لا ينبغي المساواة بين مآسي الشعوب أو مقارنتها ببعضها بعضاً، لكن من المهم بمكان، التعلم والاستفادة من التجارب المختلفة بالشكل الذي يساعدنا على تصميم نموذجنا الخاص، الذي يتناسب مع أهداف مجتمعاتنا وآمالها، وقد تكون التجربة الرواندية تجربة مثيرة للاهتمام بالنسبة الى السوريين.
تحوّل اسم سويسرا من اسم دولة في أوروبا إلى مصطلح بات يُستخدم لوصف الدول، التي تحقق إنجازات ملحوظة في التنمية والتعايش والاستقرار. وهنا نستحضر سويسرا القارة الأفريقية – رواندا، التي تشكلت على أعقاب حرب أهلية وانتهاكات مروعة وجرائم إبادة جماعية، حصدت ما يزيد عن 800 ألف من مواطنيها، خلال 800 يوم فقط، كانوا في غالبيتهم من الأطفال والنساء. فما الذي يمكن أن نتعلمه من هذه التجربة، وهل يمكن أن تصبح سوريا في يوم ما، سويسرا الشرق الأوسط؟
تجربة الحرب الأهلية بين الهوتو والتوتسي في رواندا، هي واحدة من أبشع الحروب التي شهدها العصر الحديث، أكثر من 800 ألف شخص قُتلوا بشكل جماعي وبطرق لا إنسانية، أكثر من 500 ألف امرأة اغتُصبن، أُحرقت المنازل، ودُمرت المدارس، وشُرد الملايين الذين هاجروا إلى الدول المجاورة. هذه الجرائم كلها قُوبلت بتخاذل وتواطؤ من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، الذي اكتفى بدور المراقب اثناء حدوث جرائم الإبادة الجماعية، من دون أن يحرك ساكناً، بل سحب قوات حفظ السلام التي كانت موجودة حينها، بعدما قُتل 10 من عناصرها، وهو ما اعتبره الروانديون تخاذلاً، إن لم يكن مشاركة في الجريمة.
مع انتهاء جرائم الإبادة بانتصار التوتسي وسيطرتهم على الدولة، بدأت الوفود الأممية والمنظمات الدولية بزيارات مكوكية مستمرة إلى كيغالي عاصمة رواندا. وفي الذكرى العاشرة للإبادة الجماعية، أتت الأمم المتحدة ممثلّة بأمينها العام بان كي مون معتذرةً عن عجزها، ومعربة عن خجلها من عدم قيامها بما يجب، لإيقاف جريمة الإبادة الجماعية التي حدثت، وأقرت بأنه “كان في وسعنا أن نفعل الكثير لإيقافها، بل كان يجب علينا أن نفعل الكثير، لكنها لم تفعل”.
أشار خبراء إلى أن التعامل مع عواقب الحرب الأهلية وآثارها بخاصة التحقيق في الانتهاكات ومحاسبة المجرمين، سيتطلب قرناً بكامله أي 100 عام، لكن الروانديين والقيادة الرواندية كان لهم رأي آخر. إذ رأى الروانديون أنهم لا يستطيعون الاعتماد على المجتمع الدولي الذي خذلهم، وذُبحوا على مرأى ومسمع منه، فقرروا أن يخطوا قدماً بقيادات وطنية وجهود محلية واسعة، لمعالجة آثار الحرب، وإنشاء دولة رواندا التي يحلم بها كل الروانديين، وعلى رأسها التحديات المتعلقة بتحقيق العدالة والمصالحة، وابتكروا محاكم “الغاكاكا”، وهي محاكم محلية على مستوى المدن والأرياف، لمحاكمة المتورطين في جرائم الإبادة، هذه المحاكم هدفت إلى تخفيف الضغط على المحاكم التقليدية، ومحاسبة المتورطين، ورتق النسيج الاجتماعي. وقد تم تشكيل 12 ألف محكمة محلية في مختلف مناطق رواندا، لمحاكمة آلاف المتورطين في ارتكاب الجرائم، الذين فُرزوا إلى أربع فئات مختلفة.
الأولى قادة الصف الأول، الذين خططوا وحرّضوا وأشرفوا على جرائم الإبادة الجماعية، من قادة عسكريين، وقادة دينيين وآخرين، هؤلاء أحيلوا إلى المحاكم العادية، وليس إلى “الغاكاكا”، وحُكم عليهم بالإعدام، ولاحقاً خُففت الأحكام إلى السجن مدى الحياة.
الفئة الثانية أولئك الذين نفذوا الأوامر، وقاموا بعمليات القتل والاغتصاب، وحوكموا في محاكم “الغاكاكا، وأُنزلت بهم عقوبات مشددة، ما لم يعترفوا ويقروا بذنوبهم، ويحصلوا على عفو أولئك الذين اعتدوا عليهم.
الفئة الثالثة هي التي ارتكبت جرائم وانتهاكات أقل حدة، والفئة الرابعة هي من الذين تستّروا على المجرمين، أو تعاونوا معهم بطريقة أو بأخرى، وهاتان الفئتان أخذتا أحكاماً مخففة مع خدمة مجتمعية (العمل في أنشطة تخص الصالح العام، مثل البناء وإعادة الإعمار وغيرهما).
كانت محاكم “الغاكاكا” عامة وعلنية، وفي حضور مجتمعي، تقودها شخصيات اجتماعية لم تتورط في الجرائم، تقوم فيها بالتحقيق مع المتهمين بنظام عدالة موازٍ للنظام الرسمي، وكانت هذه سابقة للروانديين في التعامل مع الجرائم والانتهاكات التي تعرضوا لها.
قررت الحكومة الرواندية الجديدة المضي قدماً وعدم الوقوف على أطلال الماضي، للاستفادة وأخذ العبرة، وأعطت أولوياتها للتنمية والاستقرار، والخدمات العامة، والبنى التحتية مثل التعليم والصحة، والزراعة، والتكنولوجيا، وغيرها.
تمكنت الحكومة من بناء علاقات دولية قوية مع الدول في المنطقة والعالم، بما يخدم مصالح الروانديين، وفتحت الباب للاستثمارات الأجنبية، وعملت على تعزيز الاستقرار والأمن، اللذين مهّدا لتنمية متسارعة غير مسبوقة في القارة الأفريقية، ليُطلق على رواندا اليوم لقب سويسرا القارة الإفريقية، وتصبح واحدة من أسرع عشر دول في العالم من حيث النمو الاقتصادي، كما صُنفت العاصمة الرواندية كأجمل مدينة أفريقية، والسابعة على مستوى العالم من حيث النظافة والأمن.
لعبت النساء دوراً محورياً في عملية السلام والتنمية الرواندية، إذ تم تخصيص كوتا 30 في المئة للنساء في كل مؤسسات الدولة، من مجموع المناصب المنتخبة حكومياً. وشهدت هذه المشاركة تزايداً متسارعاً ونشاطاً فاعلاً للنساء، ليشكلن اليوم ما يزيد عن 60 في المئة من المشرّعين في مجلس النواب، وأكثر من 40 في المئة من مجلس الوزراء، و43.5 في المئة من مقاعد مجالس المدن والمقاطعات، بحسب هيئة الأمم المتحدة للمرأة.
لا ينبغي المساواة بين مآسي الشعوب أو مقارنتها ببعضها بعضاً، لكن من المهم بمكان، التعلم والاستفادة من التجارب المختلفة بالشكل الذي يساعدنا على تصميم نموذجنا الخاص، الذي يتناسب مع أهداف مجتمعاتنا وآمالها، وقد تكون التجربة الرواندية تجربة مثيرة للاهتمام بالنسبة الى السوريين.
في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، أعلنت “هيئة تحرير الشام” بقيادة أحمد الشرع، السيطرة على العاصمة السورية دمشق، وفرار بشار الأسد، الإعلان الذي اعتُبر انتصاراً للثورة السورية بعد 13 عاماً من اندلاعها.
السيطرة على العاصمة دمشق كانت نهاية لسنوات من الظلم والقتل والتهجير، التي مارسها نظام الأسد بحق السوريين المناهضين لحكمه. وصل الثوار إلى سجون النظام ومعتقلاته، وإلى أماكن المقابر الجماعية، وكُشفت حقيقة الجرائم الفظيعة التي ارتُكبت بحق عشرات الآلاف من السوريين، صُدم العالم من هول ما رأى من جرائم تعذيب لا إنسانية، ومن سجون بالغة التعقيد، استُخدمت لقمع المتظاهرين السوريين الذين نشدوا الحرية.
منذ السيطرة على العاصمة دمشق، بدأت “هيئة تحرير الشام” بعقد اللقاءات مع الهيئات الأممية والدولية، واستقبال السفراء والوفود الأجنبية المرحبة والمهنئة بسقوط النظام، والحريصة على علاقات جديدة مع الحكام الجدد.
المراقبون للمشهد في سوريا، يرون أن القرارات التي اتخذتها الإدارة السورية الحالية في التعامل مع القيادة السابقة، والحفاظ على مؤسسات الدولة وفعاليتها، كانت قرارات حكيمة، وهناك تفاؤل حذر حول مستقبل سوريا، وحول التعامل مع فلول النظام ومؤيديه، وكذا مع الأقليات المختلفة، بالإضافة إلى تخوف كبير من أعمال انتقام واسعة من بعض الجماعات المتشددة، أو بعض المحسوبين على الثورة، أو المنتحلين اسمها وهويتها لتصفية حسابات شخصية، الأمر الذي يتطلب وعياً وحرصاً شديدين من الإدارة الحالية، لحصر القوة واستخدامها بيد الدولة، وفرض رقابة على ممارستها، لتجنب أي جرائم أو انتهاكات قد تسيء الى الثورة.
ما زال من المبكر الحكم على الثورة السورية والتنبؤ بمستقبلها، لكن ما يُجمع عليه السوريون اليوم، أنهم قد تجاوزوا أطول حقبة وأسوأها في حياتهم، هي حقبة عائلة الأسد التي ارتكبت بالشعب أبشع الجرائم وشردته في كل بقاع العالم.
الأمل اليوم هو بالمستقبل. فتحقيق حلم سوريا المزدهرة والمستقرة ليس مستحيلاً، لكنه يتطلب إرادة سياسية، رؤية واضحة، والتزاماً حقيقياً بالعدالة والمصالحة والشراكة. بينما تقدّم رواندا درساً ملهماً في تجاوز المآسي وبناء دولة مزدهرة، تظل التحديات أمام سوريا متعددة ومعقدة.
بالطبع، الطريق ليست مُعبّدة بالورود، وهناك فروقات واختلافات جوهرية في السياق بين سوريا ورواندا، يجب أخذها بالاعتبار. فالحرب في سوريا هي صراع طويل ومعقد، تخللته تدخلات إقليمية ودولية متعددة، على عكس الصراع في رواندا، الذي كان قصيراً والتدخل الدولي فيه محدوداً نوعاً ما. بالإضافة إلى اختلافات أخرى مهمة، ولكن ما نؤكده دائماً هو أن استنساخ التجارب لن يجدي، بل الاستلهام منها ومواءمتها بما يتناسب مع السياقات الوطنية.
ويبرز السؤال المهم اليوم، عن ماهية النموذج الذي تسعى الإدارة السورية الحالية الى تطبيقه في سوريا، هل تستطيع؟ أو بالأحرى هل ترغب الإدارة السورية وهل هي مستعدة لاستلهام تجربة رواندا؟ أم أن الفوضى والصراعات الداخلية ستعيد إنتاج التجربة الأفغانية؟ الإجابة عن هذا السؤال هو ما سيشكل مستقبل سوريا لعقود مقبلة.
-باحث في القانةن الدولي
- درج