مقدمة
بعد انطلاقة الثورة السورية عام 2011، فرضت دولٌ ومنظمات دولية العديدَ من العقوبات على نظام الأسد، كورقة ضغط سياسي واقتصادي عليه، في محاولة لمعاقبة نظام الأسد وإجباره على تغيير سلوكه ودفعه إلى طاولة المفاوضات السياسية. وأدّت هذه العقوبات إلى إضعاف بعض أدوات نظام الأسد ورموزه، ولا سيّما بعد إقرار أميركا قانون قيصر عام 2019. وبعد سقوط الأسد، طالبت حكومة تسيير الأعمال الجديدة في سورية وعدد من المنظمات برفع العقوبات المفروضة، ولا سيما الأميركية منها، وذلك لزوال سبب فرضها، وهو سقوط النظام، في حين طالبت بعض الحقوقيين بالتأني في رفع العقوبات، لحين تبيان سلوك الحكومة الجديدة، لكي تكون هذه العقوبات بمنزلة أداة ضغط عليها.
يقدّم تقييم الحالة قراءة سردية العقوبات الأميركية التي فُرِضت على نظام الأسد الأب والابن، وتبيين ماهية هذه العقوبات والقطاعات التي استهدفتها على صعيد الإجراءات والأفراد والكيانات، وتفنيد مآلات استمرار فرضها على الحكومة الجديدة بعد سقوط نظام الأسد، مع رسم السيناريوهات المستقبلية للعقوبات، وعرض نتائج كل سيناريو، داخليًا وخارجيًا.
أولًا: العقوبات الأميركية على نظام الأسد
العقوبات الأميركية قبل 2011
بدأت العقوبات على نظام الأسد الأب في كانون الأول/ ديسمبر عام 1979، بسبب دعمه لبعض الفصائل الفلسطينية التي استهدفت مصالح أميركية واحتلاله سابقًا للبنان[1]، وتمت معاقبة الدولة السورية حينها تحت بند “دولة داعمة للإرهاب”، وشملت العقوبات فرض حظر المبيعات والصادرات العسكرية لسورية، وبعض القيود المالية.
وكانت المرحلة الثانية من العقوبات عام 2003، تحت قانون “محاسبة سورية والسيادة اللبنانية”، وتم تطبيقه عام 2004، في عهد الرئيس الأميركي جورج بوش الابن[2]، وذلك بسبب تسهيل نظام الأسد عبور المقاتلين من سورية باتجاه العراق، وتضمنت العقوبات جوانب عدة:
- عسكري: حظر معظم الصادرات الأميركية إلى سورية، ومنع الشركات الأميركية من العمل أو الاستثمار في سورية، ومراقبة استيراد نظام الأسد لأي مواد يمكن أن تُسهم في الصناعات العسكرية.
- دبلوماسي: تقييد حركة البعثة الدبلوماسية السورية في واشنطن ونيويورك.
- اقتصادي: يشمل منع شركات الطيران المملوكة للدولة السورية من الإقلاع أو الهبوط أو التحليق فوق الأراضي الأميركية، وحظر تصدير جميع المواد المنتجة في أميركا، باستثناء المواد الغذائية والطبية.
ومُنح الرئيس الأميركي حينها صلاحية إعفاء سورية من العقوبات المتعلقة بتصدير المواد الأميركية لمدة ستة أشهر، أو السماح بتقديم مساعدات إنمائية مباشرة للحكومة السورية، في حال التأكد من توقف دعم نظام الأسد للجماعات المسلحة في العراق، والتزام سورية باحترام سيادة لبنان، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية. وسحبت الولايات المتحدة الأميركية سفيرتها في دمشق مارغريت سكوبي عام 2005، بعد حادثة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. وفي عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما عام 2010، خُفّضت العقوبات في الجانب الدبلوماسي، وحدث بعض الانفتاح الدبلوماسي بين سورية وأميركا، حيث عُيّن روبرت فورد سفيرًا للولايات المتحدة في دمشق.
يمكن تقسيم العقوبات الأميركية على سورية قبل عام 2011 إلى نوعين، من حيث جهة إقرار العقوبات: الأول: عقوبات تم إقرارها حسب قانون مكافحة الإرهاب “باتريوت”، إذ استُهدف البنك التجاري السوري بتلك العقوبات عام 2006 عبر منع البنوك الأميركية أو المؤسسات التابعة لها من التعامل معه، وانتهى العمل بالقانون عام 2015. والنوع الثاني: لوائح عقوبات يعدّها الكونغرس ويوافق عليها الرئيس وتقرّها وزارة الخزانة الأميركية، وكان الهدف منها ملاحقة الأشخاص السوريين والكيانات المتورطة بأنشطة إرهابية في العراق أو لبنان، وتقييد حركتهم المالية، وما زالت سارية.
العقوبات الأميركية بعد 2011
مع انطلاق الثورة السورية، استدعت الولايات المتحدة سفيرها في دمشق، في تشرين الثاني/ أكتوبر 2011، بعدما قالت إن هناك تهديدًا جديًا على سلامته في حال بقائه في دمشق، وأصبحت العلاقات الأميركية مع نظام الأسد مجمدة دبلوماسيًا حتى سقوطه.
بدأت العقوبات الأميركية تدريجيًا، منذ نيسان/ أبريل 2011، واستهدفت مسؤولين عن “انتهاكات حقوق الإنسان”، بحسب التصريحات الأميركية[3]،حيث كانت العقوبات الغربية، ولا سيما الأميركية، التي فُرضت تباعًا منذ عام 2012 حتى عام 2024 على نظام الأسد، رغم تفاوت طبيعتها، تهدف إلى تقويض أدواته العسكرية والأمنية ورموزه، وبشكل خاص واجهاته الاقتصادية التي تشمل الشخصيات والشركات، بهدف إضعافه ودفعه إلى طاولة المفاوضات بعدما تكرر رفضه الجلوس عليها، إضافة إلى تحجيم قدرته على تمويل ميليشياته وأذرعه. وصدرت في تلك الفترة قرارات تتعلق بمراقبة دقيقة لأدوات نظام الأسد العسكرية وترسانته الكيميائية، وتضمنت ميزانية الاستخبارات الأميركية لعام 2014 المادةَ رقم (324)، المتعلقة بترسانة الأسد الكيميائية وفيها أوامر بجمع معلومات عن[4]:
- مخزونات الأسلحة الكيميائية، والكميات، والمواقع، وأشكال التخزين والإنتاج، ومرافق البحث والتطوير في سورية.
- قائمة بالأفراد الرئيسيين المرتبطين بالبرنامج الكيميائي.
- مخزونات الأسلحة الكيميائية غير المعلنة والذخائر والمرافق، فضلًا عن إجراء تقييم لكيفية الحصول على المخزونات والمواد الأولية وأنظمة التسليم.
- الثغرات الاستخباراتية.
- أدوات الأسد في إنكار برامج الأسلحة الكيميائية الخاصة به، وكيفية تشويش الدولة على وجوده.
وجاءت تلك المراقبة بعد قصف نظام الأسد للغوطة الشرقية بغاز السارين، في آب/ أغسطس 2013، وتسليمه جزءًا من ترسانته الكيميائية لاحقًا عبر صفقة روسية أميركية.
أما على صعيد رصد الانتهاكات، ففرضت الحكومة الأميركية على وزارة الخارجية تقديم تقارير دورية عن “المجازر” التي تحدث في سورية، مثل البند (1232)، في قانون التفويض الوطني الأميركي للدفاع عام 2019، الذي نص على أنه “يجب على وزارة الخارجية تقديم تقرير عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية في سورية”، وبحسب الجدول (1)، نجد أن العقوبات الأميركية كانت ديناميكيتها منذ البداية في عامي 2011 و2012 تتركز في استهداف ثلاثة محاور: بعض المؤسسات، وبعض الأفراد، وإجراءات عامة.
جدول (1) ديناميكية العقوبات الأميركية في عامي 2011-2012

وكانت ذروة العقوبات الأميركية بإقرار قانون قيصر عام 2019، وتطبيقه عام 2020، الذي تميّز عن العقوبات السابقة باستهدافه القطاع المصرفي وقطاع الطاقة بشكل مباشر، حيث شمل القانون تجميد أصول الأفراد والكيانات المرتبطة بالأسد، واعتبر أن مصرف سورية المركزي هو وسيلة “لغسل أموال” نظام الأسد، ومما يميز قانون قيصر إجرائيًا عن باقي العقوبات، أنه استهدف الداعمين للأسد، سواء أكانوا سوريين أم غير سوريين، وليس فقط حظر خدمات أو تقييدها، كما العقوبات السابقة، ومن ثم يحاصر الأسد اقتصاديًا، ويزيد الضغط الاقتصادي على النظام.
وتضمّنت العقوبات الأميركية على سورية ثلاثة أنواع للرخص ضمن فترات زمنية متتالية:
- رخص لتركيا في مجالات التنمية: مثل الطاقة والدفاع والزراعة والتعليم، للعمل في المناطق غير الخاضعة لسيطرة نظام الأسد، وذلك للسماح لها بتنفيذ مشاريع أو المساهمة فيها على صعيد الحكومة التركية، على ألا تتعامل مع حكومة الأسد بشكل مباشر أو مع الأشخاص المُعاقبين[5].
- رخص بسبب حالات طارئة:
- جائحة كورونا 2019: أصدرت الحكومة الأميركية استثناءً من العقوبات، شمل قطاع الوقاية والعلاج الطبي، من خلال السماح باستيراد المواد الطبية لمواجهة جائحة كورونا، وانتهت هذه الرخصة في حزيران/ يونيو 2024[6].
- كارثة زلزال شباط/ فبراير 2023: أصدرت الحكومة الأميركية استثناءً من العقوبات، سمح بتحويل الأموال إلى سورية، على ألا يتم التحويل لأشخاص معاقبين بحسب القوائم الأميركية، وانتهت الرخصة في آب/ أغسطس 2023[7].
- رخص بحسب المنطقة الجغرافية 2022: أصدرت الحكومة الأميركية، في أيار/ مايو 2022، رخصة لمناطق جغرافية في شمال شرق وشمال غرب سورية، مستثناة من العقوبات الأميركية في قطاعات عديدة، مثل الاتصالات والبنية التحتية والتعليم واستيراد وتصدير بعض المواد إلى المناطق المُستثناة، وما زالت الرخصة سارية حتى الآن[8].
ثانيًا: العلاقات الأميركية مع سورية بعد سقوط نظام الأسد
تزامن هروب الأسد وتسلّم إدارة العمليات العسكرية للسلطة، في كانون الأول/ ديسمبر 2024، مع شهر إقرار تمديد قانون قيصر من عدمه، وعلى الرغم من هروب الأسد، أصدرت الولايات المتحدة الأميركية قرارًا بتمديد القانون في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2024 حتى عام 2029.
وبعد سقوط الأسد؛ طالبت الحكومة الجديدة وعدد من منظمات وشخصيات المجتمع المدني السوري، برفع العقوبات المفروضة على سورية، ولا سيما الأميركية منها، وذلك لزوال مسبب تلك العقوبات وهو نظام الأسد، ولحدوث بداية انفتاح أميركي على الحكومة الجديدة، مع زيارة وفدٍ من وزارة الخارجية الأميركية لدمشق، ضمّ كلًا من المستشار الأول لدى مكتب وزارة الخارجية لشؤون الشرق الأدنى “دانيال روبنشتاين”، الذي عُيّن مبعوثًا رئاسيًا خاصًا لسورية، ومساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى “باربرا ليف”، والمبعوث الرئاسي الخاص لشؤون الرهائن “روجر كارستينز”، ولقائهم بأحمد الشرع، وتبع الزيارة تغيّرات عدة:
- ألغَت أميركا المكافئة التي رصدتها لمن يقدّم معلومات عن أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، مما أعطى الحكومة السورية انفتاحًا سريعًا عليها[9].
- إعلان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أن إدارة بايدن على تواصل مباشر مع “هيئة تحرير الشام”، وأن أميركا متفقة مع الشركاء على مجموعة مبادئ يرتبط الاعتراف بالحكومة المؤقتة الجديدة في سورية بمدى تطبيقها.
- منحت أميركا رخصة في إيقاف بعض القيود المفروضة على سورية بسبب العقوبات، لمدّة 6 أشهر، وتسمح الرخصة ببعض التعاملات مع الحكومة منها بعض قطاع الطاقة، وبتحويل الأموال الشخصية إلى سورية حتى عبر مصرف سورية المركزي.
وتشير السياسات الأميركية تجاه سورية بعد سقوط الأسد إلى انفتاح حذر ومحاولة المحافظة على تثبيت الوجود في خارطة الدول التي تتواصل مع الحكومة الجديدة، من دون تقديم انفتاح كامل عليها، وذلك بالتزامن مع تمايز ظهر في موقف بعض الحقوقيين السوريين تجاه رفع العقوبات، إذ اعتبروا أن العقوبات قد تكون ورقة ضغط على الحكومة السورية الجديدة، من أجل إطلاق عملية سياسية تشمل كل الفئات والمكونات السورية، وبذلك يتحوّل الهدف من العقوبات، من الضغط على الأسد، إلى الضغط على الحكومة بعد سقوط الأسد، وهذا يحمل بعدَين لهما خطورة على المستقبل القريب في سورية:
- الأول: أنه لا يمكن أن يكون هناك مرحلة تنموية انتقالية بسورية مع وجود العقوبات، في ظل الواقع الاقتصادي والمعيشي في سورية، وهذا يحدّ من نجاح خطط أيّ حكومة.
- الثاني: أن جعل العقوبات الأميركية أداةً للضغط على الحكومة الحالية أو القادمة، يُعدّ بابًا لتدخّل خارجي بمطالب جاهزة، من أجل رفع العقوبات التي ستُحدّد شكل الاقتصاد السوري في حال إبقائها أو رفعها.
وضمن الفلسفة الأميركية في موضوع العقوبات تاريخيًا؛ نجد أنّ فرض العقوبات أسهلُ من إزالتها، وأقرب نموذج زمانيًا كان أفغانستان.
ثالثًا: مآل العقوبات الأميركية بعد الرّخصة المؤقتة
أعلنت أميركا تخفيف العقوبات المفروضة على سورية في بعض القطاعات لمدة 6 أشهر[10]، من تاريخ 6 كانون الثاني/ يناير، حتى تاريخ 7 تموز/ يوليو 2025، إذ شمل تخفيف العقوبات أربعة محاور أساسية:
- تسهيل عمل الحكومة من أجل أداء مهامها، وتوفير المتطلبات الأساسية للبنية التحتية مثل المياه والكهرباء.
- السماح بالتعامل مع مؤسسات الدولة (عدا الدفاع والاستخبارات)، وتشمل الإدارات والوكالات والمنشآت الخدمية مثل المستشفيات.
- السماح للمعاملات المتعلقة بمجالات دعم تبادل الطاقة، بكل أنواعها البترولية والكهربائية، سواء على صعيد إيصالها إلى سورية أو تخزينها داخل سورية.
- السماح للحوالات الشخصية غير التجارية بالوصول إلى سورية حتى عبر مصرف سورية المركزي، باستثناء تحويل الأموال للأفراد المدرجين في قائمة العقوبات.
وعلى الرغم من أن المرحلة القادمة في سورية تحمل بعدَين أمني عسكري واقتصادي بدرجة أولى، وتستهدف العقوبات الأميركية كِلا البعدَين، فلا يمكن البدء بعملية إعادة هيكلية أمنية أو عسكرية، في ظل عقوبات ممتدة على هذا القطاع منذ عام 1979 عندما صنفت سورية “دولة داعمة للإرهاب”، وأفضَت هذه العقوبات إلى حظر الصادرات والمبيعات الدفاعية لسورية، حتى عام 2023 ضمن قانون قيصر، وسيكون السعي فقط نحو إلغاء قانون قيصر والعقوبات المفروضة على مؤسسات الدولة بعد 2011 قاصرًا، ولن يجعل سورية تبدأ مسار تعافٍ اقتصادي وحوكمي. وبحسب الشكل (1) يجب أن تكون مطالبات إلغاء العقوبات على سورية بحسب المسارات التالية:

ومن ثم، تحتاج الحكومة السورية إلى السّعي أيضًا لإزالة تصنيف سورية كـ “دولة داعمة للإرهاب”، حيث أزيلت دول عدة من القائمة، مثل العراق واليمن الجنوبي سابقًا، وليبيا، والسودان عام 2020،ولكن هذه الدول أزيلت من القائمة، بعد طلبات أميركية أغلبها غير مرتبط بالبنية الداخلية للدولة أو سلوكها الداخلي، إنما بسلوكها الخارجي، وذلك بعد أحداث مفصلية مرت في كل بلد على حدة، ويضع الجدول (2) رؤية عامة عن الخطوات التي سببت إزالة هذه الدول من القوائم:
جدول رقم (2) الدول التي كانت مصنفة كدول داعمة للإرهاب وشروط إزالتها

ويُلاحظ أن الولايات المتحدة الأميركية، ضمن واقع مصالحها في المنطقة، تهتم بالملفات التالية، التي ربما ستكون موجودة في أي ورقة خطوات قد تقدمها الحكومة للقيادة السورية الجديدة لرسم خارطة رفع العقوبات وإزالة سورية من تصنيف “الدول الداعمة للإرهاب”:
- ضمان عدم عودة إيران إلى سورية، وهذا يتقاطع مع إرادة القيادة السورية.
- ضمان عدم إنشاء علاقات سياسية قوية مع روسيا قد تُفضي إلى علاقات عسكرية متعلقة بإعادة تسليح الجيش السوري، وحينذاك لن تكون الولايات المتحدة اليد الأعلى والوحيدة في الدعم العسكري لسورية.
- الملف الأمني لإسرائيل.
- ملف قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
- تحوّل الجيش السوري القادم إلى المعسكر الغربي، بعد أن كان الاتحاد السوفيتي وروسيا المورد الأساسي للتجهيزات العسكرية له.
وفي ظلّ تشابك المصالح الدولية، ولا سيّما الأميركية، في سورية، مع المشهد الاقتصادي الهشّ، تظهر السيناريوهات التالية على صعيد الرخص والعقوبات المفروضة على سورية.
1- تمديد الرّخص الممنوحة بالتتالي:
في حال اعتمدت الإدارة الأميركية على ديناميكية تمديد الرخص على العقوبات المفروضة بشكل متتال، ستحافظ الدولة السورية والمنظمات العاملة على مستوى الاستجابة العاجلة في سورية، مع غياب انطلاق أي مشاريع طاقة أو مشاريع بنية تحتية مستدامة، لأن تحديد مدى الإعفاء من العقوبات الاقتصادية يُكبِّل الحراك الاقتصادي للقطاعات الأساسية، وهذا الأمر يُقاس أيضًا على المنظمات الدولية أو المحلية، التي ستكون عاجزة عن وضع خطط طويلة الأمد وبناء هيكلية مؤسساتية لها، في ظل واقع اقتصادي غير مستدام، ولا سيما بالنسبة للحوالات التي تعتمد عليها تلك الجهات.
ويضاف إلى ذلك أن التفويض الممنوح لا يسمح باستلام مساعدات من مؤسسات مالية دولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ولا يرفع الحظر عن أي ممتلكات ومصالح تخص الحكومة السورية أو مصرف سورية المركزي، ومن ثم ستبقى كل ممتلكات الدولة السورية خارج سورية مجمّدة، وممّا قد يرجّح حدوث هذا السيناريو:
- عدم توسيع القيادة السورية الحالية للمشاركة السياسية في الحكومة التي تلي حكومة تسيير الأعمال التي ينتهي عملها بحسب التصريحات الرسمية في آذار/ مارس 2025، حتى الآن.
- فتح قنوات دبلوماسية موسّعة من جديد مع روسيا، بسبب صفقة قد تقدّمها روسيا متعلقة بالأسد أو أصوله المالية الموجودة في روسيا.
- عدم إعلان آليات إعادة هيكلة الجيش والأمن وماهية عملية الإصلاح الأمني المُطَبَقة، مما يُفضي إلى تخوّفات من تحوّل الجيش إلى فصيل موسّع بتوجهات أيديولوجية فقط، ويشكل هذا السلوك بالنسبة إلى أميركا تهديدًا خارجيًا لإسرائيل، مما قد يمنعها من أخذ قرار بإزالة العقوبات، والاكتفاء بتجديد الرُخص فقط.
2- رفع العقوبات بشكل كامل عن سورية بالتدريج
يُعدّ هذا السيناريو الأمثل، على صعيد إعادة الإعمار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، في حال توصّل الإدارة الأميركية إلى خارطة طريق واضحة مع حكومة تسيير الأعمال أو الحكومة التي تليها، من أجل تحقيق رفع العقوبات الأميركية، ومما قد يرجّح هذا السيناريو:
- توصّل الجانبَين الأميركي والتركي إلى اتفاق حول مصير “قوات سوريا الديمقراطية”، مما يسهّل على الحكومة السورية تعاملها مع أميركا في ملف شمال شرق سورية. وفي حال عدم التوصّل إلى ذلك الاتفاق، فقد تظل هذه النقطة إشكالية بالنسبة إلى تركيا، ولا سيّما إذا دخلت (قسد) في حكومة ائتلافية، أو دُمجت في الجيش المُراد بناؤه ككتلة عسكرية لا كأفراد.
- إبقاء الحكومة السورية على قنوات دبلوماسية محددة مع روسيا، من دون الوصول إلى مستوى تنسيق عسكري وسياسي عال.
- حدوث حراك عربي، وخصوصًا من قبل السعودية وقطر، لرفع العقوبات عن سورية، عبر قنواتهم الدبلوماسية، وسعيهم لاستصدار رخص للعمل في سورية.
ويُضاف إلى تلك النقطتين أن يكون هناك سعي دبلوماسي سوري يعمل مع الشركاء الدوليين أو الدول الراغبة في العمل في سورية، ويشجّعها على التواصل مع الإدارة الأميركية ضمن مستويين متزامنين:
- الحصول على تراخيص وإعفاءات فردية، ضمن قطاعات معينة، عن طريق مكتب مراقبة الأصول الأجنبية[11].
- الدفع باتجاه تسريع الحصول على نتائج التراخيص التي ستُقدم إلى الإدارة الأميركية، على غرار ما فعلته وزارة التجارة الأميركية بعد زلزال شباط/ فبراير 2023، إذ أعلنت تسريع إصدار التصريحات الخاصة بالصادرات إلى سورية[12].
3- عدم تمديد الرّخص والإبقاء على العقوبات
يتمثل هذا السيناريو بعدم تمديد الرُخصة الممنوحة حاليًا، التي تنتهي في تموز/ يوليو 2025، وبصدور قرار واضح من الحكومة الأميركية بعدم رفع العقوبات أبدًا على سورية، وهذا سيُشكل بداية دخول سورية في مرحلة لا استقرار اقتصادي وسياسي وحتى اجتماعي، إذ سيقوض أي جهود مساعدة دولية من المنظمات أو من الدول، ويجعلها في المستوى الأدنى فقط الذي يكفل المساعدات الغذائية والطبية، بالتزامن مع عدم القدرة على إعادة إعمار المدن المهدّمة، مما يفضي إلى غياب القدرة على تأسيس بيئة تُناسب عودة اللاجئين، أما على الصعيد الأمن القومي الخارجي للدول، فسينعكس موضوع عدم رفع العقوبات على الملفات التالية:
- تجارة الكبتاغون: حاول نظام الأسد استغلال ملف تجارة المخدرات عبر ميليشيات مقربة منه وتابعة له، من أجل العبث بالأمن القومي للدول، ولا سيّما دول الجوار مثل الأردن، وما زالت تلك الميليشيات موجودة، ولكنها لم تعد فاعلة بعد سقوطه، بسبب حذرها من النظام الجديد الذي يتشكّل الآن، وتصريحاته أنه لن تكون سورية دولة لتصدير المخدرات. ولكن في حال عدم وجود تحسّن اقتصادي، وتراجع قدرة النظام على الضبط الأمني بسبب فقدان قدرته بناء جهاز أمني فاعل نتيجة العقوبات؛ ستعود هذه الميليشيات للنشاط في التهريب وإغراق المجتمع المحلّي به، وذلك للعائدات المالية الكبيرة لهذه التجارة، في ظلّ انتشار البطالة والضعف الاقتصادي، بسبب استمرار العقوبات.
- الدور الإيراني: كان سقوط نظام الأسد هزيمةً للمحور الإيراني في المنطقة، حيث شكّل نقطة فراغ في خط الإمداد الإيراني إلى لبنان، ولطالما كانت المنتجات الإيرانية، من النفط أو من السلاح، هدفًا للأسواق المعاقبة أوروبيًا وأميركيًا مثل الصين، ومن ثم قد يُفضي استمرار العقوبات الغربية على سورية، إلى دخول إيران إلى سورية عبر البوابة الاقتصادية، وسيؤدي ذلك حتمًا إلى إعادة تفعيل ميليشياتها المحليّة.
- الدور الروسي: كان الدور الروسي فاعلًا في تاريخ سورية، منذ انقلاب البعث عام 1963، وكان الدور الأبرز عسكريًا، عبر مدّ الجيش السوري بالمعدات العسكرية بكل أنواعها، وبرز هذا الإمداد، بسبب العلاقات السورية الجيدة مع الاتحاد السوفيتي ورخص المعدات الروسية، مقارنة بالتجهيزات الغربية، واستمر هذا الدعم حتى سقوط الأسد، وجاءت الضربات الإسرائيلية التي دمّرت نسبة كبيرة من مقدرات الجيش السوري، ومن ثم، فإن عملية بناء الجهاز العسكري الآن أمام مفترق طرق، وإن إبقاء العقوبات المفروضة على سورية، وهي التي تمنع أي إيرادات عسكرية لسورية، قد يؤدي إلى عودة الدور العسكري الروسي في سورية بقوة، وذلك بسبب غياب البدائل.
ختامًا؛ كانت فلسفة العقوبات الأميركية على سورية، منذ بدايتها عام 1979، ضمن مشهد أوسع مرتبط بالصراع الأميركي السوفيتي، إضافة إلى سلوك نظام الأسد (الأب والابن)، ابتداءً من احتلال حافظ الأسد للبنان، وتحالفه مع إيران بعد ثورة الخميني، مرورًا بتورط بشار في ملف الجماعات المتطرفة في العراق بعد عام 2003، وضلوع نظامه في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005، وانتهاءً بسلوك نظام الأسد ضد الشعب السوري بعد 2011، وزوال الأسد الذي انتهج تهديد الأمن القومي للدول سلوكًا لتحقيق مصالحه، من أجل فرض سلطة أمر واقع على صعيد علاقاته الدولية، وكسر الحصار المفروض عليه في عدة مناسبات.
إن كلّ المعطيات الحالية تدلّ على أن العقوبات الأميركية فقدت الهدفَ الذي وضعت لأجله، وإن تحوّل ملف العقوبات، من ملف كان هدفه محاصرة الأسد، إلى أداة ضغط على حكومة تسيير الأعمال أو الحكومات اللاحقة، لتنفيذ لائحة سياسيات مطلوبة دوليًا، يُنذر بحدوث كارثة اقتصادية، ودخول البلاد في دوامة من الركود الاقتصادي واللا جدوى من مشاريع المنظمات، ويعوق وضعَ خطط تنمية مستدامة في ظل العقوبات، في حين إن القطاع الأمني والعسكري يحتاج إلى دعم معداتي، بسبب تآكل التجهيزات العسكرية لنظام الأسد وتدمير جزء كبير منها، وإنّ الإبقاء على العقوبات سيترك سورية دولةً هشةً، اقتصاديًا وعسكريًا، ويجعلها عرضة لأن تكون خاصرة رخوة، تنشط فيها ميليشيات تجارة المخدرات، وتؤثر سلبًا في الأمن القومي لدول الجوار، ما يفتح البابَ لعودة دور إيران وروسيا في المنطقة، ولو عبر أذرع محلية.
المراجع:
- US Department of state, U.S.-Syria Relations
- US Congress, H.R.1828 – Syria Accountability and Lebanese Sovereignty Restoration Act of 2003
- S.Hrg. 112-365 — U.S. POLICY IN SYRIA
- US Congress, S.1681 – Intelligence Authorization Act for Fiscal Year 2014, DEC 2013
- Office of Foreign Assets Control, GENERAL LICENSE 3, Authorizing Official Activities of Certain International Organizations Involving the Ministry of National Defense or the Ministry of Energy and Natural Resources of the Government of Turkey
- Office of Foreign Assets Control, Syria General License 21B, Authorizing Certain Activities to Respond to the Coronavirus Disease 2019 (COVID-
- Office of Foreign Assets Control, Syria General License 23, Authorizing Transactions Related to Earthquake Relief Efforts in Syria,
- Office of Foreign Assets Control, GENERAL LICENSE NO. 22, Authorizing Activities in Certain Economic Sectors in Non-Regime Held Areas of Northeast and Northwest Syria
- Office of Foreign Assets Control, GENERAL LICENSE NO. 24, Authorizing Transactions with Governing Institutions in Syria and Certain Transactions Related to Energy and Personal Remittances
- Office of Foreign Assets Control, Specific Licenses and Interpretive Guidance
- BUREAU OF INDUSTRY AND SECURITY, COMMERCE ANNOUNCES EXPEDITED LICENSING FOR EXPORTS TO ASSIST IN EARTHQUAKE RELIEF
[1] US Department of state, U.S.-Syria Relations, https://www.state.gov/countries-areas/syria/
[2] US Congress, H.R.1828 – Syria Accountability and Lebanese Sovereignty Restoration Act of 2003, https://bit.ly/3PEgzRg
[3] S. Hrg. 112-365 — U.S. POLICY IN SYRIA, https://bit.ly/3Q2hDyz
[4] US Congress, S.1681 – Intelligence Authorization Act for Fiscal Year 2014, DEC 2013, https://bit.ly/40KbHiJ
[5] Office of Foreign Assets Control, GENERAL LICENSE 3, Authorizing Official Activities of Certain International Organizations Involving the Ministry of National Defense or the Ministry of Energy and Natural Resources of the Government of Turkey https://bit.ly/40MM8NY
[6] Office of Foreign Assets Control, Syria General License 21B, Authorizing Certain Activities to Respond to the Coronavirus Disease 2019 (COVID-19), https://bit.ly/4aN45R1
[7] Office of Foreign Assets Control, Syria General License 23, Authorizing Transactions Related to Earthquake Relief Efforts in Syria, https://bit.ly/4goR4yn
[8] Office of Foreign Assets Control, GENERAL LICENSE NO. 22, Authorizing Activities in Certain Economic Sectors in Non-Regime Held Areas of Northeast and Northwest Syria https://bit.ly/4hpRBBE
[9] The Guardian, US lifts $10m bounty on HTS leader after talks in Syrian capital, 20 DEC 2024 https://bit.ly/3WN0Bbs
[10] Office of Foreign Assets Control, GENERAL LICENSE NO. 24, Authorizing Transactions with Governing Institutions in Syria and Certain Transactions Related to Energy and Personal Remittances, https://bit.ly/4jGq28x
[11] Office of Foreign Assets Control, Specific Licenses and Interpretive Guidance, https://bit.ly/4gpVyF1
[12] Bureau of Industry and Security, Commerce Announces Expedited Licensing for Exports to Assist In Earthquake Relief, https://bit.ly/42FJwnO
- مركز حرمون للدراسات المعاصرة