لا يتبقى إلا العمليات البرية حتى تكتمل صورة “الحرب الشاملة”
لا شك أن المقاربة بين جبهتي لبنان وغزة بالنسبة للغزو الإسرائيلي البري مختلفة باختلاف المكانين عسكريا، لكن المقاربة العملياتية تحمل عوامل مشتركة، كما أن حرب 2006 قدمت لنا بعض المعطيات عن استراتيجية إسرائيل العسكرية. ففي غزة، سبقت العملياتُ الجويةُ العمليةَ البرية واستمرت لدعم القوات على الأرض حتى تحقيق المهام المخططة ضد مراكز ثقل الجانب الآخر وتليين الدفاعات واستنزاف قواته والتأثير في البيئة الحاضنة، والعمل على دفعه للإذعان لشروط التفاوض، أو الدخول في عمليات برية عالية التكلفة.
وبدأت الضربات الجوية والمدفعية للجيش الإسرائيلي بتاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأول، بينما بدأت العمليات العسكرية 27 أكتوبر في غزة. واستفادت إسرائيل من حرب غزة التي وفرت خبرات قتال بصفة خاصة لقوات الاحتياط التي تمثل ضعف القوة العاملة، لتتغلب على نقاط ضعف ظهرت في حرب 2006 بتدني الكفاءة القتالية والاستعداد القتالي لخمسة لواءات مشاة ومدرع، كما أتاحت الفرصة لإسرائيل في الحصول على السلاح والذخيرة والمعدات تحت بند مواجهة حركة “حماس”، بينما كانت ولا زالت تستعد لجبهات أخرى.
وفي حرب لبنان الثانية 2006 بدأت الضربات الجوية والمدفعية الإسرائيلية بتاريخ 14 يوليو/تموز لاستهداف مواقع “حزب الله”، ومخابئ الأسلحة، وطرق نقل الأسلحة، ومراكز الاتصالات، والقواعد، ومواقع الإطلاق، وأصاب الجيش الإسرائيلي مئات الأهداف التابعة لـ”حزب الله” بغارات جوية وقصف مدفعي، بما في ذلك مكاتب “حزب الله”، والطريق الذي يربط جنوب لبنان بدمشق، وأهداف أخرى. وتطور الموقف إلى عملية برية في 22 يوليو/تموز وتعبئة برية محدودة، إذ أرسلت إسرائيل حوالي 2000 جندي إلى جنوب لبنان. وبدأ الجيش الإسرائيلي عملية عسكرية واستولى على بلدة مارون الراس التي يسيطر عليها “حزب الله”. ودأب الجيش الإسرائيلي على إسقاط منشورات قبل العمليات تحث المدنيين على مغادرة هذه المناطق. وبالفعل السيناريو نفسه يتكرر الآن.
واليوم، يبدو أن إسرائيل على وشك تنفيذ عملية برية في جنوب لبنان بعد التأكيد مؤخرا وفي أكثر من مرة على أن الهدف الرئيس هو إعادة النازحين الإسرائيليين إلى منازلهم في الشمال بقوة السلاح، وهو ما يعني تزايد احتمال أن يتطور الصراع في الشمال مع “حزب الله” إلى حرب شاملة، حيث تصاعد القتال من تبادل نيران طبقا لما يطلق عليه “قواعد الاشتباك” دون عمليات قتال برية، إلى عمليات جوية وقصف إسرائيلي مكثف للبنان مرورا باغتيال حسن نصرالله وقيادات كبيرة، وصولا إلى تفجير مقر قيادة “حزب الله” بالضاحية الجنوبية,، النقطة التي يجب أن يطلق عليها “حرب لبنان الثالثة”، ولا يتبقى إلا العمليات البرية. حتى تكتمل صورة “الحرب الشاملة”.
يبدو أن إسرائيل على وشك تنفيذ عملية برية في جنوب لبنان بعد التأكيد مؤخرا وفي أكثر من مرة على أن الهدف الرئيس هو إعادة النازحين الإسرائيليين إلى منازلهم في الشمال بقوة السلاح
ولعل تصريحات رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هاليفي قبل أشهر عدة من حرب غزة، ترسم خطوطا عريضة لفكره العسكري، إذ قال لجنوده: “إن المناورة، أولا وقبل كل شيء، قيمة نفسية، خصم يعرف أنه قد يشعر بأحذية عدوه على الأرض. هذا مهم جدا للردع. هناك مستوى معين من الإنجازات في الحرب، لا يمكن تحقيقه دون مناورة برية”.
وجاء تصريح وزير الدفاع يوآف غالانت، في زيارة للمنطقة الشمالية الجمعة 27 سبتمبر/أيلول. وخلال مؤتمر صحافي مع قائد الفرقة 91 وكبار الضباط، مؤكدا على الفكرة نفسها، حيث شدد غالانت على الحاجة إلى الاستعداد في المنطقة. وأضاف غالانت: “لقد كنا ننتظر هذه الفرصة لفترة طويلة، ليس فقط في العام الماضي، ولكن لسنوات عديدة. لدينا عمل غير مكتمل مع كثير من العناصر هنا. وفي النهاية، نريد أن نعيش هنا بشكل صحيح، سواء في هذه المنطقة أو في الجبهات الغربية. لذا استمر، واستخدم الوقت، وستأتي المفاجآت، سواء للعدو أو لقواتنا. سنقدم لك أكبر قدر ممكن من التحذير، لكن الديناميكيات معروفة”.
لقد تم سحب الفرقة 98 (صاحبة التاريخ في معارك لبنان)، من خان يونس في جنوب غزة أواخر أغسطس/آب الماضي، وإعادة تموضعها في شمال إسرائيل وسط تصاعد التوترات مع “حزب الله”، بعد أشهر من العمليات في قطاع غزة تحت القيادة الجنوبية. وسينضم المظليون وفرقة الكوماندوز الآن إلى الفرقة 36 والفرقة 91 تحت قيادة المنطقة الشمالية، كذلك اللواء 7 مدرع قام بتنفيذ تدريبات في شمال إسرائيل، في صورة نشرت في 26 سبتمبر 2024.
وقد أعلن الإعلام العسكري الإسرائيلي يوم الجمعة 27 سبتمبر/أيلول أن الجيش أكمل تعبئة لواءي الاحتياط 6 و228 استعدادا لتوسع محتمل للصراع في لبنان وتوغل بري محتمل. وبالإضافة إلى اللواءين، حشد الجيش الإسرائيلي أيضا عدة كتائب احتياطية إضافية لدعم الجهود الرامية إلى تأمين المنطقة الشمالية وتمكين السكان من العودة إلى ديارهم بأمان. وفتحت مستودعات للطوارئ، ووزعت معدات لوجستية وقتالية على جنود الاحتياط.
هذه الإجراءات تؤكد اكتمال الحشد القتالي على جبهة الشمال وتشير إلى نشوب صراع أوسع في لبنان يشمل عمليات برية بالإضافة للعمليات الجوية والبحرية.
المناورة، أولا وقبل كل شيء، قيمة نفسية… “خصم يعرف أنه قد يشعر بأحذية عدوه على الأرض”
الحيلة في الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية
حالة عدم اليقين حول احتمالات تطور العمليات العسكرية في لبنان إلى “حرب شاملة”، وعمليات قتال برية أو “مناورة برية” كما يطلق عليها الجانب الإسرائيلي، هي جزء من استراتيجية الحرب.
الحيل والخداع والتضليل مكون رئيس للعقيدة العسكرية الإسرائيلية، التي اعتنقوها في الماضي، حتى قبل تأسيس الجيش الإسرائيلي، الذي عمل بمبدأ الحيلة التي تمكن من خلق صورة خاطئة للوضع بالنسبة للعدو، وخلق حالة من عدم اليقين داخل نظام الخصم وتعطيل عملية “صنع القرار”.
مروحية أباتشي تابعة للقوات الجوية الإسرائيلية تحلق فوق المنطقة الحدودية مع لبنان في شمال إسرائيل
ومن خلال الحيل، يمكن للجيش أن يجعل العدو يتصرف بشكل غير صحيح، ويضيع وقتا ثمينا في محاولة تقييم الوضع، ويستغل نقاط الضعف أو خلقها، ويلحق أضرارا جسيمة بمعنويات العدو وروحه القتالية، الخداع هو جوهر الفكرة العملياتية التي تصاغ حولها تكتيكات المعارك الحربية. والغرض من الخداع هو مفاجأة العدو، بالظهور في مكان وزمان غير متوقعين ومن ثم، فإن الخداع فى الحالة الإسرائيلية حاضر على كل المستويات، التكتيكي والعملياتي والاستراتيجي والسياسي.
وبعد تفجير البيجر، لم يعد القادة الإسرائيليون يخفون خططهم، وانتقلوا من مرحلة الحيلة إلى تغيير الواقع على الأرض.
الحرب البرية على جبهة الشمال مسألة وقت لن يوقفها إلا تسوية سياسية تحقق الهدف السياسي للعملية، وهو إذعان “حزب الله” لمطالب الجانب الإسرائيلي بتنفيذ القرار الأممي رقم 1701.
- المجلة