يمكن أن تكون ابنتك، ابنك، صديقتك، صديقك، حبيبك أو حبيبتك، زميلك في العمل، مديرك، ابن عمك أسير وهم، يسميه (قضية)، يلبس نظارة اسمها نظارة الموتور/ة، يقضي عمره أسير قضيته/وهمه الذي صنعه، يركض طول عمره من قضية إلى قضية، أعني: من وهم إلى وهم!
لا يستطيع هذا الشخص أن يكون إنساناً طبيعياً يقرأ العالم بعين هادئة ناعمة لطيفة، موضوعية، بحثية، بل لا يمكنه العيش إلا في زريبة القضايا التي توهمها، أو زعم أنه يمثلها!
نتيجة أمراضه يغدو كل شيء في حياته قضية: كأس الشاي إن لم تشاركه طريقته في تخميرها قضية، طريقة طبخه لـ (الجز مز) قضية، نوع حذائك وموديله قضية، مكالمتك مع صديق عتيق قضية، “بوست” عبر الفيس بوك يصير قضية!
لا يمكنه شرب القهوة أو الاستمتاع بلحظة حب من دون أن يضعهما في زريبة القضايا التي يدعيها، من رضي الدخول في زريبته بصفته جزءاً من قطيعه، يرحّب به ليس بصفته شريكاً أو صديقاً أو مناقشاً، بل بصفته خروفاً من قطيع القضية!
يغضُّ النظر عن كل من دخل زريبته، لأن البوصلة ليست لديه القضية بالمعنى الأخلاقي والقيمي، بل بصفة القضية سُلّماً مرة، وموضة تارة، ونجومية أو أوكسجين حياة!
منذ أن ولد، ولد في حضن القضية، ألم يتربّ في ظل خطابات القائد، يوم كانت قضيتنا محاربة طواحين الهواء والإمبريالية، ولا حياة في هذا البلد إلا للتقدم والديمقراطية!
يحسب أن الحياة لا يمكن أن تعاش من دون وجود معركة فيحوّل كل ما حوله سيوفاً ودبابات وقذائف مدفعية.. ليطلقها على الجميع ممن يناقشون وهمه، أو يريدون أن ينبهوه إلى أن تفاصيل كثيرة أبسط من أن تعاش كـ قضية، وأنه من الأفضل أن تؤخذ جوانب كثيرة منها “زي ما هي” ياللي بتسأل عن الحياة خذها كده زي ما هي” وفقاً لكلمات مأمون الشناوي!
مسكين هذا النوع من البشر، لو وجدت مصحّات كافية لسمينا أحدها مصحة الشفاء من زرائب القضايا. وجعلناه زعيماً فيها، يداوي أمراضه وأوهامه بأطر التميز ، مرتدياً عباءة القضية!
لنأخذ المشهد السوري المعارض وتقلباته المؤسساتية في الفترة الأخيرة في الشمال السوري وعنتاب وإسطنبول وأوروبا في إطار إعادة التنظيم والموقف من المفاوضات مع النظام سنجد الفرق جلياً بين السياسي صاحب القضية من جهة، والسياسي تاجر الشنطة من جهة أخرى الذي يظن أن كل شيء قابل للتفاوض والبيع والشراء بحجة أن السياسة مصالح وليست أخلاقاً!
ليس لديه رؤية أو سعة أفق أو عينان، إنما عين واحدة هي عين القضية التي يعتاش على أوكسجينها قبل أن يرفسها ليبحث عن قضية أخرى وفقاً للموجة السائدة، مرة تراه ثورياً، ومرة تراه أوربياً، ومرة لاجئاً، ومرة متديناً، وهو في ذلك ليس صاحب رؤية أو استراتيجية يطورها وتتطور حياته بها، بل لا يمكنه أن يخرج من القضية العابرة والمهترئة!
وبما أنه – لو أردنا مقاربة المشهد السوري- كان تاجر شنطة وفقاً للتعبير السوري السائد في إشارة إلى بيع بضائع دون كفالة أيام تجارة الشنطة مع الاتحاد السوفييتي والصين لاحقاً، فإنه حمل شنطته ولحق بركاب القضايا السورية التي لا تنتهي، وصار ينتقل من قضية إلى قضية لا يجد حرجاً في الوقوف صباحاً مع هذه القضية ومساء مع قضية أخرى مغايرة كلياً.
لنأخذ المشهد السوري المعارض وتقلباته المؤسساتية في الفترة الأخيرة في الشمال السوري وعنتاب وإسطنبول وأوروبا في إطار إعادة التنظيم والموقف من المفاوضات مع النظام سنجد الفرق جلياً بين السياسي صاحب القضية من جهة، والسياسي تاجر الشنطة من جهة أخرى الذي يظن أن كل شيء قابل للتفاوض والبيع والشراء بحجة أن السياسة مصالح وليست أخلاقاً!
لننظر إلى مشهد فيس بوك السوري في الأسابيع الأخيرة لنكتشف كم من تاجر شنطة كنا ظنناه ذات يوم صاحب قضية، الذي يستثمر أي قضية من قضايا الآخرين، ليصدر بياناً، أو يقود حملة، وربما يحتاج الأمر إلى مظاهرة، أو أمسية شعرية، ووفقا لأقل تقدير فإنه يغير حالته في الواتس آب، إلى “إنا لله وإنا إليه راجعون” مع خلفية سوداء، وحين تسأله عن المتوفي؟ يقول لك: الذكرى العاشرة لوفاة ابن خالة جد والدة عمة ابن جيراننا، الذي عاش جدي بجانب خالته ثلاثة أيام قبل نصف قرن.
وجد تاجر الشنطة القضياتاوي مرتعه الخصب في وسائل التواصل الاجتماعي، أو إن شئت التفتيت الاجتماعي، وفقاً لجوانب عدة من المشهد السوري، يركب على ظهر أي بوست، لا يعرف عنه شيئاً أو عن خلفية أي ترند سوري، يسحب الشهادات الجامعية من هذا ويمنحها لهذا، يوزع شهادات الوطنية وفقاً لمعاييره الذاتية أو الشللية أو المنفعية، ينكر على الآخرين جهدهم وسهرهم وتعبهم وقضاياهم إن لم يكونوا معه في المركبة ذاتها.
يبدي رأيه بثقة جاهل في قضايا لا يعرف عنها شيئاً، ويظن أن أي حديث عابر يمكن أن يتحول إلى قضية، مولع هذا النموذج يـ “قيْضية أو تقييض” السهل والعابر والمؤقت والبسيط والناعم.
يقتله نجاح الآخرين، فيترك كل الإيجابيات ويركز على خطأ حدث منذ سنوات، أو يكبِّر صغيراً عابراً، فهو لا يؤمن بنظرية النصف الملآن من الكأس، لأن عينيه لا ترى إلا النصف الفارغ منها. لا يمكنه أن يبدأ بإشادة أو يشير إلى نجاح، ولا يتذكرك إلا إن أخطأ الآخرون: شفت؟ ما قلتلك؟ صدقت كلامي الآن؟
لا يفهم هذ النوع من السلبيين، الذين يقتاتون على أوجاع الآخرين أو انكساراتهم أو عثراتهم أن القضية، والإيمان بها ليست “تجارة شنطة” دون ضمان أخلاقي أو مبادئ أو ثوابت، ولا يعي أن الإيمان بأي قضية يقتضي أن تؤسس على أسس أخلاقية إنسانية، تجعل من يحاورك أو ينظر إلى المشهد الذي تديره يقف باحترام لك مناصراً، حتى لو كان يختلف معك، وأن سر انتصار أصحاب القضايا الحقيقيين هو أخلاقهم ومبادئهم والتزامهم ونبلهم وصبرهم وشجاعتهم، وليس الركض من جهة إلى جهة أخرى واستغلال عثرات البشر المهنية و الحياتية والعلاقاتية!
النطوطة منهجه في الحياة، يعتقد أن وجوده قائم عليها، لا يوجد أوكسجين بعيداً عنها، ينط من قضية إلى قضية، تشرح له وتقول: ذهب زمان القضايا الكبرى التي أنهكتها خطابات القادة العرب وأحزابهم، والناس باتت تنظر إلى الأفعال وليس إلى الأقوال، وكذلك إلى الأخلاقيات العامة الإنسانية!
بعد أن ينكر على الآخرين أي قضية، يقول لك: أنا أبو القضية وأمها!
تذكره للمرة العاشرة، بأن زمان المتاجرة بالقضايا انتهى، وأن عالم البث المفتوح جعل كثيرين في أنحاء شتى من العالم أنصاراً لقضايا لم يعايشوها ووقفوا إلى جانب صاحب القضية المظلوم مع أنه الأضعف، ولعل ما نشاهده حالياً من مظاهرات طلابية مر عليها ما يقارب السنة تدعو لإيقاف الحرب في غزة ومناصرة القضية الفلسطينية أقرب مثال على أن القضية تكون قضية بصدقها وإنسانيتها وصدقها ومثابرة أهلها وليس بـ “كمّ الزعبرة” والنطوطة والإساءة.
لا يردُّ عليك، فتقول لعله يتأثر بالموسيقا فينقي روحه من المتاجرة بقضايا الآخرين بالإصغاء والتأمل والدندنة، تدعوه إلى سماع أغنية أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام “من ملف القضية” التي كتبت أواخر عام 1973:
طيِّب قولْ:
مين مسؤول؟
- مين مسؤول عن إيه يا أخينا؟
- ع اللي جرى لنا في غزة وسينا؟
= = =
إيه مشاك عند التحرير؟
- تحرير إيه يا جناب القاضى؟
أنا مش قاضى
- بكرا تصير!
بطَّلْ غلبه، و جاوبْ دوغرى!
- أنا غلباوى كده من صغرى!