بعد نهاية الحرب الباردة شهد العالم، بأجمعه، تحوّلات فارقة، فسقطت رؤى، وانبثقت بديلاتها، تراجعت استراتيجيات وظهرت أخرى، تشكلت علاقات دولية جديدة، تحكمت في نشأتها وتبلورها مصالح جديدة بديلا عن تلك التقليدية، فراحت الوحدات الجغرافية في العالم تشهد تقسيما جديدا للعمل، مما حدا بجزء غير يسير في العالم إلى إعادة تشكيل ذاته وبناء مستقبله تأسيسا على المعطيات الدولية الجديدة والمفاهيم المستحدثة للتعاطي مع تحديات العصر.
وفي المغرب العربي متغيّرات جديدة وأسئلة جديدة، تتطلب تشخيصا معمّقا للتحديات ولكيفيات التعاطي المجدي معها، إذ نواجه مجموعة من التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تدعو إلى تجنّب المآزق والأزمات المعطِّلة لمشاريعنا في الإصلاح والتنمية. وهو الأمر الذي يستدعي الدفع بمشروع اتحاد المغرب العربي خطوات إلى الأمام، من أجل تعزيز آليات التعاون المغاربي لما يخدم مصالح شعوب المنطقة. كما يتطلب الكثير من المساعي القادرة على تجاوز تركة الماضي، للتمكّن من بناء الروافع التاريخية والفكرية الجديدة المساعدة على تأسيس حقبة جديدة في تاريخنا المعاصر.
فهل تستطيع الدول المغاربية أن تتخطى مشاكلها وتتجاوز النظرات الضيقة، لتخطَّ لنفسها استراتيجية تتكيف مع روح التكتلات والتنظيمات الإقليمية الجديدة لتحمي نفسها من جبروت العولمة. أم أنّ أماني شعوب المنطقة تبقى ضحية أنانية الحكام والمصالح الضيقة لبعض القوى الخفية، هل من تفعيل حقيقي للاتحاد المغاربي بعد كل هذا التأخر؟
إنّ المفارقة القائمة اليوم هي أنّ الطموح الاتحادي المغاربي الذي بدا مطلبا شعبيا، ومشروعا طرحته النخب السياسية المغاربية، غدا اليوم مطلبا استراتيجيا دوليا ملحا، خصوصا لدى الاتحاد الأوروبي الذي ينظر إلى منطقة شمال أفريقيا بصفتها امتدادا حيويا له وقنطرة وصل ضرورية مع القارة السوداء والشرق الأوسط.
أهم التحديات التي تواجه المغرب العربي
في محاولتنا معرفة أهم التحديات التي تواجه الدول المغاربية وجدنا أنها تتركز على الخصوص في: البطالة، والفقر، والهجرة، والإرهاب، وضعف الأداء الاقتصادي، ومحدودية التنمية الإنسانية، وإشكاليات الصحراء الغربية، وتعثر الاتحاد المغاربي. إضافة إلى تحديات أخرى، تتمثل في:
(1)- الثورة الصناعية الثالثة ( ثورة المعلوماتية ووسائل الاتصال والإلكترونيات الدقيقة ).
(2)- ظاهرة التكتلات الاقتصادية الكبرى ( أوروبا الموحدة، والتكتل الآسيوي، واتفاقية دول أمريكا الشمالية " نافتا "…)، التي أصبحت تمثل أهم اتجاه في العلاقات الدولية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة.
(3)- تعاظم دور الشركات الكبرى متعددة الجنسيات، التي تريد لنفسها مزيدا من فتوحات أخرى في الأسواق العالمية.
(4)- تفاقم حالة استنزاف الموارد المالية والبشرية المغاربية، فأموالنا مستمرة في التدفق نحو المراكز العالمية الكبرى، إما ردّاً لديون متراكمة وإما تسديداً لثمن سلاح، أو بقصد الاستثمار هناك.
(5) – أزمة المشاركة، وهنا لا نريد أن نثير الجانب السياسي من المسألة بشكل مباشر، بل جانب إشراك كل الناس، وكل فئات المجتمع في أية عملية تنموية فعلية وصحيحة، لأنه من أول شروط تحقيق التنمية واستدامتها، مشاركة أبناء المجتمع كافة فيها، مشاركة الناس في نقاش الخيارات المتاحة، وشعورهم بأنّ لهم دورا ورأيا وحضورا في هذه المسألة، بل شعورهم بأنّ هذه العملية تمثل تطلعاتهم ومصالحهم في الحاضر والمستقبل.
(6) – ضعف هيئات المجتمع المدني، فبالرغم من وجود العديد من المؤسسات المهنية والنقابية والعمالية والبيئية والاجتماعية والثقافية، التي تقوم بنشاطات قيّمة في مجال الحفاظ على البيئة وحقوق الإنسان ومسائل اجتماعية واقتصادية وثقافية مختلفة، إلا أنّ هذه المؤسسات ما زالت دون حجم التحديات والحاجات القائمة.
(7) – هيمنة المركزية وضعف الحياة البلدية أو المجالس المحلية، إذ تتميز الأنظمة الإدارية المغاربية – بشكل عام – بهيمنة أجهزة الدولة المركزية على حياة الهيئات المحلية من بلديات ومجالس أو إدارات مستقلة، وبضعف اللامركزية الإدارية.
(8) – ضعف حضور دولة الحق والقانون، فمسألة تعادل الفرص والمساواة أمام القانون مسألة حيوية جدا، وهي تشعر المستثمرين والمواطنين بالطمأنينة والاستمرار في عملية التنمية، وبدونها يسيطر جو من انعدام الثقة بين المواطنين وأجهزة الدولة، وهو ما يولّد قلقا اجتماعيا عميقا يعيق أية عملية تنموية فعلية.
التحديات الاجتماعية
إنّ أكبر التحديات التي تواجه منطقة المغرب العربي تكمن في عدم قدرة الاقتصاديات المحلية على توفير فرص عمل كافية للشباب، مما يزيد معدلات البطالة ويهدد الاستقرار الاجتماعي، ومخاطر الهجرة غير الشرعية نحو دول شمال البحر المتوسط. وبسبب ذلك ارتفعت معدلات الفقر في السنوات الأخيرة في دول المنطقة، خصوصا في الجزائر والمغرب وموريتانيا، إذ يقدر عدد الفقراء بنحو 18 في المائة من مجموع السكان، وكانت هذه النسبة لا تتجاوز الـ 12 في المائة في بداية تسعينيات القرن الماضي.
ضعف الأداء الاقتصادي
كان ضعف الأداء الاقتصادي من العراقيل التي حالت دون استفادة المنطقة من الجانب الإيجابي للعولمة، خصوصا أنّ نمو التجارة العالمية زاد بنسبة 8 في المائة سنويا، فيما لم تتجاوز التجارة المغاربية مع الخارج الـ 3 في المائة, كما أنّ حصتها من تدفق الاستثمارات الأجنبية ظلت ضعيفة، مقارنة بمناطق أخرى عبر العالم، خصوصا دول جنوب شرقي آسيا والصين، على رغم نجاح برامج الخصخصة في جذب استثمارات مهمة إلى المنطقة.
لقد أظهرت إحصاءات اقتصادية أنّ دول الاتحاد المغاربي تخسر نحو عشرة مليارات دولار سنويا، ما يعادل نحو 2 في المائة من ناتجها القومي الإجمالي، بسبب غياب التنسيق في المواقف الخارجية, وتعثر قيام سوق مغاربية مشتركة, واستمرار الاعتماد على الأسواق الأوروبية في تسويق الصادرات واستيراد المواد الضرورية. وبحسب المعطيات التقديرية لا تتجاوز التجارة البينية بين دول المغرب العربي نسبة 5 في المائة من مجموع تجارتها مع الاتحاد الأوروبي، المقدرة بنحو 80 مليار دولار.
ومن المؤسف أنّ التجارة البينية المغاربية تمر عبر أطراف ثالثة غالبا ما تكون دول الاتحاد الأوروبي، إذ لا تستورد المغرب من الجزائر سوى 5 في المائة من المشتقات النفطية المقدرة بنحو 2.5 مليار دولار. والجزائر بدورها تستورد أقل من 1 في المائة من صادرات المغرب الغذائية, فيما تستورد بنحو 5 مليارات يورو من السلع الغذائية الأوروبية، وبعضها أُنتج في المغرب. ويخسر البلدان معا بين 5 و 6 مليارات دولار سنويا بسبب الحواجز الجمركية المعقدة، وإغلاق الحدود وغياب تشريعات متناسقة. والشيء نفسه ينطبق على صادرات الأسماك، فعلى رغم أنّ المغرب أكبر مصدر للأسماك في المنطقة، فإنّ إيطاليا وإسبانيا هما أكبر مزوِّد لأسواق تونس وليبيا من الثروة البحرية.
ومن جهة أخرى، يُعزى تردد المستثمرين عن الإقبال المكثف على المنطقة إلى استمرار التفكك وغياب سوق إقليمية قوامها 82 مليون مستهلك. ومن الواضح أنّ كثافة الحواجز الجمركية وثقل أعباء الإجراءات الإدارية، فضلا عن غياب خطوط النقل الحديدية والبرية الحديثة، شكلت كلها عناصر أثنت المستثمرين الأوروبيين عن التوجه إلى الضفة الجنوبية للمتوسط، التي لا تستقطب حاليا سوى 2 في المائة فقط من الاستثمارات الخاصة الأوروبية، فيما هي تتجه بكثافة إلى أمريكا اللاتينية وآسيا وأوروبا الشرقية.
والأخطر من ذلك، أنّ علاقات الأقطار المغاربية مع أوروبا وأمريكا تطغى عليها ذهنية المنافسة بحثا عن امتيازات خاصة، ما أضعف موقعها التفاوضي فرديا وجماعيا، ومنح الأطراف الأخرى هامشا كبيرا للمناورة وابتزاز تنازلات ما كانت لتحصل عليها لو كانوا متضامنين.
إنّ السوق المغاربية تشكل ما يساوي السوق الألمانية، وسيبلغ عدد سكان المنطقة 100 مليون نسمة بعد 15 سنة، لكن من المحتمل أن يبقى هذا الفضاء سوقا للمنتوجات الأوروبية والآسيوية، بسبب انعدام حد معقول من التنسيق في السياسات الاقتصادية.
تعثر الاتحاد المغاربي
لقد ترتب على تأسيس اتحاد المغرب العربي في العام 1989 إبرام حوالي 37 معاهدة تتعلق بمجالات مختلفة، كان من المفترض أن تُكرِّس توحيد السوق المغاربية وإنشاء اتحاد جمركي وإلغاء الحواجز بين بلدان الاتحاد وتكريس بطاقة هوية موحدة. لكنّ الاتفاقات لم تُنفَّذ، بل جُمِّدت هياكل الاتحاد منذ عام 1994 تاريخ آخر اجتماع لمجلس الرئاسة، الهيئة الوحيدة التي تتمتع بسلطة القرار في الاتحاد.
إنّ تأسيس الاتحاد المغاربي كان لحظة قوية على طريق استيعاب التحوّلات التي عرفتها العلاقات الدولية، وكان في إمكانه أن يعيد ترتيب أولويات المنطقة، الموزعة بين الأمن والتنمية والديموقراطية، لكنه ظل مشروع نيات، يحتمي به الشركاء المغاربيون حين تواجههم إكراهات سياسية واقتصادية وثقافية على قدر أكبر من حدة السؤال، ويهربون منه كذلك لتبرير فشل خيارات مستوحاة من صراعات حرب باردة منتهية، إلا أنّ الألغام التي زرعتها تبقى قابلة للانفجار ما لم يتم الاهتداء إلى كواشف إرادية تنير طريق المستقبل.
لقد كان الرهان على أنّ التزامات الجزائر والمغرب ضمن الفضاء الإقليمي مع الشركاء الأوروبيين في منظومة " 5+5 "، أو في الانخراط الجماعي في الحرب على الإرهاب، في إمكانها فتح الآفاق أمام وفاق ثنائي، غير أنّ شيئا من هذه الرهانات لم يحدث.
إنّ الأكثر أهمية في استيعاب دروس الإخفاقات المغاربية أن يُنظَر إلى الفرص، التي كان يتيحها الاتحاد المغاربي، على صعيد النهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لشعوب المنطقة، كي لا يظل الحديث عن اتحاد كهذا مجرد ترف فكري وسياسي.
إشكاليات الصحراء الغربية
عانى المشروع المغاربي، الذي انبثق من ديناميكية حركة التحرر الوطني في الخمسينيات، منذ بداية حقبة الاستقلال من صراع المحاور الداخلية، الذي تركز في التنافس المغربي – الجزائري داخل الدائرة الإقليمية وامتداداتها عربيا وأفريقيا. ولم يكن اختلاف نماذج الحكم و الخيارات الأيديولوجية والتوجهات الاقتصادية هو العائق الأساسي الذي حال دون نجاح الاندماج المغاربي، بل إنّ المشكل المحوري الذي اعترض هذا المشروع هو التضارب القائم بين الطرفين المركزيين في الاتحاد، من حيث العلاقة الثنائية والملفات الإقليمية، مما تمتد جذوره إلى ما هو أبعد من موضوع الصحراء، مع الإقرار بأنّ هذا الموضوع هو بدون شك العقدة المستعصية اليوم في الرهان المغاربي. إذ يدور الصراع بين الطرفين حول ثلاث نقاط أساسية: أولاها، من سيخرج منتصرا في نزاع الصحراء الغربية. وثانيتها، من سيحظى بود واحترام الدول الكبرى. وثالثتها، من سينسج علاقات مع دول مرشحة لأن تكون فاعلة في الساحة الدولية مستقبلا.
ومن المفارقات الملفتة أنّ الجزائر والمغرب ملتزمان علنا بالإبقاء على الاتحاد المغاربي وتطويره وتفعيله كفضاء للحوار والتكامل الاقتصادي والاندماج الإقليمي، غير أنه لا يمكن الحديث عن فضاء بهذه الأهمية الاستراتيجية مع استمرار الحدود المغلقة بين دولتين جارتين تشكلان مركز الثقل في البناء المغاربي، والحال أنّ تأثير هذا الوضع غير الطبيعي ينسحب سلبا على المنطقة المغاربية برمتها، ولم يعد مقبولا من الطرفين انتهاج سياسات سلبية يتضرر منها شركاؤهما في الاتحاد المغاربي. فعلى سبيل المثال لم يتجاوز عدد السنوات التي بقيت الحدود خلالها مفتوحة بين الجزائر والمغرب سوى 14 سنة منذ استقلال الجزائر الذي مضت عليه 46 سنة.
تحدي الإرهاب
هناك قناعة تتشكل يوما بعد يوم، بالنظر إلى الأحداث الإرهابية التي عرفتها المنطقة المغاربية، أنّ المناطق التي تغيب عنها سيادة الدولة وغير المراقبة بشكل كافٍ، خاصة على طول الساحل الصحراوي الممتد من شمال موريتانيا إلى شمال تشاد والذي يخترق جنوب الجزائر، يشكل مصدرا حقيقيا للقلق، وهو قلق يهم دول المغرب العربي وأوروبا وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية. إذ ثمة مخاوف تشير إلى أنّ منطقة الساحل الأفريقي جنوب الصحراء يمكن أن تتحول إلى " أفغستان جديدة ". ولعله لهذا السبب تحديدا زاد الانشغال الأمريكي بالأوضاع في منطقة الساحل جنوب الصحراء، خاصة في ضوء تفكيك خلايا نائمة كانت تتوخى استقطاب المناصرين الراغبين في التطوع إلى جانب المقاومة في العراق.
كيفما كانت الحال، فإنّ المشكلة عند انفجارها بحدة لن تكون قضية جزائرية أو نيجيرية أو مالية فقط، ولكنها قابلة للامتداد في مساحات أفقية وعمودية لا حصر لها. وما يبعث على القلق ويدعو إلى الحذر أنّ اشتعال فتيل التوتر ليس بعيدا عن مخازن ثروات الأرض من بترول وغاز وأورانيوم واحتياطات معدنية تسيِّل لعاب الشركات المتعددة الجنسية.
(+) – في الأصل ورقة قُدمت في إطار ندوة مغاربية حول " خمسينية المشروع المغاربي " بدعوة من " مختبر الدراسات الدستورية والسياسية " – كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية – جامعة القاضي عياض – مراكش، بمساهمة من " مؤسسة كونراد أديناور " خلال يومي 28 و 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2008.