هذه مقالة في مديح أصالة نصري. ولأنها كذلك، لا يمكن للكلمات هنا أن تخفي نبرات التقريظ، أو بالأحرى هي ليست بحاجة لأن تفعل، طالما أن الوضوح الإنساني، يجب أن يقابل بوضوح آخر، من مداد الكتابة، فتشير إليه، وتفرح به، كلما تمكنت من فعل ذلك، دون مواراة أو استتار.
لكن، لماذا؟ يسأل أحد ما من السوريين عن السبب الذي يدفع كاتباً ما، لم يُعرف عنه صنع المدائح أو إسباغ البهاء على الأشخاص، إلى أن يفعل هذا ولو لمرة واحدة، وأن يخص بذلك مطربة سورية لا يعرفها شخصياً ولا تعرفه؟
السؤال حق، بالنظر إلى أن تقاليد الكتابة المدحية في بلادنا، تفترض وجود العلاقة بين المادح والممدوح، وأن يكون بينهما تواصل من نوع ما، مهني أو شخصي!
لكن ما تفترضه العادات، لا ينطبق على كاتب هذه السطور من الناحية الخاصة، وينطبق عليه بشكل هائل من الناحية العامة! إذ يسمح لي المقام بالاعتراف والقول إنني ولزمن طويل، لم أكن من عشاق كل ما تغنيه أصالة، أو صولا (ياله من اسم دلع جميل بين الفنانة وجمهورها)، ورغم ذلك، كنت أشعر أنني أعرفها، أكثر من معجبيها، الذين يصرحون بحبهم لها.
أحببت أغنيات قديمة غنتها زمن طفولتها، وبالمناسبة، أشترك معها في تاريخ الميلاد نفسه، أي أنني حين أتحدث عن طفولتها، فإنني أتحدث عن طفولتي أيضاً، فقد عشنا في المدينة ذاتها، وهي فقدت والدها الفنان المطرب مصطفى نصري، وأنا فقدت والدي الشرطي المتقاعد. هي عانت من مشكلة صحية تكفلت الدولة بعلاجها، بتوجيه من حافظ الأسد في وقت ما، وأنا لم أعان من أي مشكلة صحية، لكن وجودي في بلد محكوم بالقمع، جعلني معتلاً من الناحية النفسية، لا أحتاج للبحث عن علاج، سوى أن أتحرر، وتتحرر البلاد كلها أيضاً.
***
لم أكن أريد ان أدخل بالسياسة، بشكل مبكر في هذه المقالة، لكن لا بأس، بعض الأشياء تأتي رغماً عنا، ومنها على سبيل المثال والتقابل في الإنشاء السيري، أن أصالة قد غنت للأسد الأب وللأسد الابن! لكن أحداً لن يذكر هذه الأغاني، لأنها مشغولة لغايات وظيفية، يجبرك عليها الفضاء العام، وسلسلة معقدة من العلاقات الشخصية، وتبادل المصالح، والمونة، وربما الشعور بالامتنان!
لكن يبقى الأمر في النهاية، مرتبطاً بالموقف الشخصي الواعي، الذي يفاضل بين النتائج المحتملة، حين تأتي لحظة الحقيقة، وكانت في العام 2011 بالنسبة للسوريين، وقد ذهبت أصالة إلى موقفها، دون تردد، وصارت محسوبة على جهة المعارضين، الأعداء، لنظام لا يرحم، ولا يغفر، لمن يتمردون على هيمنته وسلطته.
أقول وعلى سبيل الإجابة عن السؤال، حول ما يدفعني للكتابة عن صولا، هو الحب، فهي واحدة من أجمل صانعات الحب للسوريين، وللعرب كافة، بدأت في العام 1991 بألبوم “لو تعرفوا” الذي يطفح بالحب، وهي لا تتردد في المضي صوب أي خيار، تشعر بداخلها، أنه يساهم في خلق حالة جمال، يتنعم بها المستمع.
وضمن زاوية الرؤية هذه، أحببت أنها غنت للشاعر والكاتب رامي كوسا، أغنية صندوق التي لحنها يزن الصباغ، ولم تنظر في أي من خلفيات الرأي الشخصي لأي منهما، تجاه ما يحصل في البلاد، أي أنها تجاوزت، ما لا نستطيع تجاوزه في حياتنا اليومية، حيث بات الانقسام ينخر فينا، ليعطل حواس التقاط الجمال عند الآخرين، كما يعطل فيهم مجسات التقاط حجم الأذى، الذي لحق بمن دفع ثمن موقفهم من التسلط والإجرام.
فعلت صولا هذا الأمر، ولم تجعلنا نذهب وراء القصة، لأنها صنعت شيئاً آخاذاً، لا يمكن له أن يتراجع، طالما أنه يبدأ فعله من إيقاظ الحنين إلى الطفولة، كما تفعل كلمات الأغنية.
حدث الأمر بداية هذه السنة، ومذاك، بدأت تظهر في صفحات المؤيدين، أخبار عن قرب عودة صولا إلى حضن النظام، لا بل إن كلاماً ظهر قبل فترة وجيزة، أكد أنها ستحل في دمشق، وأن نقابة الفنانين مستعدة لتنظيم حفلة لها في أي مكان ترغب به في سوريا، لكن الممثل والمغني محسن غازي نقيب الفنانين، نفى حدوث الواقعة، وفي الوقت ذاته، طرح كلاماً مخففاً عن علاقة النقابة، بالفنانين المعارضين، وخياراتهم، على العكس من تصريحات سلفه الراحل زهير رمضان، الذي كانت تصريحاته أشبه بكلام ضابط مقاتل في جيش النظام، حين قال بأن النقابة لا تعترف بها كفنانة، على خلفية موقفها من سياسة النظام الدموية.
سامحت أصالة زهيراً، في موقف لافت بعد إعلان وفاته، وقالت: “الله يرحمه ويغفر له ولو ظلمني بيوم برأيه أنا مسامحته وربي يجمعه بأبي وكل الطيبين اللي راحوا بالجنة.. ويعين أهله وحبايبه ويحفظ بلدنا اللي كلنا بنعشق ترابها كل واحد فينا بطريقته”.
صولا منغمسة بالعمل في مهنتها، والمتابع لأخبارها سيلاحظ أنها لا تهدأ صيفاً وشتاءً، لكنها لا تتردد في المضي في تجارب جديدة، كأن تذهب لتغني في فلسطين في العام 2013، في مهرجان برك سليمان، وأن تذهب إلى ألمانيا لتغني لجمهورها السوري، وأن تصبح هذه الأمسية واحدة من أجمل اللحظات، التي تحدث بها جحفل اللاجئين، الذين جاؤوا إلى مدينة أوبرهاوزن شمال الراين، من كل حدب وصوب، ليحضروها، وهي تغني، لمن تعرفهم ويعرفونها، من حفظوا كلمات أغانيها، وبصموا ملامح وجهها، في كل حالاتها على المسرح، وتدفق المشاعر العالي فيه، وغرغرة دموعها.
***
لم يعرف السوريون فرحاً مماثلاً منذ زمن طويل، ولم يهتفوا لثورتهم في حدث مشابه، كما فعلوا بعد نهاية الأمسية، حيث توضح الفيديوهات، التي نشروها هنا وهناك، أن صولا قد رفعت مستوى الأدرينالين، عند كل من حضرها، رغم أنها لم تغن أي أغنية ذات تلميحات سياسية، بل كان يكفي أنها معهم، وأنها لم تتردد في القدوم إليهم، وبغض النظر عن كون الأمر، يدرج في خانة العمل الطبيعي الذي تؤديه، فإنها كانت تعيدهم إلى وطنهم المشتهى، من خلال العالم الذي صنعته، وتواصلها مع أرواحهم، وتوقهم لحياة طبيعية، يعيشون فيها مشاعرهم وأحاسيسهم، دون أن يتملكهم الخوف، أو القلق.
لم تخفِ أصالة مشاعرها، تجاه جمهورها، في ألمانيا، فكتبت على انستغرام تقول:
“حفله متل هي الحفله بحس فيها مشاعر مختلفة، بتجهز من بكير كتير، بدي كون جاهزه من بكير، وبضل بغيّر وببدّل متل عروس بقلق بتخيّل صوركم وبتأثر وبدعي ربي تتكرر لقاءاتنا، بجيكم بروح مشتاقه وبخاف من الوداع، مبسوطه بطاقتكم طايره بمحبتكم أصحابي من كلّ مكان بالأرض”.
وفي الحفلة ذاتها، لم تستطع إلا أن تكون، تلك المرأة السورية الأنيقة، التي تستعد للفرح وتتجهز له، بأجمل ما عندها من ثياب وإكسسوارات، وطاقة، فقالت للحاضرات من مواطناتها وغيرهن: “كلكن لابسين فساتين العيد، وأنا كمان لابسة فستان العيد”!
الجمهور لا ينسى المواقف الصادقة لمن يسانده، وهو السيد في كل حال، وبيده أن يرفع من قيمته وأن يخفضها، لكن هذا يحدث بين الغرباء، ولا يمكن أن يحدث مع صولا، التي تعرف أنها دفعت ثمن موقفها، حين رفضت إجرام النظام ضد السوريين الثائرين، وقالت إنها تركت سوريا لأنها ملت من جبروت وغرور حكامها، حيث يمنع الناس من التنفس، ويطلب منهم أن يكونوا مجرد قطيع”!
نضطر هنا للعودة إلى السياسة، لكن الأمر لا يفسد من نجاحات صولا شيئاً، فهي قادرة أن تكون ذاتها، خارج سلطة الأسديين، كما كل سوري ثار ضدهم، وعاش منفياً عن وطنه، وصار ناجحاً في غربته.
وضمن هذا الإطار لا يمكن إلا أن نمر على فوز أصالة بالمركز الأول ضمن قائمة أفضل 50 صوتاً عربياً، وفقا لجوائز «Moivo»، وتكريم صوتها القوي بلقب «صوت كل الأمم»، وقبل هذا لا يمكن تجاهل ارتفاع صورتها في ميدان تايم سكوير في نيويورك، بعد أن اختارها تطبيق Spotify، الذي يُعد أشهر خدمة اشتراك في البث الصوتي في العالم، كفنانة شهر أغسطس/ آب ضمن برنامج EQUAL Arabia (انطلق عام 2022 ليحتفل بالمساهمات المتنوعة للمبدعات، ويسلط الضوء على إصداراتهن ويشجع المعجبين على اكتشافها).
هل أنا بحاجة للإجابة عن سؤال لماذا أكتب عن صولا بكل هذا الحب؟ ربما نعم، وربما لا، لكنني أفكر دائماً بأن جيش المبدعين السوريين الثائرين، أي كل منتجي الجمال والأدب والسينما والمسرح والموسيقا والغناء، انتصر منذ زمن طويل على الأسديين، ولعل فوزه أهم وأبلغ بما لا يقاس، من ادعاء انتصار النظام على الشعب، فهنا ثمة قوة ناعمة، في مقدمتها تأتي صولا، تصنع الفرح لكل من يسمعها، وهناك لا شيء يحدث سوى القهر، والهبوط أكثر فأكثر في قاع لا نهاية له، طالما أن البلاد يحكمها طاغية، يبيع كل تفاصيلها، في سبيل أن يبقى.
- تلفزيون سوريا