أحمد مولود الطيّار
يُعَدّ مقال «الجمهوريّة السوريّة: حذف الصفة لا يبدّل الحال» الذي كتبه مناف الحمد عام 2017 في موقع حزب الشعب الديموقراطي السوري وأعاد نشره مجدّداً، واحداً من النصوص التي تتناول مسألة حذف صفة «العربيّة» من اسم الدولة السوريّة بوصفه خطوةً مرتبطة بردّة فعل على الإقصاء الذي مارسته الأنظمة السابقة. لكنّ هذا الطرح ينطلق من فكرةٍ مختزلة، توحي بأنّ مسألة «الجمهوريّة السوريّة»، إنّما هي مطلبٌ وليدُ مظلوميّة الأقليّات فقط، أو أنّه يستجيب لإراداتٍ خارجيّة تسعى إلى تفكيك الهويّة العربيّة لسورية. ورغم أنّ المقال يلامس جانباً مهمّاً حول مسخ العروبة وتحوّلها إلى أيديولوجيا إقصائيّة في عهد البعث والأسد، فإنّه لا يعترف بما يكفي بحقائق أساسيّة، إذ يختزل الأسباب الداعية إلى حذف الصفة القوميّة في مجرّد انكفاءٍ هويّاتيّ أو أوهامٍ استشراقيّة، أو “خطاب متكلّف لمثقفين قادمين من بقايا أيديولوجيات بالية” متجاهلاً وجود تيّارٍ وطنيٍّ واسعٍ، يدعو إلى دولة مواطنين تساوي بين الجميع من دون إعلاء هويّةٍ إثنيّة واحدة على غيرها.
ينظر المقال إلى أنّ مرحلة الاستقلال والديمقراطيّة الباكرة، كانت تقوم على العروبة بوصفها عاملاً جامعاً، لكنّه لا يتطرّق إلى المشكلات الفعليّة التي واجهتها الأقليّات القوميّة والإثنيّة في تلك الحقبة، ولا إلى التفاوتات البنيويّة التي جعلت قضايا التمثيل والاعتراف الرسميّ لغويّاً وثقافيّاً غير محسومة آنذاك، ولا يتّسع هذا المقام لتعدادها والخوض فيها. (تصويرُ مرحلة الاستقلال وما بعدها حتى قيام الوحدة المصريّة السوريّة بالمرحلة الذهبيّة لسورية كان بروباغاندا و«مماحكة» مع النظام السوريّ البائد أكثرَ منهما واقعاً حقيقيّاً، ومناف أظنّه يعرف ذلك). كما أنّه يدمج مفهوم العروبة بما يسمّيه «الوجدان الجمعيّ المتمثّل بالدين»، وهذا الكلام وإنْ كان صحيحاً في مرحلةٍ ما، فإنّ مياهاً كثيرةً جرت تحته ولم يَعُد صالحاً اليوم، إذ صار الأمر يُنظر إليه بوصفه استبعاداً لشريحةٍ من العرب أنفسهم ممّن لا يشتركون في الانتماء الدينيّ ذاته، فضلاً عن غير العرب. وبهذا ينفتح الباب لانتقاد أنّ المقال قد قدّم منظوراً هويّاتيّاً مغلقاً غير قادر على تقديم حلولٍ تضمن تمثيل من لا يندرجون ضمن إطار العروبة القوميّة أو الدينيّة.
ويتعاظم الانتقاد مع غياب أيّ بديلٍ عمليٍّ أو مقترحٍ واضحٍ في المقال، يشرح كيفيّة تجاوز تشوّهات الماضي والاستبداد البعثيّ، وكيف يمكن للعروبة أن تتحوّل من إطارٍ استخدمه النظامُ للإقصاء إلى مظلّةٍ ديمقراطيّةٍ تعدّديّة. فالكاتب يؤكّد استحالة بناء هويّةٍ وطنيّةٍ من خلال مجرّد حذف كلمة، ويشير إلى أنّ الأمر مرتبطٌ بإصلاحٍ بنيويٍّ واسع، غير أنّه لا يقدّم حلولاً ملموسةً لمعالجة مظالم المكوّنات وحقوقها اللغويّة والثقافيّة والسياسيّة، ولا يطرح رؤىً تفصيليّةً حول اللامركزيّة، أو صياغة الدستور أو الاعتراف الرسميّ بالهويّات المتعدّدة.
ويُؤخَذ على المقال أيضاً غلبةُ النزعة الدفاعيّة فيه تجاه خطوةٍ يراها أصحابها محاولةً لإقامة دولة مواطنةٍ تساوي بين جميع المكوّنات، فهم لا يرون فيها تنازلاً عن هويّة الأكثريّة بقدر ما يرونها إعادة تعريفٍ لهويّة الدولة بمنأى عن حُمولةٍ تاريخيّةٍ صادرت حقّ الآخرين في شعور الانتماء، سواء أكانوا عرباً غير مسلمين أم قوميّاتٍ أخرى. وحين يعتمد المقال خطاباً يوحي بأنّ حذف كلمة «العربيّة»، إنّما هو استجابةٌ لرغباتٍ ضيّقةٍ أو تدخّلاتٍ أجنبيّة، فإنّه يحجب إمكانَ وجود تيّارٍ وطنيٍّ داخليٍّ واسعٍ، يؤمن بفكرة المواطنة الدستوريّة الحديثة، ويخشى إعادة إنتاج الإقصاء بقفّازٍ مختلف. وهذا ربما ما نشهده حاليّاً من واقعِ تغيير بعض المناهج الدراسيّة خدمةً لأجنداتٍ أيديولوجيّة، وربما سياسيّة، واحتمال تأثيراتها المستقبليّة في إعاقة بناء هويّةٍ وطنيّةٍ جامعة.
هكذا، يغفل المقال في مجمله رصد اختلاف الظروف التاريخيّة بين حقبة الاستقلال وواقع اليوم، ولا يُبيّن ما طرأ على المنطقة والعالم من تحوّلاتٍ سياسيّةٍ وفكريّةٍ ودستوريّةٍ أثّرت في فهم الناس لهويّاتهم وحقوقهم، وهذا يستدعي سياساتٍ مختلفة ودساتير تبرز حيادية الدولة اتجاه عقائد مواطنيها، وهذا شرط وركيزة بناء الدولة الحديثة. كما لا يقدّم أمثلةً وبياناتٍ توضّح كيف يمكن تطبيق العروبة الدستوريّة بطريقةٍ لا تقصي أحداً. وبذلك ينتهي القارئ إلى ملاحظة أنّ الكاتب يقدّم تحذيراتٍ مشروعةً ضدّ اختزال مسألة الهويّة في «حذف كلمة» أو الاكتفاء برمزيّاتٍ سطحيّة، لكنّه في الوقت ذاته لا ينخرط في نقاشٍ معمّقٍ حول الضمانات الدستوريّة والحقوقيّة لمختلف المكوّنات، وكيفيّة بناء هويّةٍ جامعة.
في الختام، لا بدّ من الاعتراف بأنّني ربما أثقلتُ على مقال الحمد – افتتاحيّةٍ لا تتجاوز خمسمئة كلمة – وحمّلته ما لا طاقة له به. إلّا أنّ هدفي من وراء ذلك، هو مواصلة النقاش الذي أراه ضروريّاً وصحّيّاً، لا سيّما ونحن مقبلون على تأسيس سورية جديدة، نطمح جميعاً أن تكون مغايرةً لـ«سورية الأسد»
- كاتب سوري