقوى الأجنحة المالية والعسكرية.
في ذكرى انطلاقة الثورة السورية الـ13في شمال سوريا، تشاطر رئيس النظام السوري بشار الأسد وقائد هيئة «تحرير الشام» دعوات الرفض والسخط.
وشهدت محافظة إدلب وجوارها حالة من التوتر بسبب ما عرف بقضية العملاء، وهي الحملة التي أطلقها جهاز الأمن العام في «تحرير الشام» والتي أعقتل على إثرها ما يقارب 800 من القادة العسكريين والعناصر، وطالت الحملة القيادي العراقي ميسر الجبوري الملقب «أبو ماريا القحطاني» وهو أكثر الشخصيات المعروفة بتلونها وخداعها في الهيئة وهو الأقرب للجولاني منذ تأسيس فرع سوري لتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق» باسم «جبهة النصرة لأهل الشام» وتعيين السوري أحمد الشرع الملقب أبو محمد الجولاني قائدا عاما لها.
مع بدء إطلاق سراح القادة العسكريين من السجون، انفجرت قصص التعذيب والإهانات وشتم المعتقلين بأعراضهم وتجاوزات وصلت حد أن يُتهم البعض بأعراضهم. وهو ما خلق حالة غضب عارمة انعكست كمظاهرات غاضبة طالبت بإسقاط الجولاني، وسارع الأخير إلى اعتقال اثنين من المحققين الذين تورطوا بإهانات المعتقلين، هما شادي المولوي وجمال الحسون الملقب أبو الجماجم.
وفي محاولة امتصاص الغضب، سارع الجولاني لعقد عشرات الاجتماعات يوميا إضافة إلى اجتماعات موسعة في معبر باب الهوى الحدودي، ضمت أعضاء مجلس الشورى العام الذي ينتخب حكومة الانقاذ والعشرات من الوجهاء ورجال الدين والنشطاء، كما وجهت دعوات لنشطاء غير مقربين من الهيئة وبعضهم على غير وفاق معها، الأمر الذي انعكس على رفع سقف المطالب التي وصلت إلى إقالة الجولاني نفسه أو بناء شكل قيادي جديد مختلف عن الحالي.
وحول نتائج الاجتماعات، حصلت «القدس العربي» على وثيقة نصت على مخرجات اللقاءات التي تم تناقلها ضمن أوساط قيادة «تحرير الشام».
مجلس استشاري أعلى
ونصت الوثيقة التي حملت عنوان «مخرجات اجتماع القوى الثورية والمؤسسات العامة وفعاليات المجتمع المدني في المناطق المحررة» على تشكيل مجلس استشاري أعلى من أهل الشوكة والرأي والاختصاص للنظر في السياسات العامة والقرارات الاستراتيجية في المناطق المحررة (تسيطر عليها المعارضة). إضافة إلى إعادة تشكيل جهاز الأمن العام ضمن وزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ السورية. ما يعني إبعاده عن سلطة تحرير الشام المباشرة، والدعوة لانتخابات مجلس الشورى العام في المناطق المحررة وإعادة النظر في القانون الانتخابي وتوسيع التمثيل للأهالي والشرائح والفعاليات، وتعزيز الدور الرقابي لمؤسسة الشورى لتحقيق ضبط وكفاءة ونزاهة المؤسسات التنفيذية العاملة على الأرض.
وأكدت الورقة على تشكيل ديوان المظالم والمحاسبة وتشكيل جهاز رقابي أعلى، وتفعيل دور المجالس المحلية والنقابات المهنية.
هذه تبدو أهم المطالب الجديدة والأكثر فاعلية من مطالب أخرى تتعلق بفتح المعارك ضد النظام بهدف استعادة الأراضي التي سيطر عليها منذ اتفاقية خفض التصعيد عام 2018 وصولا إلى عام 2021 وإعادة المهجرين إليها. فالجولاني نفسه لم يعد صاحب قرار الحرب أو السلم، ويدرك هو وكل القادة العسكريين في الشمال أن نقاط التماس الداخلية مرسومة بتوافقات دولية لا هم ولا النظام قادر على خرقها في المرحلة الحالية.
ليل الخميس، حذر أبو عدنان الزبداني قائد الفرقة 77 في الجبهة الوطنية للتحرير والتي تشكلت قبل أيام بعد اندماج تجمع أبناء دمشق والفرقة 40 من ممارسات قيادة تحرير الشام في شمال غرب سوريا معتبرا أنها «ستؤدي إلى الانفجار».
وطالب في كلمة مصورة وصلت «القدس العربي» أن تكون كلمة الشعب السوري «مسموعة» وخاطب قيادة الهيئة «كل يوم تتأخرون بالنزول إلى مطالب الشعب لا شك أنكم ستدفعون ثمنه غاليا فلا طاقة لأحد بالوقوف بوجه الشعوب إذا ثارت والعاقل من اتعظ بغيره». وأشار إلى انه هدف الناس هو أن «تبتعد هذه القيادة عن المشهد فإن وجودها قد أوصلنا إلى ما وصلنا إليه» وحث الزبداني على «التحام العسكريين والأكاديميين والمشايخ وباقي أطياف الشعب في هذه المرحلة هو صمام الأمان للنجاة». وحول فرضية عدم وجود بديل عن الجولاني لقيادة الهيئة والشمال السوري أشار إلى أن «الثورة مليئة بالمفكرين والكوادر والعقول والقيادات ويتسائل البعض عن البديل، والذي يحول تصدر هولاء هم المستبدون».
وفي التداعيات اصطفت قيادة حركة أحرار الشام الإسلامية- جناح حسن صوفان مع الجولاني بشكل واضح، وقال زعيم الحركة الحالي عامر الشيخ خلال الاجتماعات التي كانت مصورة ومفتوحة لعدد من الإعلاميين، قال إن ما حصل في الآونة الأخيرة نتاج ظلم ونحن مع رفع الظلم، ولكنه حذر من التغيير كما يطرحه الشارع/ المتظاهرون فهو «تغيير جذري في كل المحرر. وأول أثر سلبي ينعكس على الواقع العسكري الحالي». وأعرب الشيخ عن موافقته على مخرجات الجلسة سلفا قبل انتهائها.
ونشر حسن صوفان القائد السابق للحركة كلمة مكتوبة طويلة في ذكرى انطلاقة الثورة السورية، خص التطورات الأخيرة بعدة مقاطع، أبرزها أنه وصف «الذين يجهدون أنفسهم بالتحريض الخارجي على الهيئة يفوتهم أنهم ينفذون عن غير قصد أجندات العدو فتداعيات معركة غزة بدأت لتوها، ولن تنتهي في فترة قريبة بل أطلقت العنان لسلسلة من التداعيات التي ستمس المحرر بشكل مباشر» حسب وصفه، وسَلّم صوفان بأن «ما جرى مع الهيئة هي مؤامرة خارجية وحرب ناعمة لإزالة هذا المكون أو انه من جراء عوامل ذاتية شرعية وكونية» وأبقى باب الخلاف معه مفتوحا حول مسلمته، إلا أنه قطع بعدم الاختلاف «على ان النظام الأسدي ونظام الملالي والعدو الروسي لن يفوتوا فرصة حصول أي اضطراب في المناطق المحررة لاضعاف الثورة وربما انهائها».
الإيقاع بين الهيئة والحليف التركي
وفي إطار منفصل، لفت صوفان إلى أن الذين «يسعون إلى الإيقاع بين الهيئة والحليف التركي يفوتهم أيضا انهم ينفذون أجندات أعداء تركيا الذين يريدون أن تموج المناطق المحاذية لتركيا بالاضطرابات والفوضى لأن ذلك يهدد الأمن القومي التركي ويخلط جميع الأوراق على الطاولة».
والجدير بالذكر أن الشيخ السلفي حسن صوفان خرج بصفقة تبادل بعد حصوله على عفو خاص من بشار الأسد نهاية عام 2016 بعد سجن دام 12 عاما في معتقل صيدنايا الرهيب. وسرعان ما انضوى في «أحرار الشام» وأصبح زعيمها رغم أنه لم يكن ضمن الجماعة داخل سجن صيدنايا والتي خرجت وأسست كتائب أحرار الشام الإسلامية ومن ثم الحركة.
في سابقة من نوعها، هتف متظاهرون في مدينة بنش شرق إدلب ضد قائد هيئة «تحرير الشام» أبو محمد الجولاني وهو ما يشير إلى حجم الشقاق بين الجولاني وأنسبائه في بنش والذين ظلوا فترة غير قليلة أحد أقوى الأجنحة المالية والعسكرية حيث يقودون لواء طلحة وهو أحد الألوية التي ترابط على الجبهات مع النظام شرق إدلب ويعتبر أحد الألوية الصغيرة نسبيا في الجناح العسكري. وكان الجولاني قد اتجه لقصقصة أذرع المقربين منه وخصوصا «جماعة أبو حفص بنش» وتقريب آخرين من ريف دمشق سعيا إلى إحداث توازن داخل الجناح العسكري والأمني في الهيئة بعد «قضية العملاء».
وفي إطار الحزم والتهديد المبطن، قال الجولاني في أحد اللقاءات إن المحرر لا يتحمل ساعتين بدون قيادة، وجاء حديثه ردا على المطالبات بإقالته بعد المظاهرات خلال الأسبوعين الأخيرين. ونشر جهاز الأمن العام العشرات من عناصر المهام الخاصة صباح الجمعة في ساحة السبع بحرات وسط مدينة إدلب المكان المعتاد للاحتفال بذكرى انطلاقة الثورة السورية. وكذلك عززت الهيئة الحواجز العسكرية بين المدن وشهدت أغلب المناطق انتشارا أمنيا لكن لم يصاحب بعنف أو اعتقال أو احتجاز ويبدو أن الغرض منه الترهيب فقط. وهو ما جعل المشاركين في المظاهرة التي حددها المطالبون بإسقاط الجولاني في منطقة الساعة وسط السوق التجاري لمدينة إدلب.
وفي إطار استعراض القوة، بثت قوة من كتائب خالد بن الوليد، وهي إحدى قوات الانغماسيين الخاصة في الجناح العسكري لـ«تحرير الشام» كلمة مصورة نشرتها وكالة «أمجاد» التابعة للهيئة، عبر حسابها الرسمي على تطبيق «تلغرام» وقال المتحدث الذي لم يُذكر اسمه إن الكتائب «جددت العهد لقادة المحرر ودعمت مطالب الأهالي التي ترقى بالمؤسسات القائمة» وحذرت من «خطورة الانجرار إلى مستنقع الفوضى الذي يعيدنا إلى الوراء».
واستبق الجولاني ذلك بالتهديد صراحة، في جلسة علنية، الثلاثاء، قال خلالها إن «هناك خطوطا حمراء يجب أن يعيها الجميع، أرجو ألا يصل أحد إليها، وأرجو أن توقفوا من يسعى لخراب المحرر، لأنه إذا تدخلنا لحماية المحرر سنتدخل بشكل شديد، ولن نسمح لأحد على الإطلاق بأن يمس المحرر بسوء، وما وصلنا إليه من مكتسبات لن نعود فيها إلى الوراء على الإطلاق، لذلك انتبهوا وحذروا الناس، لأن ما بني في سنوات لن نسمح له أن يهدم على الإطلاق، فهو بني على دماء وأشلاء أناس ضحت».
بالطبع فإن سيرة الجولاني تشير إلى مقدرة عالية لديه على خديعة كل من عرفه ووثق به أو أوكله أمرا لدرجة انه سن سننا جديدة في أعراف التنظيمات الجهادية الدولية واخترع طرائق للتنصل من البيعة لقادته، بل أكثر من ذلك فقد تحول لوكيل أمني للقضاء على تنظيم «حراس الدين» الموالي للقاعدة.
ولعل اللحظة الحالية تكون سحابة صيف مقارنة بوضع «جبهة النصرة» عقب الحرب التي شنتها فصائل الجيش الحر ضد تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» في شمال سوريا، حيث تخلى مئات المقاتلين عن الجولاني والتحقوا بتنظيم «الدولة». فيما يعتقد أن من بقي في «جبهة النصرة» لا يتجاوز المئات، وكادت «الجبهة» أن تنتهي لولا مساندة قائد حركة «أحرار الشام» الإسلامية حسان عبود للجولاني وإرسال 300 بندقية له ومنحه مبلغا ماليا كبيرا استطاع بعده الحفاظ على تماسك تنظيمه، ويرجح أن السبب بدعم عبود هو استشعاره خطر ازدياد نفوذ فصائل الجيش الحر وتحسس رقبته وأن حركته التي كانت على عداء واضح مع فصائل الجيش الحر المحلية في كثير من المناطق قد تكون الهدف التالي لفصائل الجيش الحر، فأراد تقوية «النصرة» كي تبقى عونا له في قادم الأيام. إلا أن عبود قُتل مع أغلب قادة أحرار الشام بعملية أمنية غامضة في قربة رام حمدان شمال إدلب في أيلول (سبتمبر) 2014. وكان الجولاني أكثر المستفيدين من تصدع «أحرار الشام» حيث بدأ بالقضاء على فصائل الجيش الحر واستئصالهم واحدا تلو الآخر، وتوضح استراتيجيته أنه واحد من أكثر القادة براغماتية ودموية في نفس الوقت، فهو لا يوفر فرصة للقضاء على فريسته أي كانت ومن ثم يأتي العذر والتبرير الشرعيين. ولعل محاججته يوما حول موقف الحاضنة الشعبية من إجرامه بحق فصائل الثورة وناشطيها وقوله «أنا بمخففة واحدة أنسي الحاضنة ما حصل» هو عنوان عريض يمكن من خلاله إدراك شخصيته.