… وهذا الانسحاق أمام اسرائيل باسم الوطنية المصرية!
مصطفى الحسيني – القاهرة
اعتمد عبد المنعم سعيد، في مقاله "لماذا هذا اﻻنسحاق الفكري باسم القضية الفلسطينية؟" ("النهار”7 /2010/1)على إغفال ما ﻻيجوز إغفاله وتضخيم ما ﻻ يتحمل التضخيم. وبقدر مألوف من خلط ما ﻻ يختلط.
ما ﻻ يجوز إغفاله هو أن غزة كانت تحت يد الدولة المصرية منذ حرب 1948 حتى حرب 1967. وأن تلك الدولة هي التي خسرت غزة ﻹسرائيل في حربي 1956 و1967 .
في المرة اﻷولى،1956؛ استطاعت الدولة المصرية استعادة غزة من إسرائيل ﻷن مقاليد أمورها ( الدولة المصرية) كانت بيد قيادة وطنية استطاعت توظيف علاقاتها الدولية لتحقيق هذا الغرض.
هل يمكن أن ﻻ يعرف عبد المنعم سعيد أن إسرائيل خرجت من قطاع غزة بعد أن تلقت إنذارين متوازيين ومتزامنين ومتطابقين من رئيس الوﻻيات المتحدة دوايت أيزنهاور ومن رئيس وزراء اﻻتحاد السوفياتي نيكوﻻي بولغانين، أي من موسكو وواشنطن اللتين كانتا طرفي اﻻستقطاب الدولي في ذلك الزمان؛ فكان عليها أن تنسحب دون تفاوض أو شروط؟ أما حسب المدرسة السياسية التي يعمل سعيد ضمنها، فإسرائيل خرجت من غزة [ وغيرها من اﻷراضي التي كانت تحتل]، بفعل التدخل الدولي أو بفضل المجتمع الدولي، هذا صحيح، لكن ما أتى بهذا التدخل هو إدارة وطنية لعلاقات مصر الدولية؛ جعلت موسكو ترى في حسن العلاقات معها، رصيدا لها في العالم الثالث، الذي كانت مصر ضلعا في قيادته الثلاثية مع كل من الهند ويوغوسلافيا، وبتوافق مع موسكو وتفاهم مع الصين. أما واشنطن فقد جعلها "مركز مصر" ــ الحقيقي ﻻ المتوهم ـ إقليميا ودوليا، تدرك أن مفتاح علاقاتها بدول المنطقة، بيد القاهرة.
في ذلك الحين وضعت القيادة الوطنية المصرية في سلة واحدة انسحاب قوات العدوان الثلاثي ـ اﻹسرائيلية والفرنسية والبريطانية ـ من سيناء وغزة، ﻷنها كانت تدرك أن غزة تحت يد مصر على سبيل اﻷمانة. وأن مسؤولية استعادتها،تقع على عاتقها. وأن "خيانة اﻷمانة" فعل مشين ﻻ يرتكبه سوى فاقدي الكرامة الوطنية، مهما ارتفعت عقائرهم بالحديث عنهما.
قد يفيد الدولة المصرية القائمة اﻵن أن تدرك أن مسؤوليات الدول وأماناتها، ﻻ تتغير، ناهيك عن أن تسقط، بتغير نظم حكمها أو حاكميها. وأن استعادة غزة ، هي مسؤولية الدولة المصرية، إلى أن تستعاد. أما المشاركة في إحكام الحصار اﻹسرائيلي عليها فهي عدوان يفوق في لاأخلاقيته الاحتلال اﻹسرائيلي ذاته.
أما في المرة الثانية، فنحن جميعا نعرف أن الدولة المصرية لم تفعل ما كان عليها أن تفعل، ﻻستعادة غزة؛ بالحرب، عندما حاربت. أو بالديبلوماسية، عندما اعتصمت بها واكتفت. بل إن حاكمها الذي حارب وفاوض، تذرع في استبعاده التفاوض مع إسرائيل بشأن غزة، بذرائع من قبيل أن "مصر لن تتفاوض نيابة عن الشعب الفلسطيني". بل وصل إلى التذرع بأن "مصر ليست لها أطماع في اﻷراضي الفلسطينية.” لينتهي إلى ترك غزة بيد إسرائيل.
كان هذا ما أغفله سعيد.
أما ما عمد إلى تضخيمه، بينما ﻻ يقبل التضخيم ، فهو موعظته حول "الوطنية المصرية" التي استعان فيها بنصوص من معاهدة السلام المصرية / اﻹسرائيلية. هنا يصعب تصور أن دﻻﻻت ما اورد من نصوص، فاتت عليه؛
"إن الحدود الدائمة بين مصر وإسرائيل هي الحدود الدولية المعترف بها بين مصر وفلسطين تحت الانتداب كما هو واضح بالخريطة في الملحق الثاني، وذلك دون المساس بما يتعلق بوضع قطاع غزة.”
أﻻ ينطوي هذا النص على اعتراف مصري ملتبس يسيادة إسرائيلية على قطاع غزة؟ أما العبارة اﻻعتراضية: “وذلك دون المساس بما يتعلق بوضع قطاع غزة.” فلا يخفى من السياق أنها إنما أدخلت على النص من قبيل التغطية على ما ينطوي عليه من تنازل فادح تقدمه الدولة المصرية ـ التي ﻻتملك تقديمه ـ أما النص المستقيم الذي يعبر عن التفسير الذي يقدمه سعيد، فكان يمكن أن يكون كما يلي:
“إن الحدود الدائمة بين مصر وإسرائيل هي الحدود الدولية المعترف بها بين مصر وفلسطين تحت الانتداب، مع مراعاة "خطوط الهدنة التي توضحها الخرائط المرفقة باتفاق الهدنة بين مصر وإسرائيل في 1949.”
غني عن الذكر أن الصياغة اﻷخيرة، لم تكن عسيرة على المفاوض المصري، لو كان يريد الوفاء بـ "أمانة قطاع غزة.”
ﻻ يقف التضخيم عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى استعارة لغة وطنية مشجعي الهوس بكرة القدم، كما تجلت في "معركة الجزائر" حيث كرّم رئيس الجمهورية المنتخب الوطني لدى عودته خاسرا من مباراة مع الجزائر على أرض الخرطوم.
أما اللغة، الغوغائية التي ﻻ تليق بالكاتب والتي استخدمها ضد تيارات الاسلام السياسي ثم مد خيمتها إلى كل ما في البلاد من تيارت وقوى سياسية، فلا شأن لهذا التعقيب بها، ﻷن كاتب التعقيب يلزم نفسه أن ﻻ يتحدث إﻻ باسمه.
(صحافي مصري)
"النهار"