تمنح الحكومة الانتقالية المرتقبة بعد أيام صورةً جديدةً لآلية الحكم في سورية، فيمكن لتنوّعها المأمول أن يحقّق الرؤية الطموحة للرئيس أحمد الشرع، التي أعلن عنها في خطابه المباشر الأوّل للشعب السوري (30/1/2025)، بدءاً من سدّ ثغرة الفراغ في السلطة التنفيذية على الأقل، إذ يعطي تنوّع الحكومة المثال العملي عن إزاحة حاجز “اللون الواحد”، أو ما سمّيت ضرورة انسجام فريق العمل في المرحلة الأولى، بعد تحرير سورية من منظومة الأسد الاستبدادية، أي الانتقال من منطق الإقصاء إلى المشاركة الفاعلة للسوريات والسوريين كلّهم. تتحمّل الحكومة مهام العمل الممنهج في إدارة الدولة بكامل أولوياتها التنفيذية، من الأمنية والإدارية والتعليمية والاقتصادية إلى المصالحة المجتمعية، وكذلك السياسية والدبلوماسية، ما يستوجب استنفار القوى السورية للمشاركة الفاعلة في إنجاح المرحلة الأولى من مسار طويل نحو الانتقال السياسي في البلاد، ووضع الأسس التي ستقودنا إلى استقرار قابل لإعادة البناء والتنمية، من خلال إعادة هيكلة النظام السياسي بما يتوافق مع تطلّعات الشعب السوري.
الانتقال الاسمي لـ”المؤتمر الوطني” ليصبح مؤتمر “الحوار الوطني” يفيد بأنه مُجرَّد مؤتمر لتبادل “المشورة”
ومع التفاؤل الكبير الذي ساد في الأوساط السورية بأن مسار الانتقال بدأ يأخذ طريقه الطبيعي نحو الإنجاز، إلا أن ثمّة تساؤلات يثيرها غياب ربط الأهداف الكبيرة بجدول زمني واضح يحدّد مدّة الفترة الانتقالية، ومراحل تنفيذ الخطوات المهمّة التي رتّب أولوياتها الرئيس، فهل المرحلة الانتقالية تستمدّ مرجعيتها من قرار مجلس الأمن 2254، الذي يشدّد على ضرورة إجراء انتقال سياسي شامل في سورية، ضمن إطار زمني محدّد، يضمن أن جميع الأطراف السورية تشارك في العملية السياسية، ويُقترح أن تستمرّ المرحلة الانتقالية مدّة 18 شهراً، يُضمَن خلالها تشكيل حكومة شاملة، ووضع دستور جديد، وتنظيم انتخابات نزيهة تحت إشراف دولي، خاصّة أن الخطاب تضمّن المواضيع نفسها بصياغة مقاربة له، فالرئيس الشرع لم يُحدّد إطاراً زمنياً دقيقاً لإنهاء المرحلة الانتقالية، رغم تأكيده أهمية وضع دستور جديد كان سابقاً قد أشار إلى أنه قد يستغرق نحو ثلاث سنوات، تليها انتخابات يُفترض أن تكون نزيهة بعد أربع سنوات. وهذا يثير التساؤل: هل يُفترض أن تستمرّ المرحلة الانتقالية طوال هذه المدة، أم ينبغي إنهاؤها بمُجرَّد انتهاء الهيئة التشريعية، التي ستُعلَن، من صياغة الإعلان الدستوري، وانعقاد مؤتمر الحوار الوطني؟ وهل تحديد شكل الدولة ودستورها الدائم مهمّة موكلة إلى هذا المؤتمر، أم أنه مُجرَّد حوار يناقش مخرجات الجهة التشريعية منتجاً نهائياً مقرّراً وغير قابل للتعديل؟
المسألة الأساسية هنا تكمن في أن غياب التحديد الزمني قد يؤدّي إلى تمديد المرحلة الانتقالية بشكل مبرّر أو غير مبرّر، ما يجعلها حالة ممتدّة يصعب الخروج منها، وهذا ليس حالةً فريدةً في تجارب دول أخرى شهدت مراحل انتقالية طويلة، مثل رواندا، حيث استمرّت المرحلة الانتقالية بعد الإبادة الجماعية تسع سنوات تقريباً (1994 – 2003) قبل أن يُوضَع دستور جديد وتُجرَى انتخابات رئاسية. ورغم أن رواندا استطاعت تحقيق استقرار نسبي، ساهمت هذه المدّة الطويلة في تركيز السلطة في يد القيادة الحاكمة من دون تداول حقيقي للسلطة، وهو ما قد يكون أحد مخاوف المجتمع الدولي الذي يرصد ما يحدث في سورية بعين الريبة، أكثر من أنها عين ترعى تحوّل دولة من الخراب المميت إلى حالة من استعادة الحياة بعد 54 عاماً من القمع والقهر اللذين مارسهما نظامَا الأسد الأب والابن.
لذا، من الضروري أن تضع الحكومة الانتقالية في سورية إطاراً زمنياً واضحاً، يحدّد مواعيد واضحة لإنهاء أعمالها الموكلة إليها، وفقاً لرؤيتها، ولحالة التوافق الدولي الذي تحتاج إليه اليوم سورية لإنهاء ملفّ العقوبات عليها، وانسياب التمويل وإعادة الإعمار إليها، سواء بما يتماشى مع روح القرار الدولي، أو في حال تجاوزته وفقاً لما تراه ظروف خاصّة في سورية (الخصوصية السورية)، التي لا يمكن قياسها بمسطرة الأمم المتحدة أو الدول المعنية بالملفّ السوري.
وجود إطار زمني محدّد للمرحلة الانتقالية، ولكلّ بنودها، ضمانةً لإنجاز الأهداف
ولعلّ اللافت هو الانتقال الاسمي لـ”المؤتمر الوطني”، المنوط به تحديد شكل الدولة، ليصبح مؤتمر “الحوار الوطني”، ما يفيد بأنه مُجرَّد مؤتمر لتبادل “المشورة”، بما ينطبق مع العنوان العريض الذي وضعه الرئيس السوري مفردةً بديلةً من الديمقراطية، والتي استخدم أدواتها من دون المرور إليها، فالانتخابات الحرّة النزيهة تمثّل حجر الزاوية وأداتها العملية، بعد تحقيق حياة كريمة وحقوق مواطنة كاملة للسوريين، والإقرار بتداول السلطة لا الهيمنة عليها، فالحكم بالعدل والشورى غير الحكم بالعدل والمشاركة لكلّ القوى المجتمعية والسياسية، فهل ستكون المرحلة الانتقالية حاضنةً للتشريع أحادي الهيمنة؟ أم أن المجلس التشريعي سيبدّد هذه المخاوف بحضور عادل للأطياف السورية بكامل مرجعياتها، ليكون محطّةً أوليّةً للانتقال من الشورى إلى الديمقراطية؟ وهو أحد شروط تحوّل مواقف الدول الغربية من الدولة السورية الجديدة.
في المحصلة، يبقى وجود إطار زمني محدّد للمرحلة الانتقالية، ولكلّ بنودها، ضمانةً لإنجاز الأهداف، لصالح كلا الطرفَين، الحاكم والمحكوم، فلا تسويف على حساب الشعب، ولا تمديد يهدر وعود الانتقال إلى سورية الدولة الموحّدة، معزّزاً فرصنا في التغيير السياسي المنشود.
- العربي الجديد