اسم مستوحى من عبارة “أسود تقودها حمير” خلال الحرب العالمية الأولى
ثمة في بعض زوايا الانتخابات العامة في بريطانيا أجواء مفعمة بالحماسة والإثارة، ولكن ليس بين أنصار حزب “المحافظين” الذين تمخض تفكيرهم عن أفضل تكتيكاتهم وهو اتهام زعيم حزب “العمال” السير كير ستارمر بالكسل. ولا تنقص هذا الاتهام الجرأة من الحزب الذي كان لديه في السابق رئيس وزراء (بوريس جونسون) يجد في تمشيط شعره عملا شاقا للغاية. أما حزب “العمال” فيمور بالإثارة، مدعومة باستطلاعات الرأي التي تتنبأ بانتصاره الساحق. ويشارك الديمقراطيون الليبراليون في هذه الإثارة، بقيادة زعيمهم النشيط إد ديفي.
ومع ذلك، لا شيء من هذا يقارن بالحماسة التي سادت حزب “الإصلاح” في المملكة المتحدة، حيث احتل نايجل فاراج، الشعبوي المعروف بالإكثار من شرب الجعة والحديث الصريح، مركز الصدارة. وكان نجاح فاراج كبيرا للغاية، حتى إنه أسعده أن يلغي خططه لقضاء العطلة من أجل الوصول إلى قيادة الحزب، فأطاح بزعيمه السابق وراعيه ريتشارد تايس. ولا بد أن نايجل فاراج شخص استثنائي إلى الحد الذي يجعل الآخرين يتنحون جانبا ويعترفون بتفوقه، حيث كان حضوره الكاريزمي الناري بمثابة شرارة للسياسة البريطانية.
وبالفعل، يتمتع نايجل بكاريزما خالصة، فهو رجل الشعب الفطري الذي يتحدث بلسان الناس بفصاحة، حتى جيسون كاولي من مجلة “نيو ستيتسمان”– ذات الميول اليسارية– وجد أن عليه الاعتراف بذلك. إنه شخصية متألقة ومبهرة جلبت الألعاب النارية إلى مائدة السياسة البريطانية القديمة الباهتة، بالمعنى الحرفي والمجازي أيضا.
لكن على الرغم من الكاريزما التي يتمتع بها الرجل، لم تكن مسيرته سلسة في الآونة الأخيرة. وكانت تعليقاته المثيرة للجدل التي يدّعي فيها أن الغرب هو من استفز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ودفعه إلى غزو أوكرانيا، مصحوبة بتحذيرات مبتذلة إلى حد ما من أن لا “ننخز الدببة”، سببا في برود الحماسة حوله فجأة. ففي النهاية، حتى رئيس الوزراء الأكثر كسلا الذي شهدته البلاد كان لديه ما يكفي من الطاقة للسفر إلى كييف ودعم الرئيس فولوديمير زيلنسكي.
ولم يمض وقت طويل حتى اعترضت تقدمه هذه الانتكاسة المزعجة، فشوهد نايجل في قاعة في إسيكس– المقاطعة التي تضم المقعد الذي ينافس على مقعده في كلاكتون– وهو يخطب في المؤيدين حول موضوع التعليم. كان واقفا هناك، دون كلمة مكتوبة أو جهاز تلقين أو حتى منبر يتكئ عليه، ويرتجل بكل الطلاقة التي طالما أعجب بها جيسون كاولي عندما انكشفت لافتة ببطء فوق رأسه. لقد كانت لحظة رعب خافتة لم يسبق لها مثيل منذ أن تمزقت صورة فنان الغرافيتي بانكسي في دار مزادات شهيرة في لندن. أظهرت اللافتة صورة لفلاديمير بوتين وهو يبتسم ابتسامة عريضة ويرفع إبهامه لأعلى، وتحتها عبارة “أنا (قلب) نايجل”. ولم تكن تلك مفاجأة سارة.
يتمتع نايجل بكاريزما خالصة، فهو رجل الشعب الفطري الذي يتحدث بلسان الناس بفصاحة، حتى جيسون كاولي من مجلة “نيو ستيتسمان”– ذات الميول اليسارية– وجد أن عليه الاعتراف بذلك
وعلى الرغم من غضب أنصار “الإصلاح” الذين لم يعودوا متحمسين، وصيحاتهم “أنزلوها! أنزلوها!”، فإن الصورة والرسالة المسيئة ظلتا تحومان هناك على مرأى ومسمع من الجميع لزمن بدا وكأنه دهر، وحتى نايجل المفوه نفسه بدا عاجزا عن الكلام في البداية. ثم، وبغضب مزيف نموذجي يليق به، اقترح إقالة أحد العاملين في المكان.
العقول المدبرة الحقيقية وراء هذا “الغضب” كانت تنفذ استراتيجية مماثلة على مدى السنوات الخمس الماضية. إنهم مجموعة تسمى “يقودنا حمير”، وهو اسم مستوحى من عبارة “أسود تقودها حمير” والتي كانت تقال في انتقاد القيادة عديمة الكفاءة للجنرالات البريطانيين خلال الحرب العالمية الأولى الذين أرسلوا جنودهم إلى حتفهم (1914-1918). وفي ديسمبر/كانون الأول 2018، تصور أربعة أفراد، اثنان منهم كانا موظفين سابقين في منظمة “السلام الأخضر”، فكرة تحدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من خلال عرض التصريحات المتناقضة لمؤيديها وفضح نفاقهم. ووصف أحد الأعضاء نهجهم بأنه “نفاق نووي حراري” وأنه يكشف عن سخافة آرائهم ويظهرهم كالأغبياء.
زعيم حزب الاصلاح نايجل فاراج في بلدة كلاكتون في 4 يوليو
بدأت العملية كحرب العصابات، حيث قامت مجموعة من الرجال بتصفح الإنترنت للبحث عن تغريدات قديمة لخصومهم تناسب أهدافهم، واكتشفوا أن صيغة التغريدات متطابقة في النسبة مع لوحة الإعلانات القياسية. فاستغلوا هذه الفرصة وقاموا بتكبير التغريدات إلى أبعاد ضخمة تناسب الشارع ثم قاموا بذكاء بتركيبها فوق الإعلانات القائمة.
أحد الأمثلة الأولية لهذه التغريدات المتراكبة تضمنت اقتباسا من مايكل جوف، وهو مدافع بارز ومثير للجدل عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وكان جوف قد ادعى أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيثبت خطأ المتشائمين وأن الرأي العام البريطاني سئم من الاستماع إلى الخبراء. كان هذا التصريح جزءا من حجته الأوسع بأن مغادرة الاتحاد الأوروبي ستكون مفيدة للمملكة المتحدة، على الرغم من تحذيرات الخبراء والنقاد. من خلال توسيع هذا الاقتباس وعرضه كفن شارع، هدفَ المبدعون إلى تسليط الضوء وانتقاد موقف جوف الرافض تجاه آراء الخبراء وتوقعاته المتفائلة بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وكانت هناك اقتباسات أخرى مماثلة، تشير جميعها إلى أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيكون سهلا، وسيشكل انتصارا للقيم البريطانية على الخداع الأوروبي. على سبيل المثال، أعلن ديفيد ديفيس، الذي وصفه دومينيك كامينغز بأنه “غبي مثل اللحم المفروم”، بكل ثقة: “لن يكون هناك جانب سلبي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بل سيكون هناك جانب إيجابي كبير فقط”.
وكانت حملة حرب العصابات مجرد البداية. بفضل الظهور واسع الانتشار على وسائل التواصل الاجتماعي، انتقلت جماعة “يقودنا حمير” إلى التمويل الجماعي وشراء اللوحات الإعلانية الخاصة بها. وكان من أبرز ما يميز هذا النهج هو التعاون مع كولدوار ستيف، أستاذ تركيب الصور الساخرة، في غلاستونبري 2019. وقد صورت الصورة الناتجة الكثير من أنصار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فيما بدا وكأنه موقع لطمر النفايات. وعلى جانب واحد، وقفت لوحة إعلانية داخل لوحة إعلانية تحمل اقتباسا من بوريس جونسون: “لا توجد خطة لعدم التوصل إلى اتفاق، لأننا سنحصل على صفقة رائعة”. لقد أطلقوا على أسلوبهم اسم “القنابل الذهنية”، وكانت صورهم مذهلة مصممة للوصول إلى الجمهور على المستوى العاطفي.
وفي الوقت الراهن، تقوم مجموعة “يقودنا حمير” بتوسيع أساليب الاتصال الخاصة بها لتشمل إسقاطات ضوئية على المعالم البارزة مثل المنحدرات البيضاء في دوفر ومبنى البرلمان، بالإضافة إلى الشاحنات الصغيرة والتصميمات على الشواطئ والحقول وأعلام الحشود الضخمة. لقد استخدموا اقتباسات من بوريس جونسون لتسليط الضوء على نفاقه بشأن “كوفيد-19”. وردا على رئاسة ليز تراس الكارثية والقصيرة للوزراء، أقاموا لوحة زرقاء ضخمة في شارع توفتون، موطن مركزها البحثي الاقتصادي المفضل، وكان نصها بكل بساطة: “لقد تحطمت المملكة المتحدة هنا”.
انتقلت جماعة “يقودنا حمير” إلى التمويل الجماعي وشراء اللوحات الإعلانية الخاصة بها. وكان من أبرز ما يميز هذا النهج هو التعاون مع كولدوار ستيف، أستاذ تركيب الصور الساخرة
بل إنهم غامروا أيضا بإنتاج الفيديو. وفي محاكاة ساخرة لفيلم “خط الواجب”، صوروا بوريس جونسون أثناء استجوابه من قبل لجنة من ضباط الشرطة، للتدقيق في قراراته وسلوكه. وأنتجوا فيلما قصيرا مدته عشر دقائق عن سيرة ذاتية لريشي سوناك، يعرض بالتفصيل حياته المهنية قبل أن يصبح عضوا في البرلمان، وثروته التي تفوق ثروة الملك، وعلاقاته بالأزمة المالية عام 2008.
رئيس الوزراء البريطاني وزعيم حزب المحافظين ريشي سوناك في بلدة رومسي في 3 يوليو
وفي عام 2023، وسعوا أنشطتهم لتشمل الصحافة الاستقصائية السرية. ومن خلال اختراع شركة كورية جنوبية مزيفة، تمكنوا من خداع اثنين من كبار السياسيين المحافظين، كواسي كوارتينغ ومات هانكوك، للموافقة على العمل مقابل عشرة آلاف جنيه إسترليني يوميا.
لا توجد طريقة لقياس تأثير هذا النوع من النشاط على الرأي العام ومعرفة مدى عدم الثقة السائد بالفعل في حزب “المحافظين”. ولا ريب في أن الناخبين البريطانيين قد غدوا أكثر عداء لحزب “المحافظين” بسبب الكثير من الفضائح والآثار المدمرة لفترة ولاية ليز تراس القصيرة الشهيرة.
من الصعب تحديد مقدار هذه السخرية التي كانت موجودة مسبقا. ربما كانت مجموعة “من يقودهم الحمير” مجرد توجيه لمشاعر كانت موجودة بالفعل. ومع ذلك، كتعليق مستمر على الفوضى التي تسود حكم “المحافظين”، فإن قلة من الناس تساويهم في النشاط والإبداع.
- المجلة