في ذروة الحرب الإسرائيلية الدموية على لبنان وفي ظل حرب الإسناد التي باشرها حزب الله، أعلن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي استعدادا بلاده لمباشرة مفاوضات مع الولايات المتحدة حول الملف النووي والدول الأخرى المعنية، وهو ما طرح تساؤلات عما إذا كانت الجبهة مع لبنان جزءًا من الأوراق التفاوضية الإيرانية.
تصريح عراقجي هذا تزامن مع تصريحات الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في نيويورك، 24 أيلول الجاري، أقل ما يقال إنها أحدثت جدلاوصاغت الإشكاليات حول تخلي إيران عن حلفائها في المنطقة، لا سيما حزب الله اللبناني. إذ قال بزشكيان في مقابلة مع إنه «لا يستطيع حزب الله أن يقف أمام دولة تدافع عنها وتدعمها وتغذيها الدول الغربية والدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية».
قرأ الكثير من المحللين موقف بزشكيان بأنه تخل واضح لإيران عن حلفائها الإقليميين، لاسيما حزب الله وجماعة الحوثي الذي أكّد بزشكيان في مقابلته أن «الحوثيين في اليمن» لا يستمعون إلى أوامر الحكومة الإيرانية». وقد أظهر بزشكيان خلال اجتماع الجمعية العمومية في الأمم المتحدة مواقف فاجأت الحلفاء قبل الخصوم، لدرجة أنه كاد أن يطلق عليه نيلسون مانديلا القرن الواحد والعشرين وينال جائرة نوبل للسلام.
طبعًا ما قاله بزشكيان لا يعبّر عن سياسة إيران التوسعية في المنطقة، ولا يتلاقى مع طموحات الحرس الثوري الذي عمل لسنوات طويلة في المنطقة وقدّم الكثير من المال والجهد والتدريبات، ليأتي رئيس يدفع بجهود الحرس نحو الهاوية. لهذا برّر المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران، علي خامنئي، بأنّ ما قاله الرئيس هو باب من الدبلوماسية وهو ما يجب أن يٌقال في حضرة الدول وفي الأمم المتحدة.
وكأن السيد خامنئي يميّز في كلامه هذا بين الدبلومسية الإيرانية وبين العمل الميداني، حيث إن هذا العمل لا يمكنه أن يخرج من مشروع إيران في المنطقة، وهو الذي بدأ مع بداية الثورة الإيرانية عام 1979، وبدأ العمل على تصديره إلى الدول العربية. اليوم، وحسب المتابعين، يتواجد النفوذ الإيراني في أكثر من بلد عربي، ولديها جماعات تأتمر لقراراتها لا بل يذهب البعض لكي يقول إنها تنفذ سياساتها في المنطقة. كيف لا، وهي الداعمة لترساناتها العسكرية، والممولة لميزانياتها بشكل رئيسي، لهذا يسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى الدفع بالولايات المتحدة للانغماس بعسكرها في الحرب الدائرة في الشرق الأوسط، وهو الوحيد الذي يحاول توسيع الحرب ودفعها نحو الحرب الكبرى في المنطقة.
رغم «التراجع التكتيكي» الذي تحدث عنه خامنئي، فهو بالنسبة إلى إيران بمثابة اللعب في الوقت البدل عن الضائع، لتتجلى الصورة النهائية وتتبلور في شكلها النهائي لما ستؤول إليه الحرب الدائرة في المنطقة
تتقاطع التوجهات الأمريكية والإيرانية حول رفض توسيع الحرب، إذ يجد البلدان بان أي حرب شبيه بالحرب الكبرى لها ارتدادات حقيقية عل مصالحهما في المنطقة. ليس هذا وحسب، بل إن أي حرب كما يتمناها نتنياهو ستصبّ في صالح خصوم إيران تحديدًا دول الخليج العربي، وأمريكا تحديدًا روسيا والصين اللتين تتحايلان الفرص لإزاحة النفوذ الأمريكي من الشرق الأوسط، المنطقة التي يصنفها علماء الجيوساسية بأنها من مناطق «الإرتكاز» أي محورية في ربط العالم القديم المستحدث اليوم: آسيا، أوروبا وإفريقيا.
في قراءة لما قاله بزشكيان، لا نجد فيه تخليا عن الوكلاء، بل رسالة مبطّنة واضحة إلى من يحاول العبث مع الجمهورية الإسلامية في إيران. فاعتبار أن الحزب لا يستطيع مواجهة إسرائيل وحيدًا لا يعني التخلي عنه، بل دليل هو توجيه رسالة إلى إسرائيل، بأنّ أي عمل عسكري واسع في لبنان لإضعاف الحزب، يعني أنه لن يكون وحده في الميدان. لهذا ذكرت تقارير بثتّها قناة 12 الإسرائيلية، من أنّ هناك أكثر من 40 ألف مقاتل من جنسيات يمنية وعراقية وباكستانية وأفغانية وسورية، بدأت تتموضع على الحدود مع سوريا قرب الجولان المحتل إستعداداً للحرب.
الحزب ليس وحيدًا في الحرب، بل هناك الفصائل العراقية الموالية الإيرانية، التي عملت على توجيه ضربات بطائرات مسيرة إلى منطقة إيلات الإسرائيلية، الأربعاء 25 أيلول، حسب ما أفادت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية. كذلك الأمر لم تزل جماعة الحوثي توجه صواريخها البالستية لضرب تل أبيب، كما أفادت وكالات أنباء عن سماع دوي إنفجارات قوية في سماء تل أبيب، ليل الخميس 26 أيلول الماضي، مصدرها اليمن.
لم تتخل إيران عن حلفائها، ولن تفعل ذلك، فهؤلاء يشكلون جزءًا من حلم لحضارة من تاريخ البشرية، كان لها حضور في المنطقة لمئات من الأعوام. وهم يلعبون دورًا في صناعة حضورها اليوم في المنطقة، في ظلّ الانقسام الدولي العامودي الحاصل، بين روسيا والصين من جهة، حيث إيران تعتبر ركيزة لهما في الشرق الأوسط. وبين الولايات المتحدة الذي تجد في إيران مشروعًا لفرض لعبة التوازنات في المنطقة، فالسياسة الخارجية الأمريكية، ترتكز على التوازنات الأربعة كي تحافظ على حضورها، إضافة إلى الإيرانية، هناك التركية والعربية، تحديدًا المصرية اليوم، حيث تعمل واشنطن على تفعيل الدور المصري العسكري كقوى في مواجهة الركائز الأخرى، لهذا وافقت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) على صفقة لبيع مئات الصواريخ إلى مصر مقابل 740 مليون دولار أمريكي، وأخيرًا الإسرائيلية التي تقدم لها الدعم المفتوح.
تحتاج إيران إلى إعادة إبرام صفقة ملفها النووي مع الغرب، فهذا أكثر من حاجة ملحة، لاسيما وإنها تجد في هذا رفع العقوبات المفروضة عليها والتي تنعكس على أدائها التوسعية، من خلال تمويل حلفائها الذين يخوضون حربًا مفتوحة مرشحة لتصل نيرانها لطهران. فهناك من وجد أن الدعم الأمريكي لإسرائيل يهدف إلى استنزاف إيران المعاقبة، والمطوّقة، لأخذها مرغمة إلى التوقيع على الملف.
رغم «التراجع التكتيكي» الذي تحدث عنه خامنئي، فهو بالنسبة إلى إيران بمثابة اللعب في الوقت البدل عن الضائع، لتتجلى الصورة النهائية وتتبلور في شكلها النهائي لما ستؤول إليه الحرب الدائرة في المنطقة، عندها سيتوجب على إيران رسم خارطتها الجديدة بالتنازل عن بعض وكلائها الإقليميين حسب ما يتطلّبه الواقع.
كاتب لبناني
- القدس العربي