تشهد سوريا، ولا سيما شمال غرب سوريا، تحولاً جذرياً في مشهد الإعلام والتواصل الاجتماعي وذلك بالتزامن مع إغلاق بعض القنوات التلفزيونية المؤثرة وتغيير السياسات الإخبارية لبعضها الآخر، لطالما أصبح المؤثرون الرقميون يمتلكون حضوراً قوياً على منصات التواصل الاجتماعي مثل: فيسبوك، منصة X/ تويتر، وإنستغرام، يوتيوب، تيكتوك، وأصبحوا يؤثرون بشكل كبير في تشكيل الرأي العام وقوة لا يستهان بها، لا يقتصر دورهم على نشر المعلومات فقط، بل يمتد إلى توجيه سلوكيات الناس ويمكنهم التأثير في كيفية تصرف الأفراد في مواقف معينة، مثل المشاركة في التظاهرات والاحتجاجات، وتبني حملات اجتماعية أو سياسية، أو حتى تغيير وجهات النظر حول قضايا معينة، وفي المقابل تعتمد النخب على الهياكل الاجتماعية والسياسية التقليدية للوصول إلى جمهورها مثل القادة السياسيين، رجال الدين، والمثقفون سيما وأنهم يعتمدون على وسائل تقليدية مثل الخطابات العامة، الصحف، والمناسبات الاجتماعية، وغالباً ما يكون جمهورها مرتبطاً بها من خلال الولاءات التقليدية مثل الانتماء القبلي، الديني، أو السياسي، وذلك يقلل من قدرتها على التأثير على الأجيال الشابة أو على المجتمعات التي أصبحت تعتمد بشكل كبير على التكنولوجيا.
هذه التحولات تتطلب قراءة أعمق لفهم الديناميكيات الجديدة التي تسود هذا المجال، خاصة في شمال غرب سوريا، المنطقة التي تشهد تحديات وتغيرات اجتماعية وسياسية سريعة ومعقدة.
قوة ناشئة
المؤثر الرقمي هو فرد يمتلك قاعدة جماهيرية واسعة على منصات التواصل الاجتماعي، يستند تأثيره غالباً إلى جاذبيته الشخصية أو قدرته على تقديم المحتوى بشكل يجذب انتباه الجمهور؛ بدأت ظاهرة المؤثرين الرقميين في سوريا، كما في بقية الكثير من دول العالم، نتيجة لتغيرات عدة في مقدمتها ثورات الربيع العربي بشكل عام والثورة السورية خاصة، شكل ذلك حالة من فقدان الثقة في وسائل الإعلام التقليدية، والتي غالباً ما تعتبر منحازة أو مؤدلجة لصالح طرف ما أو إلى الحكومات التي تبث منها وبالإضافة إلى إغلاق بعض القنوات المؤثرة في الفترة الأخيرة وتغيير سياسات بعضها الآخر مما جعلها محدودة التأثير، هذه العوامل عملت على الانخفاض في الثقة فتح الباب أمام ظهور منصات جديدة للتعبير، حيث أتاح التواصل الاجتماعي للجمهور الوصول إلى مصادر متعددة للمعلومات غير تقليدية وأكثر ارتباطاً بالواقع اليومي.
تجلت أهمية المؤثرين الرقميين بشكل أكبر، عندما لعبوا دوراً رئيسياً في نقل الواقع من قلب الحدث، سيما وأنهم استطاعوا ملء الفراغ الإعلامي وتقديم بديل يتمتع بمصداقية لدى فئات واسعة من الشباب، علاوة على ذلك ساعدت طبيعة وسائل التواصل الاجتماعي في خلق منصة تفاعلية مباشرة، تمكن من خلالها المؤثرون من بناء علاقات شخصية مع متابعيهم، بيد أنهم أصبحوا أكثر قدرة على التأثير في آراء الجمهور وخلق علاقة تفاعلية تعززت بفضل القدرة على المشاركة الفورية والتفاعل الحي مع الأحداث.
الكتب والخوارزميات
على الجانب الآخر، تشكل النخب المثقفة التقليدية، التي تضم الأكاديميين والمفكرين والصحافيين، دعامة أساسية للفكر والتحليل العميقين، سيما وأنها تمتلك تاريخاً طويلاً من المساهمة في تشكيل الوعي الاجتماعي والسياسي، وذلك من خلال قدرتها على تقديم رؤى متماسكة ومبنية على أسس معرفية رصينة، لكن ومع تقدم التكنولوجيا الرقمية وتزايد الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي، وجدت هذه النخب نفسها أمام تحدٍ جديد يتعلق بكيفية البقاء في بيئة إعلامية سريعة التغير وخاصة أن منصات العالم الافتراضي أصبح ميداناً قوياً لتشكيل الرأي العام، حيث يمكن للمحتوى السريع والمبسط أن يكتسب زخماً سريعاً مشكلاً أراء ومواقف سياسية واجتماعية، وذلك يستدعي أن تعيد النخب المثقفة تعريف دورها ليس فقط كحراس للمعرفة، بل كقادة للتغيير الإيجابي لتوجيه الثورة الرقمية نحو خدمة المجتمع بشكل أعمق كما ينبغي إعادة النظر في طرق تواصلها مع الجمهور والتسليم بفرضية أنه لم يعد بإمكانها الاعتماد فقط على الوسائل التقليدية؛ بل أصبحت مضطرة للتكيف مع المتغيرات الجديدة، وذلك من خلال الانخراط في الفضاء الرقمي وتوظيف الخوارزميات للتواصل مع جيل جديد من الشباب المتابعين، واستعادة مكانتها من خلال تقديم محتوى رقمي رصين يجمع بين العمق المعرفي والقدرة على جذب انتباه الجمهور في عصر السرعة والمعلومات المتدفقة.
التحديات النفسية للنخب
إن النخب المثقفة، رغم عمق معرفتها وثراء تجربتها الفكرية، تواجه تحديات نفسية تعيقها عن الدخول في عالم المؤثرين الرقميين، يُعزى ذلك في الغالب إلى التحفظ الفكري والتردد في تبني أساليب التواصل الحديثة سيما وأنها تميل إلى التحليل المعمق والتفكير النقدي، وهو ما يتعارض مع الطبيعة السريعة والمباشرة لمنصات التواصل الاجتماعي، التي تتطلب تقديم المحتوى بشكل مبسط وسهل الهضم، كما أن الخوف من فقدان المصداقية والابتعاد عن المبادئ الفكرية يشكل حاجزاً نفسياً آخر، وبالإضافة إلى ذلك يرى الكثير من النخب والمثقفين أن الاندماج في عالم المؤثرين يتطلب تنازلات عن معاييرهم الفكرية الصارمة، ويخافون تشويه الرسالة العلمية التي يسعون نقلها، إضافةً إلى ذلك القلق والخوف من الانجرار إلى سطحية المحتوى والضغط لتحقيق الشعبية بدلاً من التركيز على القيمة المعرفية، على الجانب الآخر، يواجه بعض المؤثرين الرقميين عوائق علمية تتعلق بالقدرة على تقديم محتوى ذي عمق معرفي وغالباً ما يفتقر المؤثرون إلى الأسس العلمية والتحليل النقدي الذي تتميز به النخب المثقفة، مما يؤدي إلى تقديم محتوى يفتقر إلى الدقة والبعد عن الموضوعية، هذا التفاوت بين العوائق النفسية للنخب والعوائق العلمية للمؤثرين يخلق فجوة في الساحة الرقمية، حيث يبقى الجمهور متأرجحاً بين السطحية والجاذبية من جهة، وغياب النخب المثقفة عن الفضاء الرقمي من جهة أخرى.
معركة التأثير – شمال غرب سوريا
في سياق الأزمات المتراكمة، وخاصة في شمال غرب سوريا، تتعمق الحاجة لفهم الدور الذي يلعبه كل من المؤثرين الرقميين والنخب المثقفة في تشكيل الرأي العام سيما أن المؤثرين الرقميين أصبحوا أداة قوية للتعبئة والحشد والمناصرة، خاصة في ظل الاحتجاجات والانقسامات حيال القضايا المستجدة، وأبرزها افتتاح معبر أبو الزندين مع نظام الأسد وحراك تموز واعتصام الكرامة والمواقف الشعبية التي تتسم بالتفاوت لغالبية القضايا، علاوة على ذلك يمكن للمؤثرين تسليط الضوء على القضايا المحلية وتوجيه الانتباه إلى المعاناة اليومية للسكان بلغة بسيطة وسريعة يفهمها عامة الناس، لكن يبقى السؤال حول مدى عمق معرفتهم بالقضايا المعقدة التي تواجهها سوريا عامة وشمال غرب سوريا خاصة، وقدرتهم على تقديم حلول مستدامة وآراء تتسم بالمنطقية والعقلانية؛ من جهة أخرى، تجد النخب المثقفة التقليدية نفسها في موقف حرج يستدعي أن تعمل إلى إعادة تقييم دورها، سيما وأنها تواجه تحدياً مزدوجاً يتمثل في الحفاظ على مصداقيتها العلمية، وتقديم تحليلات معمقة، وفي الوقت نفسه التواصل مع جمهور أصبح يميل أكثر نحو الاستهلاك السريع للمعلومات سيما وأنها تمتلك أدوات تحليلية قوية قادرة على تقديم رؤى استراتيجية يمكن أن تكون حجر الزاوية في بناء الوعي الجمعي وتقدير الموقف تجاه المتغيرات السياسية والاجتماعية بشكل أفضل، لكنها تحتاج إلى تبني فلسفة جديدة في العمل وإعادة النظر في أدواتها وتحديث أساليبها للوصول إلى شرائح أوسع من المجتمع.
باحث سوري
- القدس العربي