لماذا يختلف التعاطي مع العدالة خلال فترات التحولات الكبرى؟ – الالتفات إلى الوراء (1)

مصطفى حايد

    • ملاحظة الكاتب: تم استخدام النجمة الجندرية (*) للإشارة إلى التنوع الجندري والجنساني الذي تشمله التعابير المُستخدمة في هذا المقال.

       *****

      بينما أشاهد وأسمع وأقرأ وأتحدثُ مع الأصدقاء* عن ماضينا الرهيب وحاضرنا المفتوح على كل الخيارات، تَحضرُني قصيدة غونتر غراس «لا تمضِ إلى الغابة»، وتحديداً عبارتها الختامية «لا تلتفت إلى الوراء…». فغالباً ما نسمع هكذا نصيحة، «لا تطلّع لورا»، حين نخرج من علاقة ما أو عمل ما أو مأساة. تنطلق هذه النصيحة من مبدأ أن المضي إلى الأمام يتطلّب عدم الالتفات إلى الوراء لأنك «ستَعلَقُ» في ذلك الماضي.

      اليوم، ونحن على أبواب المضي إلى الأمام في سوريا، بدأ البعضُ بالحديث عن المستقبل من مبدأ فكِّ ارتباطه بالماضي، وهو مبدأ مصيبٌ في جزء منه. لكننا لا نتعامل هنا مع ماضٍ «بينتسى» ليكون الفيل الذي سيراه كلّ مَن في الغرفة باستثنائنا، لذلك سأتحدث في هذه السلسلة من المقالات الخمس عن ضرورة الالتفات إلى الوراء، والتعلُّم من البلدان التي التفتت إلى الوراء ثم مضت إلى الأمام، كما عن تلك التي علقت في ورائها وراكمت المزيد منه.

      * * * * *

      تواجه سوريا اليوم تركةً ثقيلة تمتدُّ لأكثر من خمسة عقود من الجرائم الكبرى والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وعلى البلاد، التي تنتظر مستقبلاً بسيناريوهات تتوزع أطيافها بين إمكانية تحول جذري نحو الحريات والحقوق أو فصل دموي آخر واحتكار جديد للسلطات والحريات، أن تواجه خياراتها العديدة الممتدة ما بين الصفح والمُساءلة أو عدم فعل أي شيء.

      وأياً يكن السيناريو الذي ستتخذه البلاد، سيُسهم التعاملُ مع هذه التركة بشكل جوهري في تشكيل مستقبلها وإعادة سرد ما حصل، أملاً في معرفته والإقرار به والتعامل معه لتفادي حدوثه مجدداً، أو لتجاوزه والتعامل مع تبعاته.

      ربما يبدو مصطلح العدالة الانتقالية مبهماً أو معقداً حين نتحدث عنه، لكنه في جوهره ليس أكثر من محاولة لفهم الماضي بكل ما فيه من آلام، والعمل على شفاء الجراح. هذا بالضبط ما تحاول المجتمعات فعله عندما تنتقل من أزمنة ظالمة إلى مستقبل أكثر عدلاً.

      العدالة الانتقالية مصطلحٌ هجين، حديثُ العهد، يشيرُ إلى عملية متكاملة وشاملة تهدف إلى تحقيق العدالة خلال فترات التحوّل الكبيرة في البلدان. كما هو الحال في سوريا، التحول من «سوريا الأسد» إلى «سوريا للجميع». وبسبب التعقيدات التي تحدث في هكذا تحولات كبرى، وأيضاً بسبب حجم وطبيعة الانتهاكات والجرائم، وكذلك الأعداد الكبرى لمُرتكبيها وضحاياها، فإن المقاربة التقليدية للعدالة في التعاطي مع هذه الجرائم، خلال وقت حسّاس وهشّ من عمر البلاد، لن تكون كافية أو فعالة، مما يتطلّب خليطاً فريداً من الأدوات والآليات، سواء كانت قضائية أو غير قضائية، التي تستخدمها الدول لمعالجة هذا الإرث الضخم من الجرائم والانتهاكات الجسيمة. وقد تشمل هذه الآليات المحاكمات، أو لجان الحقيقة، أو حتى برامج التعويض والإصلاح، وكذلك نزع السلاح والتسريح وسواها. وإذا نظرنا إلى هذه العملية من حيث النتائج، نجدها تشمل المحاكمة والعقاب (كالمُساءلة والمحاسبة والتسريح) والتكريم (كالتعويض والاعتذار وجبر الضرر) والتعافي (كلجان الحقيقة وتخليد الذكرى والغفران وإصلاح المؤسسات ونزع السلاح).

      هناك شعوبٌ كثيرة مرّت بتجارب مأساوية مشابهة، ودخلت في مراحل انتقالية مُقارِبة لما نحاولُ القيامَ به اليوم. بلدانٌ كثيرة في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا ووسط أوروبا. وبالتالي ليس علينا كسوريين* إعادة اختراع العجلة كلّها هنا، وإنما إعادة تشكيلها بما يتناسب مع تركتنا ومواردنا أولوياتنا. ولكن رغم ذلك، لا يجب أن ننظر إلى عملية العدالة الانتقالية كوصفة جاهزة. هي أشبه بمائدة مستديرة يجتمع حولها المجتمع، وكل شخص يضع* على الطاولة ما يراه* ضرورياً للشفاء: البعض يطالب* بالمساءلة، والبعض الآخر بالمصالحة ونسيان الماضي، وآخرون* يبحثون* عن اعتراف بالماضي ومحاسبة مُجرميه.

      مهما تكن الإجراءات التي «نقرّر» اتخاذها، ونون الجماعة هنا هي في غاية الأهمية لأن فاعلية هذه العملية تكمن في كُليتّها وشمولها، فعلينا ضمان أن ما سنقوم به سيكسرُ دورات العنف والانتقام، ولكن أيضاً الإفلات من العقاب.

      في سيراليون، على سبيل المثال، جمعت الدولة بين المحاكم الخاصة لمعاقبة المسؤولين عن الجرائم الكبرى، وبين لجان الحقيقة التي سمحت للضحايا بسرد قصصهم في أجواء داعمة. وفي البيرو، قدمت لجان الحقيقة شهادات مؤثرة ساعدت الناس على فهم ما حدث والتعلُّم منه. وقامت تشيلي بعد حكم بينوشيه بإنشاء لجان الحقيقة، ليس فقط للكشف عن الجرائم، بل أيضاً لكسر دورة «مَن يفلتُ من العقاب اليوم سيعودُ غداً» أو سيعود غيره غداً. وهو ليس حالاً غريباً في سوريا؛ الإفلات من العقاب أصبح قاعدة شبه يومية.

      العدالة الانتقالية يجب أن تهدف إلى كسر هذه الحلقة، لذلك من المهم أن تكون هناك محاكمات عادلة وعلنية وشفّافة. لكن النظام القضائي السوري الحالي، إضافة إلى كونه لا يتمتّع بسمعة حسنة بين السوريين*، فهو غير مؤهل للتعاطي مع الجرائم الكبرى مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية (سنشرح طبيعة وتعقيدات هذه الجرائم في مقال آخر)، وكذلك مع حجم الجرائم والمتورطين* فيها.

      أغلب الدول التي مرّت بتجارب مشابهة كان نظامها القضائي غير مؤهل أو غير قادر، تنظيمياً أو مادياً أو من ناحية الخبرات، على النظر بكل القضايا ذات الصلة. لذلك تباينت تجارب الدول بهذا الشأن؛ بعضها أنشأ محاكمَ خاصة مثل محاكم رواندا التي حاكمت المسؤولين عن الإبادة الجماعية؛ وبعضها تبنى أسلوباً هجيناً يتضمّن محاكم وطنية ودولية، وأخرى اعتمدت كلياً على المحاكم الدولية.

      المساءلة والمحاكمة تُعَدّ العمودَ الفقري للعدالة الانتقالية، وهناك أمثلة متعددة من العالم يمكن أن تُلهِمَ سوريا. ففي الأرجنتين، وبعد عقود من الحكم العسكري، أُجريت محاكمات وطنية لمرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، وعوقِبَ قادة بارزون في المجلس العسكري. في سوريا، يمكن للمحاكم الوطنية أن تلعب دوراً مهماً في ذلك إذا ما أُعيد بناء النظام القضائي ليكون مستقلاً ونزيهاً.

      وفي سيراليون، تم إنشاء محكمة مختلطة تضمّنت قضاةً دوليين ووطنيين لمعالجة الجرائم التي وقعت خلال الحرب الأهلية. هذا النموذج قد يكون مناسباً لسوريا، حيث يمكن الجمعُ بين العملية الوطنية والخبرات الدولية. أما في كمبوديا، فأُنشئت محاكم خاصة لمحاكمة قادة نظام الخمير الحمر المسؤولين عن الإبادة الجماعية. كانت هذه المحاكم مدعومة دولياً، لكنها جرت ضمن النظام القضائي الكمبودي. وقد يكون هذا الحل أيضاً مناسباً في سوريا لمعالجة بعض الجرائم الكبرى ومحاسبة كبار المسؤولين.

      إضافة إلى ذلك، تُعتبر المحكمة الجنائية الدولية (ICC) لاعباً مهماً في مجال المساءلة الدولية. حيث حاكمت قادة مُتّهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، مثل الرئيس السوداني السابق عمر البشير. ويمكن لسوريا أن تستفيد من مثل هذه الآليات لضمان قيام عملية فاعلة وشفافة وشاملة.

      التعويض وجبر الضرر واستعادة الكرامة أيضاً أمورٌ بالغة الأهمية في سياق العدالة الانتقالية. وهنا يجب الانتباه إلى أن التعويض لا يجب أن يكون مادياً فقط، رغم أهميته ووجوب أولوية حدوثه، بل يجب أن يشمل الإقرار بما حدث للضحايا والاعتراف تفصيلياً بكيفية حدوث ذلك ولماذا، ومَن كان متورطاً فيه. هذا الإقرار في غاية الأهمية للضحايا والمجتمع، ومن أجل المضي قدماً. إذا لم نعترف ولم نقرّ بما حدث، ولم نعتذر عنه ونعالج جذور المشكلة، فلن نضمن عدم تكراره. كما يجب أيضاً جبر الخواطر واستعادة كرامة الناس وتكريمهم*، وحتى تقديم الدعم النفسي للناجين*. بلدانٌ مثل المغرب مثلاً، وبعد سنوات من القمع، أطلقت برامج لتعويض الضحايا مالياً ومعنوياً، وأسست صندوقاً وطنياً لتعويض الضحايا. وفي البوسنة والهرسك، بعد الحرب، أُعيدَ بناء المنازل التي دُمِّرت، وأُعيدَ توطين النازحين. وفي جنوب أفريقيا، تضمّنت برامج التعويض تقديم منح تعليمية لأبناء* الضحايا. يمكن لسوريا أن تتعلّم وتستلهم من هذه البرامج لدعم الفئات الأكثر تضرراً.

      وللقيام بما سبق، لا بد من مؤسسات لا تشبه تلك التي كانت موجودة وفاعلة في الانتهاكات، وخاصة المؤسسات الأمنية والعسكرية. الإصلاح المؤسساتي يضمن عدم عودة الأجهزة التي أساءت استخدام سلطتها، وبالتالي عدم قدرتها على فعل ذلك مجدداً. إعادة هيكلة المؤسسات وإعادة النظر بوجود بعضها أمرٌ مُلحّ، لكن يجب التعاطي معه بحذر شديد. في العراق مثلاً أدت هذه العملية إلى تغذية دورات العنف بدلاً من كسرها، وأغرقت البلاد في صراعات ما زالت تحت وطأتها إلى اليوم. أما ألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية، فأعادت بناء المؤسسات الحكومية على أُسس تحترم حقوق الإنسان، ونجحت إلى حدٍّ ما في فتح فصل جديد في البلاد. وفي كولومبيا، أُجريت إصلاحات كبيرة في الأجهزة الأمنية لضمان احترامها لحقوق الإنسان.

      أما في مجال المصالحة فالأمثلة كثيرة، أبرزها ما حدث في جنوب أفريقيا، حيث جلس الضحايا والجناة وجهاً لوجه ضمن جلسات علنية نظّمتها لجان الحقيقة والمصالحة. ورغم صعوبة هذه التجربة، ساعدت، إلى حدٍّ ما، في تهدئة النفوس وبناء مستقبل مشترك. هل تشكيل هذه اللجان خطوة ممكنة في سوريا؟ وهناك بالمقابل مثالٌ آخر من لبنان، حيث اجتمع قادة الطوائف اللبنانية في السعودية واتّفقوا على ما بات يُعرَف باتفاق الطائف، الذي تمت من خلاله محاصصة المناصب السيادية على أسس طائفية.

      التحديات وكيفية التعامل معها

      كل ما ذُكر هو أفكار من تجارب طوّرتها بلدان تقاربت أحداثها في بعض أجزائها مع ما عايشناه في سوريا. بعض هذه التجارب مُلهمٌ وبعضها الآخر مقلق ويُشكِّلُ فرصة للتعلم منها وعدم تجريب «المجرّب». لكن مهما كانت خياراتنا في هذا المجال، سيكون أمامنا تحديات كبيرة يجب أخذها بالحسبان أيضاً.

      تُعاني سوريا اليوم على كافة المستويات. البنية التحتية شبه مدمرة، وأعداد اللاجئين* والنازحين* داخلياً بالملايين، وعدد البيوت والمدارس التي دُمّرت كلياً أو جزئياً مَهول. إضافة إلى ذلك، مواردُ سوريا المادية محدودة جداً. هذا التحدي سيؤثر على إنشاء المحاكم أو دفع التعويضات أو تمويل لجان الحقيقة وغيرها من آليات العدالة الانتقالية التي ذكرناها. لكن يمكن تجاوز بعض هذه التحديات من خلال الدعم الدولي، ففي سيراليون، على سبيل المثال، موّلت الأمم المتحدة محكمة خاصة. قد تستفيد سوريا من الدعم الدولي، ولكن يجب التركيز على المبادئ والأولويات الأساسية.

      سوريا بلد متنوع، وهذه ميزة لكنها قد تكون تحدياً أيضاً. فالانقسامات القومية والطائفية والاجتماعية والسياسية يمكن أن تُعرقِل عملية العدالة الانتقالية إذا لم تُدار بحكمة. في البوسنة، على سبيل المثال، كان التحدي الأكبر هو بناء الثقة بين المجتمعات المختلفة بعد الحرب. لذلك على سوريا أن تتبنى مقاربات محلية تُشرِكُ جميع الأطراف بطريقة شاملة وعادلة.

      ويُشكّل الانتقام تحدياً آخر، سواء كان انتقاماً فردياً أو على مستوى الدولة. ففي العراق، وبعد سقوط نظام صدام حسين، تحوّلت بعض المحاكمات إلى أدوات انتقام سياسي وطائفي. ولتجنُّب حدوث ذلك في سوريا، يجب أن تكون العدالة الانتقالية نزيهة وأن تُبنى على الشفافية والحياد. ويمكن لإشراك أطراف دولية كمراقبين أن يكون وسيلة لضمان نزاهة هذه العملية.

      في كثير من الأحيان، يكون جمع الأدلة والشهادات صعباً بسبب الخوف أو غياب الثقة. في الأرجنتين مثلاً، استغرقَ جمعُ شهادات ضحايا الحكم العسكري عقوداً. لذلك علينا التفكير والعمل على بناء الثقة وتوفير الحماية لتجنب هكذا تحدي. ومن الممكن للجان الحقيقة أن تعمل بسرية في البداية لضمان حماية الشهود وكسب الثقة وتشجيع الناس على المشاركة.

      الثقة مفقودة بين المواطنين* ومؤسسات الدولة في سوريا، وسنحتاجُ إلى وقت وجهد لإعادة بنائها. يمكن لسوريا أن تتعلم من جنوب أفريقيا، حيث كانت لجان الحقيقة والمصالحة وسيلة لإعادة بناء هذه الثقة تدريجياً من خلال الشفافية والمشاركة المجتمعية.

      هذه التحديات هي غيض من فيض، ويجب أن ندرك أن هذا الدرب طويل وشاقٌّ ومُكلِف، لذلك من المهم أن نؤمن بأهمية هذه العملية لتجاوز هذه الصعاب.

      معالجة الماضي المؤلم ليست مجرد قضية قانونية فحسب، فهي تتعلق أيضاً بالصحة النفسية والاجتماعية للمجتمع. في رواندا، كان الدعم النفسي للناجين* جزءاً أساسياً من العدالة الانتقالية. وفي سوريا، يجب توفير مساحات آمنة للضحايا للتعبير عن آلامهم* وتلقي الدعم اللازم.

      العدالة الانتقالية ليست مجرد شعار، هي رحلة شاقة لكن ضرورية نحو بناء مجتمع يفهم ما حصل ويتعلم منه ويتجاوزه ويضمن عدم تكراره. هي العدالة التي تجمع بين الحاضر والماضي لتؤسِّسَ لمستقبل أكثر إنصافاً، وبالتالي هي ليست فقط عملية انتقالية، بل أيضاً عدالة تحوليّة. ومن خلال الاستفادة من تجارب الدول الأخرى، يمكن للسوريين* إيجاد نموذجهم* الخاص الذي يُناسب تحدياتهم* وأحلامهم*.

      ومن هذا المنطلق، فإن الالتفات إلى الوراء بغرض التعلُّم والمُساءلة والمصالحة، قد يكون الخطوة الأولى نحو طريق الأمل والتعافي.

Next Post

اترك رد

منتدى الرأي للحوار الديمقراطي (يوتيوب)

فبراير 2025
س د ن ث أرب خ ج
1234567
891011121314
15161718192021
22232425262728

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist