هي قاعدة متقدِّمة للغرب الاستعماري.. هكذا رآها أنصار المدّ القومي التحرري الذي راح يصعد مع تأسيس إسرائيل، فالأخيرة من وجهة نظرهم كيان استعماري وظيفي. في تسعينات القرن الماضي، عطفاً على انحسار المدّ القومي وانتهاء الشيوعية، برزت الأصوات التي حاولت إعادة إنتاج العلاقة مع الغرب، انطلاقاً من قيم الليبرالية السياسية، وصولاً إلى الليبرالية الاقتصادية كنمط إنتاج مهيمن عالمياً. لكنّ إسرائيل بقيت قطعة من الغرب بموجب النظرة المستجدة، وإذا لم يعد الغرب ذلك العدو المذموم بالمطلق، فلإسرائيل نصيب خفيّ أو معلن من الإيجابية تجاهه.
طرفا الاختزال أعلاه، رغم التضاد الظاهر بين رؤيتين، ينطلقون مما صار مكرَّساً كبديهية، بحيث سيكون ناشزاً القول أن إسرائيل ليست غرباً. ومن المتوقع أن يكون صادماً القول أن إسرائيل حاضرة كنموذج يُحتذى به في المنطقة، أكثر من حضور الغرب نفسه. ولئن كان نقد الذات ضرورةً مفاهيمية وأخلاقية، فإن تجاهل تأثير النموذج الإسرائيلي الفاعل يجعل من النقد قاصراً في أحسن الأحوال، وفي معظمها يظهر اللحاق بـ”التفوق الإسرائيلي” كأنه غاية المنى.
يصادف، على سبيل المثال ليس إلا، أن تنال ظاهرة الميليشيات اهتماماً عالمياً، بسبب سيطرة الميليشيات على ما يزيد عن 300 مليون شخص في مختلف الأصقاع. وفي الحديث عن الظاهرة عربياً سيكون من الإجحاف الفكري عدم الانتباه إلى إسرائيل بوصفها الدولة التي قامت بدايةً على الميليشيات، بل هي النموذج الناجح للميليشيات إذ أقامت دولتها، ثم استمرت الميليشيات معها من خلال أطر عديدة لعسكرة المجتمع الإسرائيلي خارج تلك التي اندمجت في القوات النظامية. النجاح الإسرائيلي على هذا الصعيد يجب ألا يجعل منه نموذجاً يُحتذى، لكن سيكون من الصعب شرح مخاطر الميليشيات على الدول بوجود نسخة ناجحة.
كنا في مقال بعنوان “لكن إسرائيل ليست استعماراً” قد أشرنا إلى أن المكوِّن الاستعماري لها لا يجعل منها امتداداً للاستعمار الغربي الذي بدأت تصفيته في زمن تأسيسها، وإلى أن الحرب العالمية الثانية كانت نهاية الحقبة الاستعمارية. نضيف إلى ما سبق أن الحرب ذاتها كانت نهاية حقبة صعود القوميات في أوروبا، أي أن إسرائيل أتت عكس التيار الغربي على صعيد المكوِّن الاستعماري ضمن تركيبتها، وعلى صعيد تجسيد الفكرة القومية التي راحت تتوارى في الغرب أمام مفاهيم المواطنية وحقوق الإنسان.
أيضاً أتت إسرائيل بمثابة النموذج القومي الناجح في المنطقة، بل بمثابة النموذج الناجح لاقتران الدين بالقومية، أو لجعل الدين قومية. ومن الخطأ عدم الانتباه جيداً إلى أثر النموذج في المنطقة، لأسبقيته من جهة ولنجاحه الذي لا بد أن يحرّض على الاحتذاء به، وبهذا المعنى لا يكون فشل النماذج المقلِّدة في المنطقة فشلاً للفكرة بحدّ ذاتها، “ليس هذا ما يراه أصحاب الفشل”، وإنما سيكون فشلاً في التطبيق يستدعي تكرار المحاولة طالما وُجِد مثال واحد ناجح.
التفوق التكنولوجي والعسكري غير مقترن حتماً بالنظام المفاهيمي للدولة، فلدينا الصين وروسيا، وإيران في المنطقة، كأنظمة “متقدّمة” نسبياً على اختلاف درجات تقدّمها، من دون أن تكون ديموقراطية على المثال الغربي. من المحتمل مثلاً أن تنضم إيران إلى النادي النووي قريباً، وهذا لا يجعل منها دولة ديموقراطية، ولا يغيّر في كونها دولة قائمة على أيديولوجيا تُزاوِجُ بين المذهبي والقومي. والصين، كقوة اقتصادية عظمى، يسعى نظامها إلى تسويقها كنقيض مفاهيمي عالمي للغرب.
لا بأس بقليل من الأسئلة الغريبة والتي تزعم السذاجة من قبيل: هل تقبل إسرائيل باستقبال لاجئين سياسيين أو مهاجرين “غير يهود” من أصقاع العالم، وليكن بدءاً من الجوار الذي يشهد موجات لجوء إلى الغرب؟ وهل تقبل تالياً أن ينال هؤلاء جنسيتها وحقوق المواطنة الكاملة فيها؟ وإذا قدّمت إسرائيل طلب انضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بصرف النظر عن الجغرافيا، فهل تلبّي منظومتها المعايير الحقوقية للاتحاد؟
الأجوبة عن الأسئلة السابقة معروفة بالطبع، والأهم أن تكون معروفة بدلالاتها الواسعة. في الواقع لم تكن فقط نشأة إسرائيل مخالفة للمسار الغربي، الأوروبي على نحو أكثر تحديداً. ولعل الالتقاء الوحيد بين الطرفين كان في العدوان الثلاثي على مصر، وهو تاريخ أكثر شهرة لشهادة وفاة الاستعمار الأوروبي. في العام 1967 ستحتل إسرائيل أراضي دول عربية مجاورة في استئناف لمسارها، بينما ستشهد أوروبا في العام التالي ثورة هي بمثابة شهادة وفاة الغرب القديم لصالح غرب جديد بقيَم وقوانين أكثر مساواة بين عموم المواطنات والمواطنين، بمن فيهم أصحاب الأصول المهاجرة.
إن أشد الأوروبيين تطرفاً يطالب اليوم بوقف التدفق الغزير للهجرة، وبسياسات اندماج أكثر فعالية للمهاجرين. وجود أزمات سياسية لم يدفع إلى الانقلاب على القيَم والقوانين التي وصل إليها الغرب، وحتى الحديث عن تراجع الدعم الاقتصادي للفئات المهمّشة لا ينال من حقوقها القانونية الأساسية. في المقابل كان اليمين الإسرائيلي منذ السبعينات يدفع إسرائيل إلى الوراء، وصولاً إلى إقرار القوانين المتعلقة بيهودية الدولة، ثم إلى القانون الذي يمنع الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، والدمج بين الاثنين يعني إما تهجير الفلسطينيين، أو إشهارها كدولة فصل عنصري.
نعود للتأكيد على أن التفوق التكنولوجي شأن مختلف عن المنظومة المفاهيمية التي تحكمه، وكذلك هو حال السياسات الخارجية التي لا يقرّرها توافق قيَمي. أي أن تطور إسرائيل التكنولوجي لا يجعل منها غرباً، والدعم الذي تناله من الغرب لا يعني أن الأخير يراها امتداداً له، أو قاعدة حراسة متقدّمة “على النحو الذي شاع قوله في ما مضى”. في الواقع لم تقدّم إسرائيل مردوداً يبرر الدعم الغربي، وكان من المستبعد أن نشهد التزاماً غربياً قوياً بأمن إسرائيل لولا عقدة الهولوكست، وربما ما يحرّك حالياً بعض الجيل الجديد الغربي المساند للفلسطينيين هو ابتعاده عن تلك العقدة.
من المؤسف أن أنظار القوميين والإسلاميين ونقّادهما هي أكثر التفاتاً إلى تفوق إسرائيل التكنولوجي والعسكري، واستقوائها على محيطها؛ بقواها الذاتية أو بالدعم الغربي. الأسوأ أن هؤلاء النقّاد استخدموا إسرائيل كنموذج متطور لجلْد القوميين والإسلاميين به، بينما لم يقصّروا في نقد النسخة القومية والدينية العربية. هكذا لا تكون الأيديولوجيا مكروهة بذاتها، أو بتخلّفها عن المنظومة الحقوقية للعصر، بل لأنها لم تمتلك تفوّقاً عسكرياً.
بالتأكيد ليست الغاية من التفكير في المنظومة المفاهيمية لإسرائيل تبرئة الفلسطينيين أو العرب من مسؤولياتهم تجاه واقعهم، بل إن نقد النموذج الإسرائيلي واجب كي لا يكون نموذجاً يُحتذى به، ولو ضمناً. من شأن هذا التفكير أن يساعد مثلاً على نقد نسختنا الركيكة من التجربة القومية وتجربة الإسلام السياسي، لأن نقد النسخة “الناجحة” مدخل أكثر نجاعة ونزاهة من الافتتان بها وتوجيه السهام إلى نظيرتها الفاشلة.
بخلاف الشائع: إسرائيل ليست دولة عصرية. ما يصوّرها عصريةً هو ذلك الافتتان بالهيمنة والتسلط، أو الانطلاق من منظومة مفاهيمية مماثلة، أو كلاهما معاً. واحد من أوجه أزمة إسرائيل “الوجودية” أنها لا تستطيع الانتماء مفاهيمياً إلى العصر، لأنها لا تستطيع أن تكون دولة مواطنة والتخلّي نهائياً عن الأيديولوجيا القومية الدينية. لكن لا عزاء فيما سبق، ولا فائدة إن لم يكن مدخلاً لمساءلة النسخ الرثّة المحيطة بها. بهذا المعنى يكون تفكيك النموذج “الناجح” ضرورةً مفاهيمية لعموم المنطقة.
- المدن