-
-
المشهد الأول
أصوات الرصاص تَصمُّ الآفاق، صدى الصراخ، أو كما نقول بالحموي «ولاويل»، يكاد يفجّرُ الحجر. من نافذة المنزل، وبمعونة منظار بعدسةٍ مكبّرة، أحد الأدوات القليلة التي امتلكها العُزَّل وسط المعركة الدامية، ظهرت خيالات مسلحين يجرّون جثة شاب، تسيل دماؤه مُحوِّلة رُخام الدرج الأبيض إلى لون أحمر مسوّد. كان صوت ارتطام رأسه بالرخام البارد أقوى من صوت الرصاص. دقائق، ثم اختفى وكلاء الموت، وأخذوا معهم جثة كرم، ابن السادسة عشرة، الرياضي المتفوق في دراسته، الشاب الوحيد في منزل مأهول بالنساء الشجاعات. صوت أمه مزَّقَ ظلام الليل، مرفقاً بهدير ماء غريب. خرج الجيران، تقدَّموا بضع خطوات، ثم توقّفوا مذهولين: كانت أمه وخالاته يغسلنَ درج المنزل، يُزلنَ آثار دم ولدهنَّ بالماء والدموع الغزيرة.
المشهد الثاني
انتشر الجنود على أسطح كتف الشْريعة، وبدأوا بتفتيش المنازل المطلة على البساتين، مقتنعين بأن هذه المنازل تؤوي الثوار. لم تستطع عمتي النوم في تلك الليلة، فقد سمعت حركة غريبة قرب سور البيت. ومع أول خيوط الفجر، تدثرت بشالها الصوفي وخرجت لترى ما يجري. كان هناك خط مُتعرِّجٌ من الدم يمتد من طريق البساتين حتى باب منزلنا، وعلى العتبة كوفية مغطاة بالدم. أصابها الذعر: ماذا لو كان أحدهم قد تسلّل إلى الحديقة؟ أيقظت جميع من في المنزل، لم يكن هناك رجال؛ فإما معتقلون أو قتلى. أما أبي فقد أقام في مشفاه ولم يغادره حتى انتهاء الحصار. كانوا أربع نساء بالغات، صبية في الخامسة عشرة، وطفلة في السادسة. بدأنَ بتفتيش المنزل، بحثاً عن أي أثر. وعندما لم يعثروا على شيء، قرّرت عمتي شطف الرصيف وإزالة آثار الدماء قبل أن يعود الجنود.
في المساء، عاد الجنود وقرروا التخييم أمام المنزل. كانوا يطرقون الباب طالبين بعض الطعام، إذ كانوا جياعاً مثل باقي سكان المدينة. وكانت نساء المنزل يقتسمنَ معهم ما تبقى من المؤن. وفي إحدى جولات التفتيش، لمح أحد الجنود صبية جميلة خلف الباب، فسألها إن كانت مخطوبة، فأجابت بالنفي. ابتسم بعينين تلمعان وقال: «شو، الشباب ما عندهم نظر ببلدكم؟».
اجتمعت النساء مجدداً واتخذنَ قراراً سريعاً: يجب أن تغادر أمي مع ابنتيها فوراً، قصصُ الاغتصاب كانت مفجعة، تمت بعض الاتصالات، وقرَّرنَ السير مع الفجر إلى الجسر المؤدي إلى طريق السلمية، حيث يمكنهنَّ تدبّر أمرهنّ. تلحّفت أمي وبناتها بملاءات سوداء، وخرجنَ في عتمة الليل والصقيع، وأصواتُ الرصاص تلاحق خطواتهن.
المشهد الثالث
أوقفَ الجنود رجالَ وشباب حيّ الدباغة المتواجدين داخل منازلهم عند حائط البناء، وأطلقوا النار عليهم دون أن يسألوهم عن أسمائهم وهوياتهم، رموا الجثث في دكّان مقابل. بعد أيام، سمع أحد المارة أنيناً من الداخل، فاقتربَ بحذر وسط رائحة الموت التي ملأت المكان. ناداه صوت واهن، طالباً منه الاتصال بالدكتور فيصل ليخبره أن أخاه ما زال حياً.
كانت المدينة ما تزال تحت حظر التجول. طلب والدي سيارة إسعاف لنقل عمي، وبعد مفاوضات طويلة، تمكَّنَ من إرسال دبابة إلى المكان. حملته إلى مشفى حمص، حيث تبين أنه نجا بأعجوبة رغم بقائه في الدكان لأيام بلا طعام أو علاج، ظل حياً بفضل ماء كان يتسرب من العلية، لكنه لم يكن قادراً على الحركة بسبب إصابة ساقه. بعد انتهاء الحصار، عاد عمي إلى البيت بساق واحدة، إذ اضطروا لبترها بسبب الغرغرينا. أمضى بقية حياته يصارع شبح الألم في ساقه المبتورة.
المشهد الرابع
اصطفّت وردة ونساء الحي أمام أبواب بيوتهن المفتوحة، وبدأنَ (بالزلاغيط) فور سماعهنَّ خبر وفاة باسل الأسد في حادث سيارة. وردة فقدت سبعة شباب اعتُقلوا فيما سُمي بالخميس الأسود، حيث تم رميهم في خندق وتصفيتهم جميعاً. لم تصدق خبر استشهادهم، وبقيت متعلقة بحبل الأمل. كانت تصلها أخبار كاذبة عن أن أحدهم شوهد في سجن تدمر. قضت السنوات الأخيرة من حياتها متنقلة بين القرى والمدن بحثاً عن أبنائها، تدفع القليل ممّا تجنيه من خدمة المنازل مقابل أي معلومة يمكنها الحصول عليها، وعندما سمعت بوفاة باسل، بعد اثني عشر عاماً، خلعت السواد مع نساء مكلومات مثلها، رغم أنهنَّ لم يستلمنَ جثامين أحبائهن أو أي وثيقة رسمية تؤكد وفاتهم. لكن شعورهن بأن «الله يمهل ولا يهمل» كان برداً وسلاماً على قلوبهن.
لم تستطع وردة المسامحة ولا النسيان. لم يُحاكَم أي مجرم، لم يَعرف أحدٌ الحقيقة، لم يعتذر منهم أحد، ولم تعوضهم السلطات عن الأذى النفسي والمادي الذي حلَّ بهم. هُمِّشت المدينة، وصار كل حموي وحموية إرهابياً حتى يثبت العكس.
لم أكن في حماة حينها. تابعتُ القليل من الأخبار عبر أصدقاء خارج المدينة، إذ قُطعت الاتصالات بالكامل، ولم تكن وسائل التواصل الاجتماعي موجودة. لم تتمكن وسائل الإعلام من التواجد بسبب الحصار، كان القلق والخوف موجعَين. بعد شهرين، زارني أهلي في الرياض، وبرفقتهم أختي الصغيرة كنانة، التي عايشت المجزرة. أتذكرُ انكماشها وخوفها، كانت طفلة جميلة تروي القصص وتبتكر الشخصيات من وحي العائلة. عبر عينيها، فهمتُ معنى الخوف وحقيقة ما جرى.
* * * * *
مع بداية حكم بشار الأسد، ذهب وجهاء المدينة للقائه، مُقترحين طيَّ صفحة حماة 82 والبدء من جديد، بشرط الاعتذار وجبر الضرر. رفض قائلاً: «أنا بشار الأسد، ولست حافظ، وما حصل لا علاقة لي به». لكن الأقدار شاءت أن تقع الثورة في عهده، ويُعيد ارتكاب المجازر بحق الشعب السوري على امتداد البلاد.
تأخرت حماة في التظاهر، فجراحُها لم تندمل بعد. اجتمعَ عقلاء المدينة وما تبقى من قياداتها السياسية، وقرروا تبني أي حراك سلمي يقوم به الشباب، شريطة عدم استعمال السلاح داخل المدينة، من يريد حمل السلاح فليخرج منها، المدينة أخذت نصيبها من التوحّش؛ وهكذا كان. شهدت المدينة أكبر تظاهرات سلمية مُنظَّمة عمّت سوريا.
اليوم تشهد سوريا بداية حقبة جديدة، ومن المؤكد أن الطريق طويل وصعب كي نصل إلى دولة المواطنة، ودستور ديمقراطي عصري. تركةُ الدولة الوحشية ثقيلة جداً، من خراب البنى التحتية إلى خراب المنظومات الاجتماعية والعائلية والثقافية الناظمة للمجتمع، الفقر والحصار الاقتصادي، الفكر الشمولي وما يتبعه من فساد؛ لكنها فُرصتنا نحن السوريين والسوريات لبناء وطن حر ديمقراطي مُوحَّد، يقوم على العدالة والتشارُك، وهذا يستلزم إطلاق مسار العدالة الانتقالية كي نُعيد لحمة المجتمع، ويستلزمُ محاسبة الجناة حتى لا نسمح بتكرار ما جرى، وحتى لا يصبح السوريون والسوريات استنساخاً لوردة التي رحلت عن هذا العالم بحسرةِ عدم معرفة الحقيقة؛ رحلت وردة وبقي مصير أولادها السبعة في غياهب أقبية المخابرات والظلم.
-