عن ضرورة «الجهاد» ضد النفس الأمّارة بالسحر! – حاجتنا لمقاربة تاريخية لانهيار النظام السوري وحدود الوطنية الديمقراطية الميلودرامية

حازم السيد

عندما سقط النظام، شعرتُ بحاجة هائلة إلى الخروج ولقاء سوريين آخرين كي يؤكد لي هواءُ الشارع البارد وعيونهم الذاهلة أن ما حدث حقيقي، وأن الأبد الأسدي قد انتهى إلى غير رجعة. لم يُغادرني ذلك الذهول لأيام طويلة، وكنتُ عاجزاً عن النوم أو التوقف عن الحركة. بدى ما حدث شديد «السحرية»، فقد انهارت المنظومة العسكرية كقلعة رملية تافهة، وبدى وكأن قائد ميليشيات الشمال الإسلامية وكل عناصرها «بتوع تنمية بشرية»، بالنظر إلى انضباطهم وقدرتهم على إدارة اللحظة وتحدياتها الأمنية والعسكرية. بدى وكأن هذه اللحظة قد انبثقت من آلة زمن، عادت بنا إلى الثورة السورية في لحظاتها الشعبية الظافرة منتصف 2012، كي تُنسينا كل آلام سنوات الجلجلة التي تلتها.

رغم أنني قضيت السنوات الخمس الأخيرة في علاج سلوكي وفلسفي مكثّف كي أتمكن من العيش في عالم منزوع السحر، لم أُشفَ حتى اليوم من سحرية تلك اللحظة، ولا أعتقد أنني سأشفى قريباً، ولكنني أعتقد أيضاً أن الوقت قد حان كي نبدأ التفكير ضد الذات وأهوائها، ضد السحر وسطوته، وأن نبدأ «الجهاد ضد النفس الأمّارة بالسحر»، إن استلهمنا واحدة من مقولات المعلم الياس مرقص.

السوريون وعوالمهم منزوعةُ السحر

أطلق عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر مقولة نزع السحر لتوصيف تخابي سطوة الرؤية السحرية، الدينية والأسطورية، لفهم العالم أمام رؤى «عقلانية»، نقدية ووضعية وتاريخانية، تستلهم في مَقولاتُها فتوحات العلم الحديث والمكتسبات التقنية الهائلة وبعض تراث فلاسفة الأنوار. وهي المقولة نفسها التي استعادها الفرنسي مارسيل غوشيه1 في كتاب يحمل عنوانه هذه المقولة، وفي مجمل عمله النقدي عن عمق «الخروج من الدين» الذي تعيشه المجتمعات الغربية، عن علاقة ذلك بالديمقراطية، وعن هذا الخروج بوصفه واحداً من التحديات الكبرى، وأحد أكبر أسباب «البؤس الفرنسي» والبؤس الغربي عموماً، والمدخل الأمثل لفهم حدود الفردانية والحداثة وبخاصة في شكلها النيوليبرالي. في السياق السوري، يستعيد ياسين الحاج صالح المعنى الأول، الفيبري، لهذه المقولة ويحاول استخدامها لمقاربة أسئلة الحداثة والإسلام السياسي، ومحاولة فهم بعض الظواهر المعاصرة، كانتشار نظريات المؤامرة والحقائق البديلة والمقاربات الثقافوية بوصفها محاولات بائسة لـ«إعادة بث السحر في العالم».

هي بالمختصر مقولةٌ شديدة الخصوبة وشديدة الراهنية، وقد يحتاج فهمها إلى قراءة الكثير من الأعمال النقدية، للكتّاب سابقي الذكر ولغيرهم، ولكن اللجوء إلى طقوس عيد الميلاد قد يسهّل فهم قوة هذه المقولة وبعض معانيها، فاللحظة التي يكتشف فيها الأطفال، المعتادون على طقوس عيد الميلاد، أن بابا نويل مجرد كذبة، يمكن أن تشكل مجازاً معقولاً للحظة نزع السحر عن العالم بوصفها صدمة وجدانية عميقة، ودعوة وقحة لتغيير الرؤية التي قاربنا بها العالم لسنوات طويلة.

إن كان المثال الأول يسمح بفهم العُمق الوجداني للمقولة دون أن يسمح بفهم معانيها، فإن ما عاشه الكثير من السوريين، من أبناء الطبقات الوسطى، ممن تعاطفوا مع الثورة وشاركوا فيها قبل أن يهربوا من بلادهم طالبين اللجوء في القارة الأوروبية، يبدو تجسيداً تاريخياً شديد العمق لمعاني هذه المقولة. فَقَدَ السوريون كل أساطيرهم، وكل المصادر القادرة على مقاربة الواقع وإعطائه معنىً متماسكاً، فَهُم في البداية متعلمون عصريون، يشتركون مع الكثير من الغربيين في عدم قدرتهم على التدين وتحويل الدين إلى الركيزة الأولى لرؤيتهم للعالم ومصدر بث المعنى. من جهة أخرى، وعلى اعتبار أن الانتماء الوطني هو ما تمّخضته الحداثة في محاولتها لتعويض غياب السحر2، وأن الثورة التي شارك بها هؤلاء السوريين، كي تلدَ لهم وطناً، لم تلق إلا مصائر مذهلة في عنفها وعبثيّتها، فقدت هذه المحاولةُ معناها، بل وبدى أن السوريين لم يفقدوا القدرة على الإيمان بالوطن وحسب، وإنما فقدوا الوطن بمجمله.

اللجوء إلى أوروبا الذي وعد كثيرين باستبدال أوطانهم بإمكانية الانتماء إلى «الحضارة الغربية»، التي تُجسِّد أهم ما جاد به التاريخ، وإلى واحدة من أقوى ديناميات بث المعنى في العالم، بدا شديدَ البهوت أيضاً، وبخاصة في العقد الماضي الذي شهد فقدان مقولة «الغرب» لجاذبيتها وانكشاف عمقها الاستعماري والعنصري. فقدت قطاعات واسعة إثرَ ذلك إيمانها بالقدرة على الانتماء إلى هذه الحضارة، بل وبهذه الحضارة نفسها، بعد أن لامسوا فيها الكثير من «البلادة» والبيروقراطية والأنانية، وبعد أن أدركوا أن الانتماء لا يمكن شراؤه ببطاقة مصرفية، وأن الكثير من شروط العيش الطيب التي اعتادوا عليها في مجتمعاتهم الفقيرة والمتخلفة، قد باتت مفقودة في هذه المجتمعات الحديثة المترفة. لا بد في هذا السياق من التأكيد على أن حياتهم في الغرب قد منحتهم الكثير من الرفاه والأمان والطمأنينة على مستقبل أطفالهم، ولكنها لم تساعدهم على استعادة الإيمان، بالدين أو الوطن أو الحضارة، بل وزادت عزلتهم وتعقيد حيواتهم العائلية، ليفقدَ بعضهم إيمانه بالحب والعائلة أيضاً. بالمختصر، اكتشف الكثير من السوريين الأوروبيين في مشوارهم العوليسي هذا أن لا معنى متيناً لهذا العالم، وأن لا حدود للهشاشة.

لأيام قليلة مضت كانت النسخة السورية من العالم العدمي منزوع السحر أكثر نُسَخه بؤساً، وكان السوريون تذكيراً بما عرفه اليهود في النصف الأول من القرن الماضي، أو ذلك الذي لا زال الفلسطينيون يتذوقون مرارته منذ نكبتهم. ولكن عملية الـ11 يوماً وقائدها أحمد الشرع باغتوا السوريين في نهاية العام، كبابا نويل، بهدية انهيار الأبد السوري، ليستعيد العالم كل سحره في عيونهم.

تَوازنُ رسائل قيادة الهيئة والانضباط الكبير نسبياً لمقاتليها، تواضعُ انتهاكاتهم واعتراف بطانة النظام السريع بهزيمتهم ورفضها للمقاومة، تصريحات الشرع البراغماتية وتصريحات قيادة قسد، عدا عن الوفود الدبلوماسية التي لا تتوقف عن التدفق إلى العاصمة السورية، تجتمع كمؤشرات على لحظة سياسية كبرى تطوي الماضي بكل تعقيداته وتبدأ صفحة جديدة بكل ما يقتضيه هذا التعبير من حُسن نية. بل وتبدو هذه اللحظة وكأنها صفحة جديدة بالمعنى التاريخي للكلمة، تعود بالمجتمع السوري إلى لحظات بداية النهضة، لتَحكمهم سلطات إسلامية ماضوية متواضعة القوة، بكل ما يفتح عليه ذلك من احتمالات، وبكل ما يقتضيه من سياسة.

الخطاب الوطني الديمقراطي، عودٌ على بدء؟

نرغب جميعاً تصديق ذلك، وهو ما تُظهره مقالات الرأي التي استعادت زخمها اليوم، حيث يضج الفضاء العام السوري بأصوات مسكونة بالأمل والرغبة بالعمل وبدء صفحة جديدة. برهان غليون نفسه، الذي كان غارقاً في التشاؤم التاريخي في كتابه الأخير سؤال المصير، يستعيدُ اليوم الكثير من تفاؤله وهو ما يعبر عنه في رؤيته «لمسار سوريا الجديدة» على تلفزيون العربي.

يبدو غليون بديمقراطيته الوطنية رجلَ المرحلة، فإن لم تتمكن كتبه الكبرى، كـ بيان من أجل الديمقراطية والمحنة العربية: الدولة ضد الأمة ومجتمع النخبة وفي الشعب والنخبة وغيرها، من مساعدتنا على «إسقاط النظام»، فإنها تبدو اليوم وكأنها الأقدر على تغذية فكرنا من أجل خوض معركة «الانتقال الديمقراطي»، فالإسلامُ السياسي بات في السلطة، ولم يعد يوجد قبالته أي تهديد عسكري وازن وقادر على سلبه السلطة كما حدث سابقاً في الجزائر وغزة ومصر، وهو بدوره لا يملك إلا بعض السلاح الخفيف والمتوسط الذي خاض به الحرب، والكثير من الحذر الغربي والإقليمي، ما قد يسمح له بالاستئثار بالسلطة، دون أن يعني ذلك قدرته على إعادة التأسيس لأبدٍ جديد أو تفادي السياسة في علاقته مع الغرب ومع مجتمعاته المحلية.

تجربةُ الثورة والحرب التي خاضها أبناء هذا التيار، والتحولات الكبرى التي عرفها في الخطاب والممارسة، بما انتهى بأكثر أطرافه تَشدُّداً إلى قبول تلقيح إسلاميته بخطاب وطني وثوري بل ونهضوي، كما يتجلى في بعض تصريحات الجولاني أحمد الشرع، تأتي لتزيد من احتمالات السياسة. العلمانيون والتنويريون، خصومُ الوطنيين الديمقراطيين وأبناءُ «مجتمعُ النخبة»، الذي أفرزته الدولة ضد الأمة، فقدوا دولتهم، ولا يوجد ما يُبشّر بأن خسائرهم ستتوقف عن التتالي أو أن خطابهم سيتوقف عن فقدان جاذبيته.

يسمح ذلك لبرهان غليون بالزهو والتفاؤل ليشْرَعَ في الحديث عن «عودة الشعب»، وضرورة «تجاوز الماضي»، بل باستعادة مقولة «الشعب السوري العظيم» والمشاركة في غناء «أرفع راسك فوق»، ليبدو شديد التمسّك بنسخته الميلودرامية من الوطنية الديمقراطية، شديدةِ القناعة بحتمية مستقبل تُعانق فيه سوريا «الروح الأموية» التي طالما تاهت عنها، تمتلك الكثير من الأيام الجميلة أمامها، وتقول إن أغلب النخب السورية «الأموية» ترغب بنسيان نصف قرن من تاريخها، واعتباره صفحة استثنائية عنيفة كان آل الأسد مصدر شرورها، ولا بد من طيّها، على الطريقة الألمانية، عبر التعويل على أموال الجيران العرب ربما، وعبر الكثير من التسامح والقليل من سياسات المُصالحة والعدالة الانتقالية، في مرحلة انتقالية لا بد منها للوصول إلى الديمقراطية.

حايد حايد، على سبيل المثال، يعتقد بأن السوريين قد قاموا بدورهم في إسقاط النظام وأن على «المجتمع الدولي وحلفائه الإقليميين القيام بدورهم… من خلال ضمان أن تكون هذه الفترة الانتقالية شاملة وديمقراطية وشفافة»، كي تكون هذه اللحظة «فرصة تاريخية لسوريا يجب أن لا تضيع». يبدو كرم نشار في مقالته «أيها الديمقراطيون السوريون، هذه لحظتنا!» أكثر حذراً ولكن ذلك لا يمنعه من الدعوة، على خطى فرانز فانون، إلى الانخراط في الحياة الفاعلة كما تنفتح أمامنا بكل تناقضاتها ومصاعبها». صادق عبد الرحمن يذهب إلى تفكير أكثر عيانية في مقالته «ما الذي يمكننا الدفاع عنه في سوريا اليوم؟»، ليؤكد بأن «حرية التعبير والانتظام السياسي في سوريا ليست ترفاً سياسياً يمكن تأجيله، بل هي الشرطُ الشارطُ لبناء بلد جديد أفضل».

تُعطي هذه المقالات لمحة عن عودة الخطاب الوطني الديمقراطي، وتبدو أقرب إلى ترجمة عملية لمقولات هذا الخطاب، وهو ما يوحي بدينامية إيجابية وبرغبة ببداية جديدة، يعمل فيها الديمقراطيون على خطابهم ومؤسساتهم للتواصل مع المجتمع والدفع تجاه انتقال ديمقراطي فعّال، وهو ما يبدو شديد البداهة في هذه اللحظة الأمّارة بالسحر. بالمقابل، في سياسوية هذه المقالات وهَمِّها العملي ما يستوجب التوقف عنده. وكذلك انتعاشُ منظومة الرأي والمنتديات السياسية، المتوقع والواجب والإيجابي، والتي توحي بأننا مواطنون وأصحاب رأي، وأن لهذا الرأي وزناً، وأن الصراع الرئيسي في الفضاء العام السوري يجب أن يكون على تحويل بعض المسائل إلى «قضية رأي عام»، تستوجبُ التوقف عندها بينما نتذكّر أن مقولات المواطن والرأي العام والفضاء العام ليست مفردات ناجزة وبداهات وطنية، وإنما عناوين لمعارك طويلة يجب أن نخوضها.

من جهة أخرى، فَشلُ الخطاب الوطني الديمقراطي في خوض تجربة الثورة، وانهيارُهُ في لحظة الحرب، وتاريخيةُ اللحظة الراهنة وقدرتُها على التحول إلى اختبار حقيقي لقدرة الوطنية الديمقراطية على التحول إلى سياسة، أمورٌ يجب أن ألا تسمحَ لمنظومة الرأي ومقالاته بالسيطرة على المشهد فحسب، وإنما أن تدعونا إلى أن «نكتب ببطء» وبطموح نظري، بل وفلسفي، في مقولات الوطنية الديمقراطية واحتمالات تجديدها.

يُقدِّمُ ياسين الحاج صالح اشتغالاً نقدياً شديد الأهمية لخطاب الوطنية الديمقراطية الميلودرامية، بل ويتحدث في واحدة من مقالاته عن «نهاية نموذج الوطنية الديمقراطية؟» كـ«نموذج مرشد» للعمل السياسي، بعد استفحال «الأثر الاستقطابي المديد لخصخصة الدولة مشفوعاً بكلٍ من نزع وطنية الأكثرية وديمقراطية الأقليات يضعنا كلياً خارج النموذج الوطني الديمقراطي للسياسة» دون أن يعني ذلك أن هذا النموذج قد مات «موتاً طييعياً» فقد مات «بالحرب، بقوة السلاح المتفوق».

قبل هذا الإعلان، قَدَّمَ ياسين في العديد من المقالات، كمقال «تغيير المجتمع: ثلاث تصورات وثلاث تيارات» أو مقال «أزمة الديمقراطيين السوريين»، الكثير من النقد العياني الدقيق للخطاب الوطني الديمقراطي عموماً، لينتقد تعبوية الخطاب، سياسويته واختزاليته، وعجزه عن التقاط تعقيدات الواقع وفقدانه لتصور ملموس للمستقبل. ينتقد أيضاً غياب اشتغال نظري جاد على مفهوم الجماعة السياسية المعنية في بعض أعمال برهان غليون، ولا ينسى أن يُذكِّرنا بأن الكثير من النخب الديمقراطية والسورية تفتقر إلى ممارسات ديمقراطية بل وتطبعها ميول استبدادية، وبأن أزمة الوطنية الديمقراطية ترتبط بالأزمة العالمية التي تعيشها الديمقراطية.

يبدو ياسين الأكثر جدية في التفكير بهذا النموذج والرغبة في ترميم صرحه، وبخاصة في محاولته للتفكير بـ«نظرية في الديمقراطية»، ولكنه ينتهي إلى صعوبة إنقاذ هذا النموذج الذي لا يلإعلن نهايته بتعجّل أو ببهجة، «فهناك ما هو مأساويٌ بعمقٍ في هذه التحولات الفكرية السياسية التي يلعب النظام، المحلي والدولي، فيها دور القَدَرُ الساحق»، بل وتوحي عودته إلى تناول «أزمة الديمقراطيين السوريين» في وقت قريب إلى أنه لم ييأس، رغم كل شيء، من احتمالات إمكانية تجاوزها.

مؤخراً، عقبَ قيام برهان غليون بنشر كتابه سؤال المصير، قَدَّمَ ياسين الحاج صالح مراجعات نقدية صارمة لعرّاب الوطنية الديمقراطية، ولكتابه الذي يتجاهل العقد الماضي وأسئلته، وبخاصة سؤال الإسلام السياسي، والذي لا يبرر سببَ اختياره العرب بوصفهم «الذات الضمنية في قصة صراع المصير التي يرويها الكتاب». الجدير بالذكر بأن مراجعة راتب شعبو تبدو أقرب للاتفاق مع ذلك، فهي ترى أيضاً بأن غليون «متعبٌ بعروبته» وداعيةٌ لديمقراطية سحرية يمكن اختزالها في «إجراءات وقرارات تتخذها نخبة حين تتمكن من سلطة الدولة».

تدعونا اللحظة الحالية، بسحرها، إلى نسيان كل هذا الشغل النقدي، وإلى العودة إلى كتب غليون، بل وانتظار مقابلاته وتصريحاته، وهو ما نحتاج إلى رفض غوايته. حساسية اللحظة وتاريخيتها تدعونا، على العكس، إلى متابعة هذه المراجعات النقدية والمضي بها خطوات أبعد بكثير. يمكننا، على سبيل المثال، استئناف التفكير الجاد والعياني بالنظرية الديمقراطية وأسئلتها، عبر نقد غياب التفكير الجاد بمقولة «النخبة»، التي تشكل واحدةً من ركائز هذا الخطاب وواحدةً من أكثر المفردات تواتراً في مجمل أعمال غليون. يمكننا أيضاً نقدُ الروح الليبرالية التي تسكن الخطاب الوطني الديمقراطي رغم اشتغاله في أزمنة ما قبل ليبرالية، حقبة سوريا الأسد ولكن أيضاً لحظة استلام الهيئة لزمام السلطة في سوريا.

اليوم، تقودنا هذه الرؤية إلى الرهان على «النخب الديمقراطية» من أجل المساهمة في إعادة بناء الدولة واستئناف نهضتنا، وهو ما يبدو مقاربةً شديدة الاختزال والتفاؤل، فلا يوجد الكثير مما يقول بأن السلطات الانتقالية ستمضي بسوريا نحو لحظة انتقالية جديرة باسمها، ولا يوجد الكثير أيضاً مما يقول بإن عملية بناء الدولة وإحياء الأمة ستضمنُ تَحوُّلَ النخب الديمقراطية إلى قوة سياسية وازنة في سوريا. قد يحدث ذلك بعد عقود، وقد يتحلل الإسلام السياسي إلى تيارات متصارعة منها ما يحمل رؤى تعددية، ولكن هذه الرؤية التفاؤلية للتاريخ لا تقول أي شيء عن السياسات التي يمكن للنخب الديمقراطية أن تبلورها «الآن هنا». هل نكتفي بكتابة مقالات الرأي أملاً بالتأثير في «رأي عام» لا وزن حقيقي له؟ هل يجب التحول إلى مثقفي بلاط وخبراء في حضرة الإسلاميين، على أمل أن يُساعدنا تحصيلنا العلمي ومهاراتنا الخطابية على إقناع الإسلاميين المستحوذين على السلطة بضرورة الديمقراطية؟

من جهة أخرى، وبعد وصول الإسلاميين إلى السلطة، ألن تتحول «خطوط إنتاج» النخب، من جامعات ووسائل إعلام، إلى إنتاج نُسَخ مؤسلمة من النخب السياسية والثقافية والفكرية، لينتفي أي دور عضوي ممكن لنخب ديمقراطية طامحة إلى دولة قانون ومواطنة، تكون فيها السيادة للشعب دون غيره؟ الرعاية القطرية والتركية للسلطات الناشئة في سوريا ذات خبرة كبيرة في تعديل خطوط الإنتاج، ويكفي تَذكُّرُ قُدرة الجزيرة وغيرها من وسائل الإعلام الكبرى على تصنيع نخب وإتلاف أخرى في مصانع الرثاثة الكبرى التي تُكوِّنُها.

كتاب عطب الذات لبرهان غليون مدخلٌ مناسبٌ لفهم حدود هذه «النخب» وعجزها عن الفاعلية، فهذا الكتاب الذي يبدو وكأنه محاولة مسؤولة لنقد الذات السياسية السورية عبر استعراض إفلاس النخب السياسية السورية قبالة الكثير من استحقاقات سنوات الثورة السورية الأولى، يكاد يخلو من أي نقد لذات الكاتب، كواحد من أبناء هذا المجتمع السياسي السوري وفاعليه المفتاحيين. بالتأكيد، لا ينقص برهان غليون النباهة أو النزاهة كي يقع في هذا المطب، وأغلب الظن أنه يعتقد أنه قام بانتقاد كل ما يمكن انتقاده، في ذاته وفي المجتمع السياسي الذي ينتمي إليه، بشفافية وإخلاص، وهو ما يُحوِّلُ عدم قدرة كتاب غليون على الإجابة على السؤال فيما لو كان كاتبه مفلساً كزملائه أم لا إلى معضلة مثيرة للتفكير.

الديمقراطي الذي يقرأ كتاب عطب الذات، دون تفكير نقدي في مقولات «النخب» و«السياسة»، وهو يعتقد أن مهمة أبناء النخبة الديمقراطية هي التوليف بين قلوب النخب السياسة من أجل خوض الصراع على السلطة والدولة، لن يجد ما قد ينتقد برهان غليون عليه، ولكن الديمقراطي الواعي بحدود النخب الديمقراطية وتواضع حجمها وعجزها عن فرض إيقاع اللعبة السياسية، والذي يعتقد أن مهمة التيار الوطني الديمقراطي هي التحول إلى أقلية فاعلة وقوة سياسية قادرة على خوض صراعات السياسة، والعمل بنَفَس طويل على إطلاق بعض الديناميات وخوض بعض الصراعات الوطنية، سيتمكن بكل بساطة من انتقاد غياب أي تفكير جاد في السُبُل التي تُمكِّنُ هذه النخب من الفاعلية، أو بما يدعوه ياسين الحاج صالح بغياب النظرية الديمقراطية. النخبة الديمقراطية في تعقيدات الواقع تبدو أقرب إلى برهان غليون في تجربته السياسية الوجيزة، التي بدأها كي يثبت قدرة الرؤية الوطنية الديمقراطية على الانخراط بالواقع وتحويل النظرية إلى ممارسة، ولكنه سرعان ما انسحبَ، مشتكياً من إفلاس النخب الأخرى، وكأن الواقع لا يرتقي لملاقاة النظرية، ما يثبت عجزه عن العمل في هكذا واقع، وما يجعله مُفلِساً آخر في جوقة المفلسين.

من جهة أخرى، تتصف هذه الغليونية بمقاربة شديدة الليبرالية للسياسة، بوصفها فعالية قائمة على الحوار والإقناع والائتلاف، رغم أنها تجري في عالم غير ليبرالي، لا يمكن مقاربته دون الاستناد على مقولات القوة والصراع، وهو ما يَعِد به مستقبل سوريا يحكمها إسلامٌ سياسي ذو ماضٍ سلفي مقاتل، بل وتعدُ به اللحظةُ الراهنة التي تبدو شديدة البعد عن قالب «الانتقال الديمقراطي».

بالإضافة إلى ذلك، يعقوبية الرؤية التي تمتلكها هذه الوطنية الديمقراطية، والتي لا تستطيع أن تتخيل العمل خارج حُجرة قيادة السياسة المسماة الدولة ومشاريع الدولة الأمة، يبدو سبباً آخر من أسباب قلة خصوبتها العملية. مآلات الثورة الفرنسية نفسها، ومآزق الجمهوريات الفرنسية والديمقراطية الفرنسية، يجب أن تدفعنا إلى مراجعة المَرجعية الفرنسية التي تستند عليها هذه الرؤية السياسية، وإلى التفكير في سياسات تحررية أخرى، قادرة على تفكير ملموس وعياني في سؤال الديمقراطية، وعلى الخروج من اتكاليّتنا على مقولات الدولة والنخبة.

بالإضافة إلى ضرورة الاشتغال على «نظرية ديمقراطية»، وما يعنيه ذلك من اشتغال نقدي على مقولات من عالم السياسة والسوسيولوجيا والاقتصاد والتاريخ، يجب على الأزمة العالمية التي تمر بها الديمقراطية أن تدفعنا إلى الاهتمام بالعُمق الفلسفي لهذه المقولة، للخروج من المقاربة السياسوية، والتأسيس لها كقيمة ومقولة كبرى، قادرة على التصالح مع الحلم واليوتيوبيا، فالديمقراطية اليوم، والتي تقدم نفسها بوصفها «أسوأ أشكال الحكم، باستثناء كل الأشكال الأخرى التي تمت تجربتها» لم تَعُد تغري، بصيغتها الإجرائية هذه، الكثير من المجتمعات الإنسانية، ودخلت منذ سنين طويلة في أزمة كبرى عنوانها وصول دونالد ترامب وأمثاله إلى سدة السلطة في الولايات المتحدة.

الاستعانةُ بفلسفة المُحايَثة السبينوزية وامتداداتها الأناركية والليبرالية والنيتشوية والبراغماتية والماركسية الليبرتارية، وقدرةُ هذه الفلسفات على الالتقاء لتقديم أنطولوجيا تحررية في عالم منزوع السحر، يمكن أن تقودنا إلى بناء رؤية شعرية للوجود، تسمح لنا بعيشٍ طيب رغم مفارقته السحر. الديمقراطية، بصيغها الإغريقية والغربية، وقدرتها على إعادة السياسة إلى المدينة، وضرورة السياسة كواحدة من شروط العيش الطيب، وضرورة براغماتية السياسة، لاسلطويتها واشتغالها وفق مقولات الأخوة والحياة اليومية، تشكل احتمالات مقولات كبرى، سمحت لنا تجربتُنا السورية بتلمُّس بعض أثرها، ويمكن في اللحظة الراهنة اختبار إمكانية توليفها في مقاربة شعرية للسياسة والوجود.

سنوات الجلجلة: كي لا ننسى؟

من جهة أخرى، وبعيداً عن الأحلام الفلسفية، قد تُنعش القراءة السحرية للحظة الثامن من كانون الأول الرغبةَ بالنسيان، نسيان سنوات الجلجلة السورية التي لا تُنسى، والتي تَذوَّقَ فيها السوري كل أبعاد العيش في عالم منزوع السحر، وهو ما تسبَّبَ في تَحوُّلِ الاكتئاب، السياسي في عمقه، إلى ظاهرة مجتمعية كبرى. الذاكرة الوجدانية لهذه السنوات، ومحاولات السوريين لتجاوزها، والتجارب الروحية التي انطوت عليها، والخلاصات التي انتهى إليها بعضنا. قد تشكل بعضاً من أعز ما نملك وتجربةً قادرةً على تخصيب إجاباتنا على سؤال سوريا التي نحلم بها.

من جهة أخرى، قد تدفعنا الرغبة بنسيان هذه السنوات إلى نسيان مُكتسباتها أيضاً، والتي تشكل بعض أهم ما عرفته سوريا في تاريخها الحديث، فالمليون ونصف مليون سوري المقيمون في أوروبا، والذين عاشوا تجارب مختلفة جذرياً عن التجارب التي اعتادها السوريون فيما سبق، والذين يتشابهون في الكثير من محدّداتهم السوسيولوجية وفي ظروف معيشتهم، يمكن أن يتحولوا بتقاطعاتهم الاجتماعية الوازنة إلى «كتلة تاريخية» قادرة على تخصيب سوريا ودعم تياراتها التحررية، وعلى ربطها بالعصر والعالم وفق منظور نقدي، تغذّيه تجربة السوريين اليومية في عوالمهم الغربية.

الرغبة بالنسيان قد تدفعنا أيضاً إلى نسيان الحصيلة الإنسانية الهائلة التي دفعتها سوريا في سنوات الجلجلة، باتجاه التصالح مع سياسات ليبرالية اقتصادياً قوامها التسامح مع رغبة شرائح معينة في الرفاه الاستهلاكي والانفتاح، في الوقت الذي تحتاج فيه سوريا إلى الدفع نحو سياسات تنموية لا يمكن تمويلها دون توجهات «يسارية»، تسمح بجبر ضرر عوائل الشهداء والمُغيَّبين، ومساعدة مئات آلاف النازحين على العودة الكريمة والمعاقين على عيش حياة كريمة، أو الاعتناء بالأطفال الذين يحتاج 7.5 مليون منهم إلى المساعدة، وفق اليونيسيف، والذين لا يذهب نصفهم إلى المدرسة ويعاني ثلثهم من صدمات نفسية و650 ألف طفل منهم من سوء التغذية المزمن. لا بد أيضاً من التفكير بالأجيال التي نشأت في أيام الحرب ومساعدتهم على تحسين شروط حياتهم، ومساعدة 90 بالمئة من المجتمع السوري القابع تحت خط الفقر على تأمين خبز يومهم.

من أجل العودة إلى حقائق التاريخ والجغرافيا؟

بالإضافة إلى ذلك، تقودنا القراءة السحرية لهذه اللحظة إلى رؤية إرادوية ورغائبية فيما يتعلق بطبيعة السلطة الجديدة في سوريا واحتمالاتها البونابارتية، وإلى التمركُز الشديد حول سوريا، متناسين أن لحظة انهيار النظام هي أيضاً محصلة لصراعات إقليمية جيوسياسية كبرى، أنهكت الراعي الإيراني وقضت على مشروعه في المنطقة. بكلمات أخرى، ما يدعونا إلى نزع سحر اللحظة أيضاً هو تراكُبُ الديناميات التي أدت إلى هذه اللحظة والعمقُ الجيوسياسي الذي مَيَّزها، فما حصل في الثامن من كانون الأول (ديسمبر) لا يكتفي بالارتباط بمسار الصراع السوري الدائر منذ سنوات طويلة، بل ويبدو أكثر ارتباطاً بالسيرورة التي افتتحتها عملية 7 أكتوبر، وبتآكل سطوة حزب الله وسائر الميليشيات الإيرانية في المنطقة، والذي جعل المنظومة العسكرية السورية، المهترئة منذ عقود، عارية تماماً أمام عملية ردع العدوان، التي قادتها كتائب منظمة ومنضبطة، تمتلك من وجوه الشبه مع الجيوش الحديثة أكثر بكثير مما يمتلكه «جيش أبو شحاطة»، والتي قد يجبرنا بنيانها هذا على الانتقال من دلف الجيش العُصبوي إلى مزراب الجيش العقائدي.

من جهة أخرى، سقوطُ النظام واستفرادُ الإسلاميين بالسلطة والمجتمع هي مرحلة جديدة على السوريين بكل تأكيد، ولكن على العالم أيضاً، فلم يَعُد يمكن لسيسي سوري أن يُولَد، ولا بدّ للمجتمع السوري والعالم أن يتفاهموا مع الإسلاميين، وهو ما يبدو مفتوحاً على احتمالات كثيرة تجعل الاكتفاء بمتابعتها حرقاً للأعصاب ومحاولةَ تنبؤ شديدة العبثية.

ما يجري قد يشكل لحظة البداية لسيرورة إقليمية كبرى عنوانها وصول الإسلاميين إلى سلطة، يحتكرون فيها عنفاً خفيفاً يسمح لهم بالحكم ويُجبرهم على السياسة، وهو ما قد يعني تحوّلَها إلى المسمار الحقيقي الأول في تابوت النظام الرسمي العربي، الميت منذ عقود والذي لا تتوقف رائحة جثته عن خنق أبناء المنطقة. ارتباط هذا الحدث العملاق وتزامنه مع «الترتيب الجديد» الذي وعدت به اسرائيل بعد إبادة غزة يأتي ليؤكد على جِدّة المرحلة، وعلى استحالة تقديمِ الوطنية الديمقراطية الكلاسيكية إطاراً نظرياً قادراً على تمكيننا من التفكير بأسئلتها.

عشنا خمسة عشر عاماً في عالم منزوعِ السحر، وها نحن نعيش لحظةً قد لا تعرف سوريا بكل تاريخها ما يتجاوزها في الغواية. يمكننا الاستسلام لغواية السحر، ولكن يمكننا أيضاً العمل على الخروج، معاً، من الوصاية والقصور، على حد تعبير كانط، عبر رفض الاستسلام لأوهام السحر والتمسُّك باحتمالات العيش الطيب، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى وبكل ما تقتضيه من سياسة، لنصبح فناني وجودنا، على حد تعبير نيشته وماركس، ونتمكن من استبدال غواية السحر بصنعة الشعر.

 

1.إن كان لأعمال مارسيل غوشيه أهمية كبيرة في تحليل ونقد الحداثة وفردانيتها وتطرف المشروع النيوليبرالي، فإن الأفق الذي يحاول أن يمضي إليه لا يخلو من سقطات، وكأن القومية، مفرز الحداثة الذي لا يخلو من شحنة سحرية، هي الحل لعودة السحر إلى العالم، أو كأن المطلوب هو عودة السحر إلى العالم.
2.لا بد من التذكير أن النزعة القومية هي الفأر الذي تَمخّضته الحداثة، وأنه فأر خطير ومُدمّر، وقد يودي بأرواح الملايين، وضمائر عشرات الملايين، كما حدث في الحربين العالميتين، وفي الكثير من الحروب القومية التافهة.
– الجمهورية نت
Next Post

اترك رد

منتدى الرأي للحوار الديمقراطي (يوتيوب)

فبراير 2025
س د ن ث أرب خ ج
1234567
891011121314
15161718192021
22232425262728

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist