بتأثير من الفتوى الدينية بعدم جواز مقاومة الاحتلال الأميركي في العراق، انشغلت الميليشيات الشيعية التابعة للحرس الثوري الإيراني بتثبيت قواعد وجودها وفرض ضرورتها انطلاقاً من مبدأ الدفاع عن المذهب. وكان ظهور تنظيم “داعش” فرصة عظيمة لاستصدار فتوى جديدة سيكون لها أعظم الأثر في مستقبل تلك الميليشيات التي جرت إعادة تنظيمها من خلال دمجها الصوري في مؤسسة ستحمل اسم “الحشد الشعبي”، فُرضت على المؤسسة العسكرية باعتبارها جزءاً منها، رغم أنها منفصلة عنها إدارة وتمويناً وخططاً وتوجهات سياسية.
قبل أن يحتل تنظيم “داعش” الموصل عام 2014 كان هناك حدث مفصلي مهم تمثل في خروج القوات الأميركية من الأراضي العراقية عام 2011. يومها طُرحت فكرة الانتقال من الدفاع عن المذهب إلى المقاومة. وهو انتقال مغر يدفع عن الميليشيات شبهة التواطؤ مع المحتل رغم أن المحتل كان قد غادر العراق عسكرياً. وليس سراً أن الإيرانيين كانوا قد أزعجوا الأميركيين من خلال “جيش المهدي” الذي يقوده مقتدى الصدر. ذلك ما انفردت به تلك الميليشيا كونها الفصيل الشيعي الوحيد المقاوم. لقد تضافرت عوامل عديدة من أجل إضفاء صفة المقاومة على الميليشيات الإيرانية. فمع ظهور “داعش” واحتلاله ثلث الأراضي العراقية وانهيار القوات العسكرية العراقية جاءت فتوى السيستاني بالجهاد الكفائي، ناهيك بهرب رئيس الحكومة العراقية يومها نوري المالكي إلى إيران. كل ذلك عزز من مكانة الميليشيات من خلال مؤسستها الجديدة داخل الدولة العراقية المهمشة.
استعمار جديد بجيوش محلية
بغض النظر عما تعلنه الميليشيات العراقية من عمليات قتالية تدخل في إطار المقاومة الإسلامية، إذ إنها تطال العمق الإسرائيلي بحسب المعلنين عنها، فإن وجود تلك الميليشيات لا يدخل ضمن المعنى المعروف لمفهوم المقاومة. لقد فلت أوان المقاومة في العراق من أيدي “المقاومين”. وإذا ما تقصّينا عن المعنى الحقيقي لما يتم تداوله، يمكننا أن نعثر عليه في المنطلقات العملية التي أرسى قواعدها زعيم فيلق القدس السابق قاسم سليماني. وهنا بالضبط يكمن سر هالة التقديس التي تحيط بضابط الحرس الثوري المقرب من خامنئي والذي تمت تصفيته مطلع عام 2020 بغارة أميركية على طريق مطار بغداد. لم يكن سليماني ليحظى بتلك المكانة إلا بسبب إخلاصه لخط الأمام. والمقصود هنا زعيم الثورة الإسلامية في إيران ورمزها الخميني. قاتل سليماني في الحرب العراقية – الإيرانية وكان سباقاً في تأسيس الميليشيات العراقية التي سيكون زعماؤها الذين حصلوا على مناصب قيادية في عراق ما بعد الاحتلال مجرد جنود يملي عليهم تعليماته.
في وقت كان سليماني ضابطاً في الجبهة كان هادي العامري زعيم “منظمة بدر” مجرد جندي مجهول في الجبهة نفسها. وليس ضرورياً أن تعبر الشعارات التي حرصت إيران على رفعها إلى ما قبل سنوات قريبة ومنها “الموت لإسرائيل الموت لأميركا” عن جوهر خط الإمام المتصل بمبدأ تصدير الثورة، ما يعني التمدد والتوسع الاستعماري الإيراني في المنطقة. كان سليماني مكلفاً من المرشد الأعلى بإدارة الجيوش التي تم تأليفها من أجل حماية خط الأمام. لقد نجح الرجل في حياته في خفض حدة الخلافات في ما يُسمى بالبيت الشيعي.
أمن العراق أم الدفاع عن إيران؟
“المقاومون” في العراق فئات متناحرة وليسوا فئة واحدة كما هي الحال في لبنان أو اليمن. يجمع بينهم الولاء لإيران وتفرق بينهم المصالح بسبب ثراء العراق وما يوفره الفساد من فرص لنهب المال العام. ورغم أن القوانين التي سنها نوري المالكي يوم كان رئيساً للحكومة في ولايتين (2006 ــ 2014) وهبت الأحزاب والميليشيات الحاكمة غطاءً قانونياً لعمليات السرقة التي تمارسها، فإن ذلك لم يمنع وقوع صدامات بين “المقاومين” الذين يعتقد كل طرف منهم أنه الأحق في الاستيلاء على المتاح من ثروات العراق. كان وجود سليماني الذي كانت زياراته للعراق شغله الوحيد عامل ضبط لتلك النزاعات. لم يكن زعماء الميليشيات سوى جنود لديه يأمرهم فيطيعون، أما وقد غاب من المشهد فإن خليفته إسماعيل قآني لم يرث عنه قوة التأثير، بدليل أن الرجل لم يعد حاضراً في النزاعات التي تقع بين أجنحة الحشد الشعبي. وهي نزاعات يمكن أن تتطور لتهدد أمن الشارع العراقي. ولكن هل أمن الشارع العراقي أهم من أمن إيران؟ ذلك سؤال بالنسبة إلى المقاومين لا قيمة له، فجوابه مفروغ منه. ما يهم إيران بالدرجة الأولى ألا تؤدي النزاعات إلى زعزعة الثقة بها من قبل طرف من الأطراف المتنازعة. أما إذا كانت كل الأطراف ملتزمة خط الإمام فلا بأس في أن تتنازع في ما بينها على ثروة بلد لا تزال تعتبره عدواً. لقد حصدت إيران ما لم تزرعه. وهي إذ نجحت في خداع العراقيين بالمقاومة فإنها انتصرت على عدوها من خلال تمييع إرادته المستقلة.
فوضى المقاومين تحت السيطرة
“مقاومو” العراق هم تجسيد لفكرة استعراضية إيرانية لا تخيف أحداً من أعداء إيران المفترضين، غير أنها تشكل خطراً على مستقبل الحياة في العراق. فالعراق في ظل هيمنة الميليشيات على مفاصل الدولة فيه هو بلد غير آمن. استقراره صوري وما من ضمانة للمرء أن يعود إلى بيته إذا ما خرج منه. ذلك لأن صداماً مسلحاً قد يقع في أي لحظة في شوارع بغداد قد يؤدي إلى إزهاق أرواح بريئة. لم تعد إيران معنية كثيراً بما يجري داخل البيت الشيعي في ظل شعورها بأن كل شيء بات تحت السيطرة. ليفعل مقتدى الصدر ما يشاء. كل ما يجري من فوضى لن يؤثر على استمرار النظام الموالي لإيران، ما دامت تلك الفوضى مسيطراً عليها. فالمقاومة ستكون دائماً حاضرة لسد أي ثغرة تقع بسبب الفوضى. تلك مهمتها وهي المخلصة لخط الإمام. ولم تُخترع المقاومة في العراق إلا من أجل أن يكون العراق إيرانياً.
– النهار العربي