تخليد الأثر في معركة البقاء
في البدء كان جدار الكهف، وما أن خدشه إنسان العصر الحجري بحربة معدن، بنصل عظم أو حجر، مجترحا إياه بأيّ أداة طبيعية التقطها وشذبها لصالح استعمالاته البدائية، بالفحم وغيره، تحول جدار الكهف – بشتى نقوشه، الخط تلو الخط، العلامة إثر العلامة، الرمز عقب الرمز، والرسم بعد الرسم، إلى كتاب شفرات، مشحونة بيومياته، تؤرخ نمط وجوده، وتدون طرائق صيده، وصراعه مع قوى الطبيعة، وأشكال قنصه الحيوانات الضارية، وأشكال تآلفه مع حيوانات ذات ألفة، كذا معاركه مع أبناء جنسه، ومعتقداته إزاء بيئته بأرضها وسمائها، ولباسه وأكله ومجمل الأشياء المبتكرة وفق أسلوب عيشه.
كل هذه الخرائط المرسومة علامات على جدار الكهف ليست اعتباطية. إنها طريقة تعبير أولية ما قبل اللغة، دوّن فيها إنسان العصر الحجري أسلوب حياته، وهي بمثابة بيان وجود مشفر، منقوش لتخليد أثره، في معركة البقاء والفناء، وهي في المضمر رسالة للمستقبل، لمن سيأتي بعده، من بني جنسه، ليقف على موروث من سبقه، وعلى هذا النحو تترى الحقب تلو الأخرى، وبالتراكم تتولد طفرات التاريخ.
مسكن مزدوج
جدار الكهف وخرائط علاماته ليس أيضا محض كتابة أو رسما يخلد نمط وجود وحسب، بل هو في الآن ذاته يخلد نمطا فنيا. جدار الكهف وشفراته عمل جمالي مدهش بالرغم من احتكامه إلى الضرورة، وقيمته الفنية كامنة في طرائق رسمه وكتابته، في طرائق صوغه وتخطيطه، في طرائق تعبيره بالشكل والصورة والخطوط والرموز.
يغدو الكهف مسكنا مزدوجا لإنسان العصر الحجري، مأوى يحميه من أخطار بيئته، وسكنا مجازيا في خرائط العلامات
بهذا المنحى يغدو الكهف مسكنا مزدوجا غريبا لإنسان العصر الحجري، أولا السكن الواقعي، الفعلي في الكهف كمأوى يحميه من أخطار بيئته الخارجية، وثانيا السكن الذهني، الرمزي، المجازي في خرائط العلامات التي يجترحها يوما عن يوم على جداره.
من ألمع موروث جداريات الكهوف يمكن الإشارة إلى أكثرها تداولا: أحجار كهف أبولو/ ناميبيا، جداريات كهوف أجانتا (الهند)، كهف ألتاميرا/ إسبانيا، كهوف لاسكو/ فرنسا، كهف كويفا دي لاس مانوس/ الأرجنتين، كهوف سولاويزي/ أندونيسيا…
كهف ريفي.
يضاف إلى وثيقة جدران الكهوف ما نقشه إنسان هذه الحقب الحجرية أيضا على الصخر، لكن في الهواء الطلق، في الصحراء وغيرها (منحوتات إقليم طاطا وإقليم آسا الزاك وسيدي إفني في المغرب، نقوش تاسيلي في الجزائر، منطقة كيمبرلي في أوستراليا، صحراء المكسيك…).
هذه عتبة لا قفز على قاعدتها التاريخية الصلدة إذا ما أردنا أن نيمّم بوجوهنا شطر تاريخ الجداريات في العالم، سيان التي أنجزت داخل المباني (دينية كانت أو سياسية أو اجتماعية…) أو خارجها في محافل واجهات الشوارع والساحات. بل إن حداثة الفن التشكيلي وما بعدها مثلا، احتكمت في نزوع الكثير من أساليبها التعبيرية والتجريدية والتكعيبية إلى هذه الخلفية من جماليات جدران الكهوف والصخور، وتمثلت عراقة موروثها الطاعن في هيولى التاريخ والعالم.
إنسان الحضارات
من الكهف انتقلت الجداريات بصورة من الصور إلى معابد الانسان ومعمار سكنه ومدنه ومدافنه، وهذا ما نلفي له نماذج مبهرة في حضارة ما بين النهرين، خاصة الفترة الآشورية (جدارية صيد الأسود للملك بانيبال على سبيل المثل، وحضارة الفراعنة (جدارية الملكة نفرتاري)، وحضارة المايا (جدارية أواكساكتون)، وحضارة الصين (جداريات أسرة تشي الشمالية)، وحضارة الهند (جداريات كيرالا في تاميل نادو).
قبل أن تنزاح وتتخذ أشكالا مغايرة مع اليونان (جداريات زيوكس وباراسيوس)، والرومان (جداريات سقف كنيسة سيستين لمايكل أنجلو)، فضلا عن فسيفساءات جداريات الفن الإسلامي، إلى أن تتحول وفقا للمتغيرات السياسية والاجتماعية الكبرى في الأزمنة الحديثة كجداريات الثورة المكسيكية التي تزعمها أقطاب الفن الطليعي الثلاثة: دييغو ريفيرا وخوسيه كليمنتي أوروزكو ودافيد ألفارو سيكيروس. كذلك جدارية “غيرنيكا” لبيكاسو، وجداريات حائط برلين ومنها “سيارة ترابانت تخترق الجدار” للفنانة بريجيت كيندر، وجدارية نصب الحرية لجواد سليم، وجداريات الغرافيتي كـ “فتاة البالون” لبانكسي، و”الكراك هو الضربة القاتلة” لكيث هارينغ.
ولم تقتصر جماليات الجداريات على الفن وحده، بل شملت أصنافا تعبيرية أخرى، مثل الشعر، ولعل أسطع ما يمكن أن نمثل له المعلقات السبع على جدران الكعبة ما قبل الإسلام، وجداريات المدافن كقصيدة المعتمد بن عباد على حائط قبره.
جدران التواصل
هل من المنصف إدراج جدران وسائط التواصل الاجتماعي ذات الطفرة الافتراضية المستشرية في مدار بلاغة الجدران التي تحتكم إلى منطلق الكهف؟ وسائط نوعية أكانت أم مبتذلة، خاصة شبكتي “فيسبوك” و”إكس” المؤسستين على فكرة الجدار بصورة من الصور. “فيسبوك” مثلا كمسكن مشاع افتراضي أمسى يضم 3.07 مليار مستخدم وفق إحصائيات 2024، يمكن عدّه شكلا من أشكال المآوي الكهفية المعاصرة، الذي يتيح للائذ به جدارا خاصا به، يمكنه أن يدوّن عليه من يومياته، حياته، أعماله، انشغالاته ومجمل أسلوب عيشه (ملبسا ومأكلا وأسفارا)، معريا عن مجمل ما يشكله ككائن في معترك وجوده.
يمكن النظر إلى “فيسبوك” كشبكة كهوف لكائنات بقدر ما هي افتراضية هي واقعية
يمكن النظر إلى “فيسبوك” -وهو نظام من أنظمة الرقابة- كشبكة كهوف لكائنات بقدر ما هي افتراضية هي واقعية في آن، تتواصل بين بعضها عبر جداريات منذورة للمتابعة الفورية والتعليق، كتابة أو عبر رموز، مثل الـ”لايك” والـ”إيموجي”.
طبيعة الجدار هنا مفتوحة على مفارقات لافتة: الجدار الذي يفصل بين الأنا والآخر هو نفسه الذي يصل بينهما. الجدار الذي يخفي هو نفسه الجدار الذي يعري. الجدار الذي يحمي هو نفسه الجدار الذي يعرض صاحبه للعواقب غير المحمودة. الجدار الخاص بك هو نفسه الجدار العام، إذ أن منشوراتك وإن كانت تلزمك وحدك هي في الآن ذاته معلنة للمشاع أو حصرا لزمرة أصدقاء قائمتك. الجدار لا يحجب الرؤية، بل هو محض فوهة مكشوفة على خزائن أسرارك المفضوحة لا محالة. الجدار الذي تستعمله مفكرة يومية، هو نفسه الجدار الذي يستنزف ضلعا من أضلاع يومك إن لم يكن معظمه، في انفصال عن واقعك.
شعار Facebook.
إن كان إنسان الكهف دوّن من أجل تخليد أثره وهو يسدّد نظرة سرمدية للآتي أو الأبدي، فأغلب الكائنات الـ “فيسبوكية” تدوّن من أجل غرض آني، استهلاكي سريع ومنذور للأفول في يوم أو يومين على أبعد تقدير.
وإنسان الكهف إن اجترح علامات على الجدار تتمثل نمط حياته مستهدفا بذلك التأريخ لتجربته في الوجود يروم منها أن تظل كذاكرة تقاوم المحو والزوال، فالكائن الـ “فيسبوكي” بخلاف ذلك أمسى سلوقي العصر الأخرق الذي يركض لاهثا وراء عظمتي الـ “لايك” والـ “إيموجي” (حكم غير مُعمّم طبعا).
- المجلة