صورة وزعتها موسكو للدواعش الأربعة منفذي الهجوم على الحفل (أ ف ب)
يشكل الهجوم الارهابي الأخير على قاعة كروكوس للاحتفالات في موسكو حدثاً أمنياً مهماً على صعد عدة. فهو من ناحية أعاد تثبيت وجود تنظيم “داعش خراسان” كمنظمة إرهابية عابرة للحدود قادرة على توجيه ضربات في عقر دار قوة عظمى مثل روسيا، ومن ناحية أخرى، أظهر تلاقي مصالح قوى عدة مع هذا التنظيم الذي لا يبدو أن أجهزة الاستخبارات الدولية تعلم الكثير عن هيكلية قيادته وآلية عمله. كما شكل الهجوم أداة إعلامية قوية للقيادة الروسية لتستخدمها داخلياً لتجييش الرأي العام ضد أوكرانيا وربطها بالإرهاب الإسلامي. ولعل الهجوم يتيح فرصة للقيادة الروسية لتنفيذ استراتيجية جديدة في الحرب ضد أوكرانيا تؤدي إلى حسم طال انتظاره.
أعلن تنظيم “داعش” مسؤوليته عن العملية عبر قناته الخاصة “أعماق” التي بثت أشرطة فيديو أرسلها منفذو العملية من داخل القاعة توثق عمليات القتل الوحشية ضد المدنيين. وهذا يثبت أن التنظيم كان على تواصل مباشر مع الإرهابيين الأربعة الذين ألقت السلطات الروسية القبض عليهم أحياء. ارتباط الإرهابيين بتنظيم “داعش” هو أمر غير مشكوك فيه بحكم الوقائع الظاهرة حتى الآن. لكن تبقى تساؤلات من بعض المراقبين حول مكان هذا الهجوم وزمانه. فهل هذا التنظيم يتصرف لخدمة أهداف جهات استخبارية؟ وهل بات وكالة لتنفيذ عمليات اغتيال وقتل جماعي مقابل المال؟
القيادة الروسية لم تنتظر انتهاء التحقيقات، بل عمدت من الساعات الأولى إلى ربط الاستخبارات الأوكرانية بهذه العملية، والدليل الوحيد الذي قدمته هو أنه تم القبض عليهم في محافظة بريانسك التي تقع على الحدود مع أوكرانيا. لكنها أيضاً قرب حدود روسيا البيضاء التي يمكن أنها كانت وجهة الإرهابيين الأربعة.
وبدأت بعض القيادات الروسية تصف المواجهة مع أوكرانيا على أنها حرب بعدما كانت تستخدم مصطلح “العملية الخاصة”. ولا تحظى الحرب مع أوكرانيا بدعم جميع الروس. فهناك فئة ليست صغيرة من الشعب تعارض هذه الحرب التي أدت إلى مقتل وجرح عشرات آلاف الشباب الروس وخسائر اقتصادية بالمليارات. كما تحاول روسيا تصوير أوكرانيا على أنها واجهة لعدوان لحلف شمال الأطلسي بقيادة أميركا ضدها وضد ثقافتها. ويشكل الهجوم الإرهابي الأخير فرصة لتشويه صورة أوكرانيا وأميركا عبر ربطهما بتنظيم “داعش”، وربما تبرير تصعيد العمليات ضد أوكرانيا إلى مستوى حرب شاملة. ففي حالة الحرب يستطيع الكرملين استدعاء أعداد أكبر من الاحتياط وفرض قوانين عرفية واستخدام أسلحة نووية.
الجهة التي تؤيد الرواية الروسية تعتقد أن استخدام “داعش” لضرب موسكو يظهر القيادة الروسية على أنها عاجزة عن حماية شعبها ويعزز الانقسامات الداخلية بما يهدد النظام، وتتوقع هذه الجهات هجمات إرهابية أخرى في المرحلة المقبلة. أوكرانيا نفت ضلوعها في هذا الهجوم، وتدّعي أن الاستخبارات الروسية قد تكون وراءها من أجل تبرير أخذ خطوات تصعيدية كبيرة في الحرب ضدها. وإذا ما تم تحليل وجهات النظر هذه نجد أن لكل منهما أسساً منطقية رغم أنها تفتقر إلى الأدلة الدامغة. وأي من هاتين النظريتين تعتبران “داعش” تنظيماً ينفذ عمليات غب الطلب لجهات استخبارية مقابل أموال. وهذا من وجهة نظر مؤيدي أي من النظريتين يفسر العشوائية في عمليات “داعش” التي ضربت في أفغانستان ومن ثم في باكستان وثم في إيران وبعدها في سوريا والآن في روسيا. فهي تعمل كقوة مرتزقة تخدم من يدفع لها، بحسب اعتقادهم.
لكن تبقى هناك احتمالية كبيرة بأن “داعش” يبحث عن الفرص ومواطئ الضعف في المساحات المحيطة به بهدف تحمية الصراعات الدولية وزيادة حجم الفوضى والانقسامات على الساحة الدولية. فتنظيم كهذا يريد تقويض منظومة الحوكمة العالمية القائمة وإيجاد شرخ بين الحضارات والقوى العظمى، الأمر الذي يخلق فراغات في مناطق عدة تسمح له بأن يوسع نشاطاته ويبقيه كلاعب مؤثر بانتظار الفرصة المناسبة لإحياء مشروع دولته.
فالقوى العقائدية الدينية المسلحة تقوى وتنتعش في حالات الحروب والفوضى وضعف منظومات الحكم من حولها أو انهيارها، وهو أمر ينطبق على “داعش” أيضاً ويجب عدم نفي هذه الفرضية والتنبه لها. وبما أن لهذه المجموعات غايات سياسية وجودية، فإن أهداف بعض عملياتها قد تتقاطع مع مصالح قوى كبرى.
مثلاً الهجوم في موسكو يظهر أنه يخدم أعداء روسيا في الخارج مثل أميركا وأوكرانيا، فيما هجوم لـ”داعش” على قاعدة أميركية قد يجد بعضهم أنه يخدم مصالح روسية أو صينية أو إيرانية. كما أن هجوماً لـ”داعش” في إيران يظهر وكأنه يتقاطع مع مصالح إسرائيلية وأميركية. هذا في وقت قد تكون هجمات “داعش” هذه لخدمة غايات خاصة بأجندة التنظيم الدولية.
أما وأن القيادة الروسية قد تبنت رواية مسؤولية أوكرانيا عن هجوم “داعش”، فهذا يستوجب ترقب خطوات موسكو المقبلة. فهي أصلاً في حالة حرب شرسة مع أوكرانيا وعلى جبهات القتال كافة، وهي أيضاً في وضعية الهجوم وقد تمكنت خلال الشتاء الفائت من احتلال مواقع عدة جديدة على الجبهة الشرقية وتوجه ضربات صاروخية يومية في العمق الأوكراني. ولقد استخدمت روسيا منذ بداية الحرب كل أنواع الأسلحة التقليدية التي في حوزتها. لكنها لم تتمكن من إحراز نصر حاسم بسبب الدعم الغربي الكبير لأوكرانيا الذي مكّن الأخيرة من استرجاع مساحات واسعة من الأراضي والصمود عسكرياً واقتصادياً.
لكن الانقسام الداخلي في أميركا وشن إسرائيل الحرب على قطاع غزة أثرا كثيراً على تدفق الأسلحة الأميركية إلى أوكرانيا، ما شكل انتكاسة لقواتها على جبهات القتال حيث باتت تفتقر إلى الذخائر والصواريخ لصد الهجمات الروسية أو لشن هجمات مضادة. وتعمل القيادة الأوكرانية حالياً على إنشاء خطوط دفاع متتالية وثابتة لصد الهجمات الروسية التي يتوقع أن تتصاعد في الصيف المقبل. فأوكرانيا تحاول الآن التأقلم مع واقع شح المساعدات الأميركية والتي ستعمل بعض الدول الأوروبية على التعويض عنها في مجال ذخائر المدفعية والصواريخ المضادة للطائرات.
هذا الواقع المستجد يعتبر فرصة ذهبية لموسكو لتصعيد حملتها العسكرية عبر الزج بأعداد أكبر من الجنود على جبهات القتال واستخدام الذخائر والصواريخ التي توفرها مصانعها، بالإضافة إلى الذخائر والصواريخ والمسيرات الهجومية من إيران وكوريا الشمالية والصين. والرئيس الروسي فلاديمير بوتين يدرك اليوم أن المقاربة التي استخدمها في شن الهجوم على أوكرانيا قبل ثلاثة أعوام لم تعد تجدي، وأنه بحاجة إلى استراتيجية جديدة تأخذ بالاعتبار الواقع الميداني والمتغيرات الجيوسياسية. فهو لا يريد الاستمرار في حرب استنزاف تكلفه أكثر مما تكلف خصمه، بل يريد أن يعكس الواقع ليسرع الحسم لمصلحته. والهجوم الإرهابي الأخير في موسكو يوفر أداة لبوتين لتصعيد الحرب وأخذها باتجاه يوفر فرص نجاح أكبر لروسيا في حربها مع أوكرانيا وصراعها مع الغرب.