مع سقوط نظام الأسد وتولي إدارة جديدة مسؤولية قيادة سوريا، تتصدر المشهد السياسي إشكاليات معقدة تتجاوز حدود التغيير السلطوي لتتصل بمسألة إعادة إنتاج الدولة في سياق ما بعد الاستبداد، إذ إن تفكيك منظومة الحكم القائمة لا يعني بالضرورة تبلور نظام سياسي مستقر، بل قد يفضي—كما شهدت تجارب سابقة—إلى حالة فراغ استراتيجي تعبئه قوى غير مؤهلة لإدارة الدولة، أو مراكز نفوذ تنسج تحالفاتها على أسس انتهازية تُعيد إنتاج الفوضى بصيغ مغايرة. وعليه، فإن النقاش حول مستقبل سوريا لا يمكن أن ينحصر في البنية المؤسسية للدولة الجديدة فحسب، بل يجب أن يمتد ليشمل توازنات النخب، طبيعة المبادرات السياسية والاقتصادية، وتقاطعات النفوذ الإقليمي والدولي التي ستحدد مآلات التحول.
تُبرز التجربة العراقية بعد 2003 خطر المقاربة الراديكالية التي تفترض أن تفكيك أجهزة الدولة القديمة هو المدخل الوحيد لإعادة بناء النظام السياسي، فالتعامل مع مؤسسات الدولة على أنها مجرد أدوات للقمع والإقصاء قد يؤدي إلى حالة من الفوضى
يُعدّ الدور الذي ستلعبه النخب في سوريا بعد الأسد حاسمًا في رسم ملامح الدولة الجديدة، لا سيما أن النخب السورية، بكل تبايناتها، عاشت خلال العقود الماضية تشرذمًا بنيويًا جعلها غير قادرة على بلورة مشروع وطني مشترك، فمن جهة، هناك نخب تقليدية، سواء داخل النظام أو في معارضته، كرّست وجودها عبر أنماط الولاء الشخصي أو الارتباطات الإقليمية، دون أن تنجح في تقديم رؤية سياسية قادرة على استيعاب التحولات العميقة التي شهدتها البلاد. ومن جهة أخرى، برزت نخب شبابية جديدة خلال سنوات الثورة والصراع، لكنها وجدت نفسها معزولة عن دوائر القرار أو مستبعدة بفعل اصطفافات أيديولوجية عطّلت إمكانية تحقيق توافق وطني شامل.
هذه الأزمة البنيوية للنخب تفرض إشكالية مزدوجة: فمن جهة، تحتاج سوريا الجديدة إلى كوادر مؤهلة تدير المرحلة الانتقالية وتحقق الحد الأدنى من الاستقرار السياسي والاقتصادي، لكن هذه الكوادر إما مرتبطة بامتيازات الماضي أو غير قادرة على إدارة شؤون الدولة بفعل افتقارها إلى الخبرة المؤسساتية، ومن جهة أخرى، فإن الشرعية السياسية لأي نخب جديدة ستكون موضع نزاع بين مختلف الفاعلين المحليين والدوليين، ما يهدد بإعادة إنتاج أنماط من التبعية السياسية تجعل سوريا رهينة حسابات خارجية أكثر من كونها تعبيرًا عن إرادة وطنية جامعة.
تُبرز التجربة العراقية بعد 2003 خطر المقاربة الراديكالية التي تفترض أن تفكيك أجهزة الدولة القديمة هو المدخل الوحيد لإعادة بناء النظام السياسي، فالتعامل مع مؤسسات الدولة على أنها مجرد أدوات للقمع والإقصاء قد يؤدي إلى حالة من الفوضى، حيث تفقد الدولة قدرتها على توفير الحد الأدنى من الخدمات، ما يخلق فراغًا تستغله الجماعات المسلحة أو القوى الإقليمية لتعزيز نفوذها. في سوريا، سيكون التحدي الأكبر هو كيفية تحقيق القطيعة مع النظام السابق دون الوقوع في مأزق الهدم الكامل للمؤسسات، خاصة أن العديد من أجهزة الدولة، رغم فسادها وتغوّلها خلال العقود الماضية، تظل ضرورية لضمان استمرارية الحكم وتوفير الاستقرار.
إشكالية إعادة الإعمار لا تقتصر على الأبعاد الاقتصادية فحسب، بل تمتد إلى الأسس السياسية التي ستوجه هذا المسار
إن إعادة هيكلة المؤسسات يجب أن تخضع إلى منطق سياسي متوازن، بحيث يتم تطهيرها من عناصر الولاء الأعمى للنظام السابق، دون أن يؤدي ذلك إلى فراغ إداري وأمني، فالفشل في تحقيق هذا التوازن قد يدفع سوريا نحو سيناريوهين كلاهما كارثي: إما أن تنهار الدولة وتدخل البلاد في حالة من الفوضى كما حدث في ليبيا، أو أن تتم إعادة إنتاج النظام القديم بصيغ جديدة، ما يفضي إلى إحباط تطلعات التغيير السياسي الحقيقي.
ملف إعادة الإعمار.. أحد أبرز التحديات التي ستواجه سوريا بعد الأسد
إن أحد أبرز التحديات التي ستواجه سوريا بعد الأسد هو ملف إعادة الإعمار، الذي سيكون ساحة لصراع معقد بين شبكات المصالح المحلية والدولية، فكما شهد العراق، فإن التحول من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد السلام يتطلب رؤية واضحة تُوازن بين الحاجة إلى الاستثمار الأجنبي، ومتطلبات السيادة الاقتصادية التي تحول دون ارتهان الدولة لرأس المال الدولي. وفي الحالة السورية، سيكون هناك ضغط متزايد لإعادة هيكلة الاقتصاد بما يتجاوز نموذج الريع والاعتماد على شبكات المحسوبية التي غذت الفساد خلال العقود الماضية.
لكن إشكالية إعادة الإعمار لا تقتصر على الأبعاد الاقتصادية فحسب، بل تمتد إلى الأسس السياسية التي ستوجه هذا المسار، فالنخب السياسية والاقتصادية التي ستشرف على هذه العملية ستحدد ما إذا كانت سوريا ستتحول إلى دولة ذات اقتصاد ديناميكي قادر على تحقيق الاستقلالية المالية، أم أنها ستصبح رهينة لعقود استثمارية تمنح الدول والشركات الأجنبية نفوذًا سياسيًا طويل الأمد، وبالنظر إلى أن القوى الإقليمية والدولية التي انخرطت في الصراع السوري لها مصالح اقتصادية مباشرة، فمن المرجح أن تتحول عملية إعادة الإعمار إلى أداة لفرض أجندات خارجية، ما لم تكن هناك إرادة سياسية وطنية قادرة على ضبط هذه التفاعلات بما يخدم مصلحة السوريين أنفسهم.
- تلفزيون سوريا