قد يبدو غريبا ذلك الإعلان الصادر عن جهاز الاستخبارات الروسية، الذي يتحدث عن نية جهازي الاستخبارات الأمريكية والبريطانية، تجنيد عناصر لشن هجمات على القواعد العسكرية الروسية في سوريا. ويقول الإعلان إن الهدف هو سعي كل من لندن وواشنطن إلى إيجاد حالة من عدم الاستقرار في سوريا، تقود إلى إحداث نوع من الفوضى في الشرق الأوسط، في ظلها يمكن تحقيق هدفهما الجيوسياسي المتمثل بالهيمنة الدائمة على المنطقة، ودفع موسكو لإجلاء قواتها من سوريا. وهنا لا بد من الإشارة إلى تصريح كاديا كالاس المسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، التي اشترطت بشكل واضح خروج روسيا بالكامل من سوريا، كي تتعاون أوروبا مع القيادة السورية الجديدة.
التحليل السياسي للبيان الصادر عن جهاز الاستخبارات الخارجية الروسية، يشير إلى أمرين: إما أن المعلومات التي تحدث عنها ذات موثوقية عالية، وفي هذه الحالة كان من المفروض أن يتم إخبار السلطات السورية بها عبر القنوات السرية، كما هو معمول بين الدول، وليس بصيغة إعلان، أو أن المعلومات الواردة فيه مُضللة، الهدف منها الابتزاز السياسي للسلطات السورية، كون روسيا هي أحد الخاسرين بعد سقوط نظام بشار الأسد، بالتالي فهي تريد تعزيز موقعها المتقدم في المنطقة الذي بات مهددا، خاصة أن موقعها الجيوسياسي على البحر المتوسط من خلال قاعدة طرطوس، ذو أهمية عالية، لأنه وسيلة ضغط على جنوب أوروبا، وأيضا مدخل إلى افريقيا والشرق الأدنى.
موسكو تقول هناك سلطة شرعية جديدة في سوريا، وهي مضطرة للتعامل معها بحثا عن مصالحها، التي تتوافق مع مصالح السلطة الجديدة. كما تُراهن على أن البراغماتية ستسود بين البلدين
لكن التمعن أكثر في الإعلان يشير إلى أن موسكو تريد القول، إن الولايات المتحدة وبريطانيا هما الراعيان الحقيقيان للسلطات الجديدة في سوريا، إضافة إلى تركيا، وفي هذه الحالة فإنها تشتبه بعدم القدرة على النجاح في الاتفاق مع السلطات السورية الجديدة في الإبقاء على قواعدها، وربما على المدى المتوسط سترفرف أعلام أمريكا وبريطانيا على قاعدتي طرطوس وحميميم، لكن في الحسابات الأخرى ليس مُستغربا أن تُقدم كل من الولايات المتحدة وبريطانيا على مهاجمة القواعد الروسية في سوريا، من خلال جهة ما، بهدف إنهاء الوجود الروسي في إطار الصراع الاستراتيجي بين الطرفين. صحيح أن السلطات السورية قالت إنها لا تنوي خرق الاتفاقيات المتعلقة بالقواعد الروسية على أراضيها، وهي تتحدث عن علاقات تاريخية واستراتيجية مع روسيا، لكن كل التصريحات الصادرة عن الغربيين، تقول بضرورة أن تغادر القواعد الروسية الأراضي السورية. فالغرب يعلم جيدا أن هذه القواعد مهمة جدا من أجل القوة الروسية وعرضها وإيصالها إلى افريقيا، حيث أنها توفر دعما للقواعد الأخرى ولمجموعة فاغنر وغيرها من الميليشيات التي تتبع لروسيا في افريقيا عموما، لذلك يمكن فهم الأسباب التي تدفع الدول الغربية، من أجل طلب إنهاء الوجود الروسي من هذه القواعد، لكن ليس في الوارد أن تصبح سوريا مقرا لوجود عسكري تابع للولايات المتحدة والغرب والناتو. فهذه القواعد قيمتها عالية لروسيا فقط لأنها القواعد الوحيدة لها في شرق البحر المتوسط من أجل أسطولها البحري، بينما حلف شمال الأطلسي لديه قواعد عديدة في شرق المتوسط، في اليونان وتركيا وإيطاليا وغيرها. والولايات المتحدة حتى لو أخرجت قواتها من شمال شرق سوريا، فما زالت لديها شبكات معقدة من القدرة على الوصول إلى سوريا عبر قواعدها في العراق والأردن وإسرائيل والخليج. وهم لا يريدون قواعد ثابتة في سوريا، لكن يريدون أن يكون لهم تأثير، وما يهمهم أن لا يكون هناك وجود إيراني أو روسي.
أما عن موقف السلطات الجديدة في سوريا من الوجود الروسي على أراضيها، وفي ما إذا كان هناك قرار، أو استراتيجية واضحة للتعامل مع هذا الموضوع، فإن المتحكم في هذا الأمر عاملان مهمان: أولا الموقف السلبي لروسيا ضد الشعب السوري منذ بداية الثورة. فهي متهمة بقتل السوريين بطيرانها وبمجموعات فاغنر، واستخدمت حقها في النقض (الفيتو) في الأمم المتحدة عدة مرات لإعاقة عدة قرارات دولية تخص الشأن السوري، لذلك لا يمكن محو هذا الموقف من ذاكرة الشعب السوري، وهذا يشكل عامل ضغط على صانع القرار في سوريا حاليا، على الرغم من أن أحمد الشرع قال، إن العلاقات مع روسيا تاريخية واستراتيجية. ثانيا العامل الأوروبي الذي وضع مسألة رفع العقوبات عن سوريا مشروطا برفع القواعد الروسية من الأراضي السورية. وعليه فموقف السلطات الجديدة في سوريا يتعلق بموقف الجانب الروسي، وماذا يستطيع تقديمه للجانب السوري. صحيح هناك تصريحات روسية باستعدادها لبناء وإعمار سوريا والمشاركة في عملية الانتقال الديمقراطي، تحت إشراف الأمم المتحدة، لكن موقفها هذا ليس واضحا بشكل تام حتى الآن.
أما بالنسبة للموقف الروسي فموسكو تقول، إن لها ثوابت سياسية كأي دولة أخرى، ومن هذه الثوابت اعتماد مبدأ الديمقراطية السيادية، الذي ينص على أن كل ما يجري داخل دولة ما لا يخص دولا أخرى، ولا يستدعي التدخل طالما لا يشكل تهديدا للآخرين، لكنها تبرر تدخلها في سوريا ودعمها لبشار الأسد بموجب طلب تقدمت به السلطات البائدة. الآن هي تقول إن هناك سلطة شرعية جديدة في سوريا، وهي مضطرة للتعامل معها بحثا عن مصالحها، التي تتوافق مع مصالح السلطة الجديدة. كما تُراهن على أن البراغماتية ستسود بين البلدين والذاكرة دائما قصيرة في العلاقات الدولية، لكن هل سترحل روسيا بشكل نهائي عن سوريا؟ هذا سيعتمد بشكل رئيسي على طلب القيادة السورية الجديدة. أما الآن فالسلطات الجديدة مُلزمة بحماية المنشآت الروسية على أراضيها، وضمان بقائها وفقا للقانون الدولي. وبما أن السلطة الجديدة هي حكومة تصريف أعمال، فلا يحق لها إلغاء الاتفاقيات الموقعة من قبل النظام السابق مع الدول الأخرى ومنها روسيا. لكن بمجرد أن تصبح هنالك سلطة دائمة جديدة، فمن حقها السيادي أن تطلب من روسيا إخلاء قواعدها في البلاد ورحيل قواتها كافة. ولأن روسيا تدرك أن هذا حق سيادي سوري، فهي تسعى اليوم لإقامة علاقات براغماتية مع السلطة الجديدة في دمشق. لكن هل سيجدي هذا الأسلوب في الحفاظ على مصالحها؟
ربما تُراهن روسيا على مبدأ لا توجد عداوات دائمة، ولكن هناك مصالح دائمة في العلاقات الدولية، وهذه المصالح تُملي على الجميع مراعاتها. وعليه فقد تسعى لرفع اسم هيئة تحرير الشام من قوائم الإرهاب كبادرة حسن نية، خاصة أن بوتين وقّع مؤخرا على قانون يضع آلية لشطب التنظيمات من قوائم الإرهاب. أيضا روسيا لديها شُركاء في المنطقة مثل قطر وتركيا، تستطيع من خلالهم الضغط على السلطات في دمشق لضمان بعض المصالح مثل، استخدام القواعد لأغراض لوجستية فقط.
كاتب عراقي
- القدس العربي