مع دخول سورية، الأربعاء الماضي، مرحلة جديدة مع الإعلان عن تعيين أحمد الشرع رئيساً لسورية في المرحلة الانتقالية، برز أيضاً، خلال مؤتمر النصر الذي احتضنه قصر الشعب في العاصمة دمشق، إلغاء العمل بدستور سنة 2012، وإيقاف العمل بجميع القوانين الاستثنائية، لكن من دون إصدار إعلان دستوري، والإعلان عن العمل بأي وثيقة دستورية سابقة. واكتفى المتحدث باسم إدارة العمليات العسكرية، الذي تلا ما سمي بيان النصر، بالإشارة إلى تفويض الشرع بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت للمرحلة الانتقالية يتولى مهامه إلى حين إقرار الدستور السوري الدائم ودخوله حيز التنفيذ.
وفي محاولة لتقديم تطمينات، قال الرئيس السوري أحمد الشرع، في خطاب مساء أمس الخميس: “سنعمل على تشكيل حكومة انتقالية شاملة، تعبّر عن تنوع سورية برجالها ونسائها وشبابها، وتتولى العمل على بناء مؤسسات سورية الجديدة حتى نصل إلى مرحلة انتخابات حرة نزيهة”. وأضاف: “استناداً لتفويضي بمهامي الحالية وقرار حل مجلس الشعب، فإنني سأعلن عن لجنة تحضيرية لاختيار مجلس تشريعي مصغر يملأ هذا الفراغ في المرحلة الانتقالية، وسنعلن في الأيام القادمة عن اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني، والذي سيكون منصة مباشرة للمداولات والمشاورات واستماع مختلف وجهات النظر حول برنامجنا السياسي القادم”. وأعلن أنه “بعد إتمام هذه الخطوات، سنعلن عن الإعلان الدستوري ليكون المرجع القانوني للمرحلة الانتقالية”. ولكن الشرع لم يقدّم مواعيد لهذه الاستحقاقات.
وفي حين أعلنت الإدارة الجديدة، أو على الأقل الحكومة التي عينتها برئاسة محمد البشير في السابق، أنها ستسيّر أمور البلاد لثلاثة أشهر تنتهي في الأول من مارس/آذار المقبل، تضاربت المعلومات، الأربعاء الماضي، حول إعلان قيادة العمليات العسكرية عن تمديد المرحلة الانتقالية ثلاثة أشهر إضافية، من دون تأكيدات واضحة في هذا الشأن. في هذا الإطار، رأى سياسيون أن الحكومة لا تدرك أهمية التعاطي مع الوقت الكافي لتمرير المرحلة الانتقالية في البلاد، قياساً مع طبيعة الاستحقاقات السياسية والأمنية التي تتخللها، لا سيما عقد “مؤتمر حوار وطني شامل”، ينتج منه دستور جديد، أو هيئة لصياغة الدستور السوري سواء كانت هذه الهيئة منتخبة أو مختارة، وبالتالي، فإن الوقت يجب أن يكون كافياً لتمرير هذه الاستحقاقات بكفاءة.
وكانت التسريبات تشير إلى عزم الإدارة الجديدة إجراء مؤتمر وطني يضم نحو 1200 شخصية من جميع مكونات وأطياف المجتمع السوري، تنبثق عنه لجنة قانونية تقوم بحل البرلمان وحل الدستور السوري ويشكل لجنة لصياغة دستور جديد للبلاد وقانون انتخابات، يجري وفقه انتخابات تشريعية ورئاسية تنتقل وفقها البلاد إلى حكومة نظامية. ثم أجّلت المؤتمر “حتى يتسنى تشكيل لجنة تحضيرية موسعة للمؤتمر تستوعب التمثيل الشامل لسورية من كافة الشرائح والمحافظات”، على أن تكون هذه اللجنة التحضيرية “حجر أساس في إنشاء الهوية السياسية لسورية المستقبل”، بحسب تصريحات سابقة لوزير الخارجية في الإدارة أسعد الشيباني.
رفض الدستور السوري الحالي
يبدو أن هناك اتفاقاً بين الإدارة الجديدة وجميع المكونات السياسية والاجتماعية السورية، على رفض التعامل بالدستور الحالي (دستور 2012)، الذي كان بشار الأسد أقره، وفيه ما يثبت أركان حكمه، فلم تأت الإدارة أو أي من المكونات السياسية في البلاد. ورغم ذلك لم تكن المطالبات حاضرة بملء “الفراغ الدستوري” سواء بوثيقة دستورية، أو دستور قديم للبلاد لتمرير الفترة الانتقالية، إلا ما ندر، ودون الإشارة إلى أهمية ذلك في المرحلة الحالية. وضمن ذلك، كان المعارض والمفكر السوري برهان غليون أشار، في لقاء ضمن بودكاست “هامش جاد” على التلفزيون العربي، إلى أنه كان يفضل أن تتبنى الإدارة الجديدة دستور 1950، لكونه دستوراً شرعياً، بعد تنقيحه من قبل لجنة دستورية منتخبة، والعمل به خلال الفترة الانتقالية، لافتاً إلى أن مؤتمر الحوار الوطني فكرة سابقة لأوانها، ويجب عدم عقده قبل عامين، حتى تنضج الأفكار من خلال الحوارات بين مكونات الشعب عبر المنتديات والندوات.
مسودات اللجنة الدستورية
أكدت المحامية ميادة سفر، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن كل القرارات والتعيينات التي تصدر عن الإدارة الجديدة ليس لها أي سند قانوني، موضحة أنه كان يجب على هذه الإدارة إصدار إعلان دستوري يشكل مرجعية قانونية ودستورية لتلك القرارات. واعتبرت أنه في الوقت الحالي هناك تعطيل غير معلن للدستور، وقرارات تصدر بشكل يخالف دستور عام 2012، دون سند قانوني أو دستوري تستند إليه تلك القرارات، سواء فيما يخص تسريح بعض العمال المعينين وفق قانون العاملين الأساسي، أو قرارات تتعلق بشكل الدولة والاقتصاد التي يجب أن تستند إلى الدستور أو حتى إحداث وظائف ليس لها وجود أصلاً ضمن الدستور السوري أو القوانين. وأضافت سفر: حتى القرارات التي تصدر في المرحلة التي يتم فيها إعلان دستوري، أو تصدر في المرحلة الانتقالية، لا تأخذ الصفة الشرعية ما لم يتم المصادقة عليها من مجلس شعب منتخب.
ميادة سفر: كان يجب على الإدارة إصدار إعلان دستوري يشكل مرجعية قانونية ودستورية لقراراتها
وفي حين كان الدستور السوري أهم مفاصل التفاوض مع نظام الأسد برعاية الأمم المتحدة، بما هو أحد مخرجات القرار الأممي 2254 للعام 2015، فإن النظام عرقل بداية انعقاد لجنة صياغة الدستور السوري حتى 2019، أي بعد أربعة أعوام من صدور القرار الأممي، ثم عرقل في أربعة أعوام أخرى عمل واجتماعات اللجنة في جنيف، ولم ينتج من اللجنة صياغة مادة واحدة في الدستور الذي كان مفترضاً للبلاد.
وأشارت ديما موسى، العضو في اللجنة المصغرة لصياغة الدستور السوري (كانت عضوة في هيئة التفاوض التي تمثل المعارضة)، رداً على سؤال لـ”العربي الجديد”، فيما إذا كانوا في اللجنة توصلوا إلى مسودات أو أوراق يمكن مشاركتها مع من سيخولون كتابة الدستور السوري الجديد، إلى أنه “خلال السنوات الماضية، وبالأخص بعد إطلاق اللجنة الدستورية، عملنا ضمن هيئة التفاوض ووفدها في اللجنة الدستورية على الكثير من الملفات المرتبطة بالدستور، وكذلك قانون الانتخابات، وأنجزنا الكثير من العمل والأوراق التي ستكون مفيدة لأي لجنة تعمل على الدستور السوري القادم. وبالتأكيد هذه الأوراق هي ملك الشعب السوري، وستتم مشاركتها للاستفادة منها في عملية كتابة الدستور والمنظومة القانونية ذات الصلة”.
وحول ما إذا كان عمل اللجنة ينحصر في صياغة دستور جديد، أو تعديل دستور 2012، قالت موسى: “عملنا في إطار اللجنة الدستورية كان في إطار صياغة دستور جديد للبلاد، بالاستفادة من جميع دساتير سورية، منذ أول دستور في 1920 وحتى الحالي (2012)، وعملنا كذلك على دراسة التجارب الدستورية لعدد من الدول التي خاضت تجربة مشابهة في العمل على دستور بعد خروج البلاد من نزاع، وبالأخص فيما يتعلق بالأحكام الانتقالية والأمور ذات الصلة، مثل العدالة الانتقالية ومعالجة كل ما هو مرتبط بانتهاكات حقوق الإنسان مثل موضوع المفقودين والمهجرين”.
ولفتت موسى إلى أنه “منذ 2011، عملت الكثير من الجهات السياسية والمدنية السورية على ملفات مهمة مرتبطة بالدستور والحقوق والواجبات التي يجب أن ينص عليها الدستور، وقامت بمشاورات مع شريحة واسعة ومتنوعة من الشعب السوري لمعرفة تطلعاته حول سورية المستقبل. ويجب الاستفادة من كل الجهود والخبرات التي اكتسبها السوريون، وبالتأكيد هناك أشخاص ممن كانوا في اللجنة الدستورية سيكون وجودهم قيمة مضافة للهيئة التي سيتم تكليفها بصياغة مسودة الدستور السوري الجديد”.
مشكلات دستور 2012
كان دستور 2012، الذي اعتمد النظام الرئاسي المطلق، قد أعطى سلطات واسعة لرئيس الجمهورية، الذي ركز بيده السلطات الثلاث دون الفصل بينها على أي مستوى. واعتمد الدستور السوري أيضاً المركزية الكاملة شكلاً لإدارة الدولة، ما يُشعر بعض المناطق في الأطراف، أو تلك البعيدة عن المركز، بالغبن أو التهميش. كما أنه أتاح للرئيس سن القوانين وإصدار المراسيم دون الرجوع، أو برجوع شكلي، للبرلمان لتمريرها. وعلاوة على ذلك، استطاع الرئيس وجهاز الحكم القفز فوق كل مواد الدستور، مستنداً في ذلك إلى رئاسة رئيس الجمهورية لمجلس القضاء الأعلى، ما يشكل انتهاكاً دستورياً صارخاً.
كما أن دستور 2012 تضمن مواد تتعارض مع مبدأ “سمو الدستور”، لا سيما فيما يخص المواد المتعلقة بالتعبير عن الرأي وتشكيل الأحزاب والانتخابات وحق التظاهر والملكية الخاصة والعامة، حيث يتيح الدستور السوري كل هذه الحقوق، لكن وفق قوانين يجب أن تمر عبر المشرع العادي، ما يمكن أن يفرغ تلك الحقوق من قوتها الدستورية.
ديما موسى: هناك أشخاص ممن كانوا في اللجنة الدستورية سيكون وجودهم قيمة مضافة لهيئة صياغة الدستور
وستتجه الأنظار إلى أي لجنة أو هيئة مكلفة بصياغة الدستور السوري الجديد، لا سيما فيما يتعلق بالمواد والبنود الخاصة بشكل نظام الحكم (رئاسي، شبه رئاسي، برلماني)، وشكل إدارة الدولة (مركزية، لامركزية، فيدرالية)، وصلاحيات رئيس الجمهورية، لا سيما فيما يتعلق بتعيين رؤساء السلطات الثلاث أو كبار الموظفين في الدولة أو إصدار المراسيم أو اقتراح القوانين، والفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية، التنفيذية، القضائية)، ومصادر التشريع وآلية الرقابة على دستورية القوانين، بالإضافة إلى مناقشة مواد هامة كدين رئيس الدولة، وضمان توزيع الثروات وغيرها، وإن كان هناك عدد من المبادئ في الدستور الحالي لا تشكل خلافاً كبيراً بين المعارضة والنظام، كبعض المبادئ الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
من جهته، رأى الخبير القانوني، والمسؤول السابق في المعارضة السورية محمد صبرا، أنه يجب التمييز بين وضع الدستور وصياغته، موضحاً أن وضع الدستور من المفترض أن يتم من قبل الشعب السوري أو ممثليه الحقيقيين، أما الصياغة فتتم في مرحلة لاحقة لوضع الدستور السوري أي الاتفاق على المبادئ الأساسية التي ستحكم النظام السياسي في البلاد. وأضاف صبرا، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “الممثلين الحقيقيين للسوريين الذين من المفترض أن يضعوا الدستور السوري يتم اختيارهم عبر الانتخاب، وهذا ما أفضله، أي انتخاب هيئة تأسيسية بعد مؤتمر الحوار الوطني، وهذا المؤتمر يفترض أن يدوم انعقاده طيلة المرحلة الانتقالية ليتم النقاش بشكل معمق حول المبادئ والقيم التي سيتضمنها ويحميها الدستور”.
ورأى صبرا أن صياغة الدستور السوري من قبل لجنة فنية أو لجنة من الخبراء، لا تعطي دستوراً حقيقياً، وإنما دستوراً مفصلاً على هوى أعضاء تلك اللجنة، لافتاً إلى أن “الأولوية حالياً هي لتشكيل اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني، الذي أتمنى أن يكون التمثيل فيه مستنداً إلى تمثيل الوحدات الإدارية السورية بشكل حقيقي، من دون عدد كبير حتى يتم النقاش بشكل سليم وجاد”.
الملاءمة مع الواقع
وشدد صبرا على أنه بناء على “التخريب الممنهج الذي طاول البنية المجتمعية والسياسية والاقتصادية والإدارية السورية، يجب أن يذهب الدستور لتحقيق عملية الملاءمة، أي تقديم الحلول المناسبة مع الواقع الحالي، فلا يوجد دستور جيد ودستور سيئ. هناك دستور ملائم قادر على حل المشكلات والاستعصاءات التي تنشأ داخل المجتمع، فالأولوية الآن لإعادة البناء المجتمعي والسياسي والاقتصادي بمعناه الشامل، الذي يتضمن إعادة الإعمار، وتنمية الإنسان السوري، وتأهيل التعليم، والرعاية الصحية، والضمانات الاجتماعية، فنحن لدينا مجتمع منهك وتفتت في النسيج المجتمعي، ويجب أن يلحظ الدستور كل هذه المشكلات، ما يفضي إلى قوانين مرنة تلتزم بمعالجتها”.
- العربي الجديد