لينا سنجاب
لا توجد عصا سحرية لنهضة سوريا. البلد بحاجة إلى كثير من الوقت، والكثير الكثير من الحكمة والتريث في معالجة الأمور، مع التشديد على ضرورة توثيق أي انتهاك، صغيراً كان أم كبيراً، وتسليط الضوء عليه حتى تتم معالجته.
هي مرحلة انتقالية تمر بمخاض صعب. فبعد عقود من استلاب الحقوق العامة والتجويع ومصادرة المواطنة، لصالح حفنة منتفعة استأثرت بمفاصل الدولة والاقتصاد وصنع القرار، تمر سوريا اليوم بمرحلة مفعمة بطاقة متفجرة من أهلها، الذين للمرة الأولى يشعرون بأن لهم صوتاً يُسمع، وحقاً يُكتسب، ويمكنهم المشاركة في المساحة العامة.
لكن الحال اليوم تحوّل إلى “ترند”. فمع احترام النوايا الحسنة لكل من يريد أن يساهم في التغيير، لكن يبدو أن عدد المتابعين والمشاركة على “السوشال ميديا”، أكثر أهمية من أثر العمل نفسه وآلية القيام به.
الكارثة التي تسبب بها الشيف أبو عمر الدمشقي عند الجامع الأموي، أدت إلى مقتل أربعة أشخاص وإصابة الكثير من بينهم أطفال، بسبب التدافع للحصول على طعام مجاني.
لا شك في أن الشيف أبو عمر نواياه حسنة بتوزيع الطعام، لكن شعبوية الأداء وغياب الاحترافية في تنظيم موائد يتوافد عليها المئات، ومن دون تنسيق أمني في المنطقة، وحتى اختيار المكان عند الجامع الأموي بأهميته التاريخية والدينية، كلها عوامل تصب في حالة “الترند”، أكثر مما تصب في هدف توزيع الطعام على أكبر عدد ممكن من المحتاجين.
كان القول السائد إن كنت تريد أن تفعل خيراً فلا تجعل يمينك تعلم بما تنفقه يسارك… أما حال اليوم، فافتح “لايف” وصوّر، وكلما كانت الصور احترافية، أو استعنت بطائرة “درون”، كلما زاد عدد المتابعين. لا احترام لوجوه الجوعى ولا اهتمام بكرامتهم وهم يتهافتون للحصول على الطعام.
والحادثة الثانية التي أثارت غضباً واسعاً بين السوريين، هي حالة طلاء سجن أمن الدولة في اللاذقية. الفيديو تسبب بحنق شديد لدى السوريين، سواء من المدافعين عن حقوق السجناء أم من المعتقلين السابقين. هي حادثة تنم عن جهل مدقع واستخفاف بألم من قبع داخل هذه السجون لسنوات وعقود.
المشكلة ربما ليست في النوايا، ولكن بمن سمح لهذا العمل بأن يحدث. فيما تمت المطالبة بإغلاق السجون وحمايتها من عبث القاصي والداني، بعد التعدي على الوثائق والأدلة في داخلها، كيف يسمح المعنيون بدخول مجموعة متحمسة من الشبان والشابات لطلاء الجدران وطمس الحقائق.
دعونا نتوقف قليلاً قبل المطالبة بمحاكمة من قام بطلاء السجون، ونطرح السؤال، هل هي مسؤولية الجاهل أم مسؤولية المؤتمن؟ ومن سمح بهذا العمل؟
هناك حالة من الفوضى تنتشر، فيما تقوم الإدارة في السلطة الجديدة، بمحاولات حثيثة لضبط الأمن وتجنيب البلاد عنفاً هي بغنى عنه، مع مقاومة فلول نظام الأسد للسلطة الجديدة، أو محاولاتهم المتكررة لبث الفتنة والإخلال بالأمن، كي يتجنبوا المحاسبة على جرائم الحرب التي ارتكبوها.
هناك فراغ إداري وسياسي أيضاً، فبينما تم تفعيل مؤسسات الدولة، بقي بعضها معطلاً، بخاصة مؤسسات الشرطة والجيش والأجهزة الأمنية. وهذه معضلة حقيقية. فبينما تُعد الشرطة المدنية والعسكرية أساسية في ضبط النظام في الشوارع وملاحقة المخالفات والاعتداءات اليومية، تم تغييبها حالياً، إلى حين تُعاد هيكلة بنية وزارة الداخلية.
لكن في مناطق وأحياء كثيرة، تم تسليح أبنائها للعمل مع رجال الإدارة الجديدة، للحماية من اعتداءات أو جرائم سرقة.
والحال هو أن “اللجان الشعبية” التي كانت تنتهك الحقوق بالأمس، باسم نظام الأسد، بعضها تحول إلى “رجال حماية” اليوم، بالشراكة مع الإدارة الجديدة، ولكن بهيئة وخطاب جديدين، أطلقوا لحاهم واستخدموا الدين كقناع لموجة جديدة من الانتهاكات.
انتهاكات من نوع مصادرة بيوت بدون وجه حق، فرض فصل النساء عن الرجال في بعض المناطق، استخدام خطابات وشعارات دينية في المناطق المعروفة بطابعها المدني المتحرر، إن لم تكن ذات غالبية مسيحية، بناء مسجد في حرم جامعة دمشق من دون أي موافقة ودراسات هندسية واضحة، أمر يحتاج إلى أشهر للموافقة عليه، بدأت عمليات الحفر له في غضون أسابيع قليلة بعد التحرير.
والحق يُقال إنه حين يتم التبليغ عن الانتهاكات، تقوم السلطات الجديدة بالتلبية ووقف الاعتداء والظلم الواقع فوراً، ولكن حجم الانتهاكات بات لا يُعد ولا يُحصى.
الفساد متأصل في سوريا، والأسد تركها حطاماً مهلهلاً بالفقر والعجز والخراب. ومنتفع الأمس لا يريد أن يتنازل عن موارده، فيعيث فساداً اليوم، ومن له عداء شخصي مع جار أو قريب، يستقوي عليه بادعاءات كاذبة للسلطات الجديدة،
ناهيك بأن السلطة الجديدة لا تمثل تياراً واحداً، فهناك من يريد أن ينهض بسوريا حديثة، غنية، تندمج مع محيطها الإقليمي، وتستعيد وجودها عالمياً، وهذا يتطلب دولة قانون تحافظ على مدنيتها وعلى احترام حقوق مكوناتها، وهناك من انتظر عقوداً ليصل إلى سدة الحكم ليطبق الشريعة الإسلامية، وباسم القانون أيضاً.
وبين هذا وذاك، هناك الكثيرون ممن يتصيدون الفرص لمكاسب شخصية، تضر بالصالح العام، وتبعث رسائل مقلقة كثيرة للمراقبين، أو الراغبين في العودة الدائمة إلى سوريا.
ثمة قضايا مهمة كثيرة لها الأولوية، كاستتباب الأمن وهذه ضرورة، لكن ربما من الأولويات أيضاً للحد من العبث بالمساحات العامة والتجاوزات، هو العمل على استقلال القضاء وتفعيل النقابات بوجوه جديدة غير ملطخة بالفساد والتبعية، كما كانت الحال منذ عقود.
لا توجد عصا سحرية لنهضة سوريا. البلد بحاجة إلى كثير من الوقت، والكثير الكثير من الحكمة والتريث في معالجة الأمور، مع التشديد على ضرورة توثيق أي انتهاك، صغيراً كان أم كبيراً، وتسليط الضوء عليه حتى تتم معالجته.