تستخدم مفردة «الواقع»، أو «الواقعية»، في التداول العربي المعاصر، بطريقة لا يمكن وصفها إلا بالأيديولوجية. دائماً يوجد متحدّث، يؤكد أنه ملتصق بالواقع، ويتخذ مواقفه على أساس الواقعية، متهماً مخالفيه بالانفصال عنهما، دون تقديم أي براهين متماسكة، على امتلاكه المعرفة الصحيحة والكافية عن ذلك الواقع. هذا يعني الادعاء بأنه لا يتكلّم بناءً على موقع اجتماعي، أو مصلحة، أو عقيدة، أو منهج نظري، أو ميول طائفية وثقافية، وإنما من قلب «الواقع» مباشرةً، ودون توسّط، وبالتالي فكلامه لا يقبل المعارضة، أو التكذيب، أو التحليل، أو النقد.
من يجرؤ على دخول مناقشة مع «الواقع» شخصياً؟ وهذا هو التعريف الأبسط للاحتيال الأيديولوجي: مذهب من الأفكار والرؤى، يُقدّم نفسه على أنه «الطبيعة» أو «الواقع»، وأحياناً الوحي أو النص الإلهي، مغطّياً بذلك على موقع وميول ومصالح الجهة التي تحمله. ما يجعل «الواقعية»، الموصوفة أعلاه، أيديولوجيا رديئة أكثر، افتراضها أن قراءة معيّنة للواقع، يجب أن تؤدي إلى نتيجة واحدة، وموقف سياسي موحّد أو شبه موحّد، ما يلغي المجال السياسي نفسه، فـ»الواقع»، الذي ينتج موقفاً حتمياً، سيفترض علينا الدخول في نوع من «الجبهات الوطنية»، ذات المنظور والهدف الواحد، الأمر الذي ينفي، من حيث الأساس، إمكانية وجود مواقع اجتماعية مختلفة، أو حتى متعارضة ومتصارعة، يحقّ لها التعبير عن نفسها، ورؤاها ومصالحها، واتخاذ مواقف مختلفة بناءً على ذلك، حتى لو اتفقت على القراءة نفسها للظروف الاجتماعية والسياسية، أي حتى لو اتفقت في رؤيتها لـ»الواقع».
قد يتماشى ذلك كثيراً مع نزعة «الحوكمة»، المنتشرة حالياً، التي تقوم، في جانب مهم منها، على إلغاء السياسة، لمصلحة نمط من التحكّم البيروقراطي/التكنوقراطي: لا نريد أفكاراً سياسية وثقافية متعارضة، فالخبراء يخططون، ويعرفون ما يلزم لأجل الازدهار، بل ربما الأخلاق الاجتماعية السليمة والصحيحة؛ ولا نحتاج حتى إلى قوى سياسية، فلينضوِ الناس تحت مظلة المؤسسات المحوكمة، بوصفهم أفراداً وليسوا قوى. والطريف أن هذه النزعة، الضد سياسية، تناسب حتى الجهاديين، الذين يبشّرون بمثلها حالياً في سوريا.
مفهوم «الواقع» أعقد بكثير بالطبع من هذا الاحتيال الأيديولوجي، وكذلك المذاهب والمناهج الجديّة، التي تصف نفسها بالواقعية، سواء في الفلسفة أو النظرية السياسية. ولكن بعيداً عن نقاش «الواقع»، ومستوياته المتعددة، مفاهيمياً، ربما كان الأجدى التساؤل عن الأسباب التي تجعل كثيراً من البشر يخضعون للاحتيال، رغم أنه يمسّ مباشرة رغباتهم ومصالحهم، بل حتى وجودهم الاجتماعي؟ بعبارة أخرى: كيف نسكت على خيارات ومقولات سياسية وأيديولوجية، نشعر بقوة بتبعاتها التدميرية علينا أو على آخرين؟ الأحداث الكبرى التي شهدتها المنطقة مؤخراً، مثل حرب غزة وسقوط النظام السوري، تجعل هذا السؤال شديد الضرورة. إذ كيف مرّ علينا خراب المدن والمجتمعات، والمغامرات المسلّحة غير واضحة الغايات والهدف، والتهجير، وخطر الشمولية الدينية، والاضطهاد الطائفي، بوصفه «الواقع» الحتمي، الذي لا يحق لنا أن نقترح ونسعى إلى بدائل عنه؟
إرهاب الابتزاز
تتردد دائماً، في أي صيغة من «الواقعية» المبتذلة، مفردات مثل الشعب أو الناس، أو الشارع. وهؤلاء دائماً لديهم روح أو نبض معيّن، يعرفه ويمثّله «الواقعيون»؛ فضلاً عن هذا يعانون من ظروف صعبة، فهم غالباً مضطهدون أو فقراء أو حتى جائعون. الأهم أنهم الكل، ووحدهم المهمون، الباقون يجب أن يلتحموا بهم، ويماهوا خطابهم معهم. لماذا؟ ربما لأن ذاك الشعب، أو الشارع هو الطرف الأصيل، أو المعبّر عن جوهر معيّن، أو أكثرية ما، وغيره فروع غير أصيلة، يعيبها اختلافها عنه. وهذا يعني أن غير الأصيلين لا يمكن أن تكون لهم حقوق متساوية، أو قدرة على التعبير، تخالف ما يريده الأصيلون. هذا النوع من المقولات يتضمّن بالضرورة نوعاً من الإلغائية، لكل ما يخالف التقديم الأيديولوجي للكتلة الموصوفة بـ»الشعب»؛ ويهدد، بشكل مبطّن أو صريح، بردة فعلها المتوقّعة على المخالفة؛ كما أنه يعتمد على طرح المعاناة بوصفها حجة، لا يمكن مناقشتها، وكأن أفكار مَنْ يعاني صحيحة بالضرورة، أو حتى تضمن خروجه من المعاناة. نتحدث إذن عن مزيج من الإرهاب والابتزاز، أو الإرهاب بالابتزاز.
إذا تجاوزنا الوظيفة الأيديولوجية لتلك المقولات، لن نحتاج إلى نقاش طويل، ففي مجتمعات لا تتوقف اضطراباتها الاجتماعية العنيفة؛ وانقساماتها الفئوية والعصبوية والطائفية، غير القابلة للتوفيق؛ بل حتى حروبها الأهلية، الباردة والساخنة، يبدو الحديث عن كتلة واحدة هي «الشعب»، أمراً غير مفهوم، مَنْ الذين يتصارعون إذا كان الشعب يمتلك روحاً وأهدافاً واحدة؟ ثم على أي أساس نتصوّر أن حاجات أساسية مشتركة لدى الجميع، مثل الأمن والمستوى المعيشي الجيد، ستولّد بالضرورة موقفاً موحّداً؟ ألا يمكن أن يرى كل طرف اجتماعي أن أمنه ومعيشته يتحققان بالتنافس أو الصراع مع الآخرين، أو لا يكونان إلا بحماية الذات منهم؟ الأغلب أن الابتزاز بالشعب أو الناس هو مقولة تروّجها أطراف تسعى للتغلّب على الآخرين، في ظل غياب أي آلية سياسية مستقرة، تضمن حدّاً أدنى من تمثيل التنوّع الاجتماعي، والمشاركة السياسية في القرار. يتم تعويض غياب الأطر، والإجراءات السياسية والقانونية والمؤسساتية القابلة للقياس، بأحاديث عائمة عن «الناس» واحتياجاتهم؛ كما تتم التغطية على تغلّب عُصبة معيّنة، وممارساتها القمعية تجاه غيرها، كونها تمثيلاً لروح الشعب المضطهد تاريخياً، أو الجائع.
قد يكون كل هذا نافعاً في أنظمة ديكتاتورية قوية، تقوم على مزيج من السياسات الاجتماعية، التي تؤمّن احتياجات فئات اجتماعية متعددة؛ والهيمنة الأيديولوجية، التي تضمن نوعاً من خضوع ورضا المحكومين، دون اللجوء دائماً إلى العنف المباشر، وبذلك تنتج تلك الأنظمة «شعبها» الخاص، ولو على حساب إقصاء وقمع، وربما إبادة، كل فئة قد لا تتسق مع ذاك الشعب وهويته. ولكن في دول مضمحلة، عاجزة عن أداء أبسط وظائفها؛ ومجتمعات منقسمة بشدة، لا سبيل لإيجاد آلية لاستيعاب تناقضها؛ ومساحات تتقاسمها الميليشيات، يُمسي الابتزاز بـ»الشعب» أقرب لمحاولة للتغطية على حرب أهلية، تُمارس بشكل يومي، حتى لو لم تشهد دائماً معارك كبيرة، فضلاً عن أنها مرشّحة دائماً للتصاعد بشكل شديد الدموية. هنا يمكننا أن نفهم أكثر فعالية الإرهاب بالابتزاز: الحديث عن «الشعب»، الذي يعاني، ليس سوى تهديد بكوارث مقبلة، قد تتسبّب بها العصبة أو الميليشيا الأقوى، تجاه كل من يقف في وجه تغلّبها. وهو تهديد يدركه الجميع، ويبقى في خلفية وعيه.
يبدو أننا تعوّدنا على العيش تحت التهديد، فمن تهديد الدول القمعية، وحتى تهديد الميليشيات وقوى الأمر الواقع، التي تأخذ سلطات الدولة، دون مسؤولياتها وبناها القانونية، علينا أن نصمت، ولا نعبّر عن وجودنا الاجتماعي، ومن ثمّ نقنع أنفسنا بأننا نفعل كل هذا، لأن «الشعب» يريده.
ضد التفكير
المشكلة الأخرى في «الواقعية» المبتذلة، أنها ليست فقط ضد السياسة، بل أيضاً ضد التفكير نفسه، فعندما يدّعي أنصارها معرفتهم المباشرة بـ»الواقع» و»نبض الشارع»، ودون حاجة لأي عمليات عقلية وسيطة، مثل التجريد والتحليل والمقارنة والاستنتاج والاستنباط، وإنتاج الموضوعات، ومعالجة البيانات، فهم يستهينون بكل مَنْ يمارسون هذه العمليات، بوصفهم متفلسفين، أو منظّرين، أو حتى مثقفين. قد تكون الثقافة السياسة الفقيرة، المستهينة بالفلسفة والنظرية والفعل الثقافي، «خصوصية عربية»، يصعب أن نجد لها نظائر فعلية في لغات وثقافات أخرى، فعلى الرغم من كل النصوص العالمية المكرّسة لنقد المثقفين، والتيارات الفكرية الناقدة لـ»النظرية»، يندر أن نجد مَنْ يعتبر الفلسفة أو الثقافة مذمّة أو انتقاصاً من أحد، أو حجّةً ضد كلامه. ربما باستثناء بعض الشعبويين، على الطراز الأمريكي الترامبي.
معاداة التفكير الشاملة هذه مرتبطة بتحطيم المجال السياسي، فعندما لا تكون هنالك قوى سياسة واجتماعية مستقلة، عليها ابتكار برامجها وخطابتها الخاصة، وتقديم منظورها المتماسك للمجتمع والتاريخ، و»الواقع» الذي تعيشه، سيسود خطاب الجموع، التي لا رأس لها، إلا القائد المتغلّب، وإنما تملك فقط «روحاً» و»نبضاً» و»حاجات»، ومناهضة بطبعها لأي عقل. لقد انتقل هذا الخطاب من الأنظمة الديكتاتورية، التي بدأت بتحطيم السياسة، إلى من يظنون أنهم ثوّارٌ أو متمرّدون عليها، وهم، في «الواقع»، ليسوا سوى نسخة مشوّهة عنها.
تقوم مناهضة التفكير أيضاً على المنظور شديد الذاتية، الذي يحسب أن إحساسه، وتجربته، ووجوده ضمن مجموعة هوية معيّنة، يعطيه معرفة مباشرة، لا ريب فيها، ولا يمكن مناقشتها، دون أي محاولة للتوصّل لمنظور متجاوز لمحدودية التجربة الذاتية، والتي لا يمكن أن تكون متكاملة، أو أمينة، أو خالية من فجوات وانحيازات الذاكرة، أو قادرة على ملاحظة كل البيانات والتفاصيل، خارج الدائرة الضيقة لصاحبها. يجعل هذا من التجربة نقيضاً لأي مفهوم منضبط عن «الواقعية». ومجدداً يمكن ربطه بالدول القمعية، التي حدّت بشدة، من أفق الجميع، وسجنتهم في ما يشبه المعازل المجتمعية، ونشرت بينهم أدوات رديئة للتفكير، من أهمها التجريدات الشمولية والمتعالية عن الأمة الأحادية، ذات الشعب الواحد، الذي يرفض أي تعددية، اجتماعية وفكرية.
يمكن القول إن هذا النوع من الشموليات، التي تزداد رثاثة مع الزمن، لا يقدّم إلا نظاماً واحداً للتعبير، يحوي مجموعة فقيرة وغير متقنة من المفاهيم والأدوات والمقولات، التي يَسهُل تكرارها من طرف الجموع، غير المسموح لها بأي استقلالية، وتجربة مستقلة؛ بل الصراخ بها بصوتٍ عالٍ، وممارسة العنف المادي والمعنوي على أساسها. ولذلك يبدو ذلك الصراخ العنيف «الأكثرية»، أو حتى «الشعب». خارج هذا النظام، الذي يدعم الهراء، يوجد بشر كثيرون، يضطرون لخفض أصواتهم، أو الصمت التام، أو مسايرة التيار، خوفاً من الإرهاب والابتزاز. الأنكى أن نظام التعبير هذا، على فقره، يُقدّم على أنه «الواقع»، الذي يجب أن نلتحم به، ولذلك سيكثر بالتأكيد «المنفصلون عن الواقع»، إذ يصعب بالتأكيد على البشر أن يتعاملوا مع ظروف حياتهم، والانتهاكات التي يعايشونها يومياً، والتهديد الشامل لوجودهم، بعدد محدود من الجُمَل، التي لا تقول شيئاً، ولا حيثية لها، إلا ضوضاء من يستسهلون ترديدها. ربما كان من المفيد أن ننفصل قليلاً عن هذا «الواقع»، ونلجأ إلى آفاق من التفكير والمخيلة، أكثر ذكاءً، والتي ستكون لذلك بالتأكيد أكثر واقعية من «الواقع».
كاتب سوري
- القدس العربي