زياد عدوان
قد يكون السؤال عما تقوم به العلوم السياسية والخبراء والمحللون السياسيون سورياً بالقدر الذي يتّخذ منحى عالمياً أيضاً. وكانت الاحتجاجات التي ألمّت بالعالم في العشرية الثانية من القرن الحالي كالربيع العربي، والسترات الصفر في فرنسا، والمزارعين على التراكتورات في ألمانيا، واحتلال وول ستريت في الولايات المتحدة، أمثلة على فشل السياسة في توقّع حدوث هذه الاحتجاجات، وفقدان ثقة العديد من الشرائح الاجتماعية بالتمثيلات السياسية في هذه الدول.
كان هروب بشار الأسد مفاجئاً، كما كان مفاجئاً اندلاع الاحتجاجات عام 2011. وبالمثل، كان ظهور “داعش” مفاجأة أخرى، و”طوفان الأقصى” مفاجأة. ولكن المفاجأة الحقيقية هي أن الجميع كان متفاجئاً، على الرغم من امتلاء الفضائيات بالمحللين السياسيين والخبراء العسكريين، وتزايد مراكز الأبحاث السياسية والجيوسياسية، لم تستطع هذه الخبرات السياسية أن تتوقّع سيناريو هروب بشار الأسد، كما كان الحال عندما لم تتوقّع هذه الخبرات العديد من الأحداث المفصلية التي ألمّت بسوريا والمنطقة.
تستدعي هذه المفاجآت أسئلة عن المرجعيات والمناهج التي يستند إليها علماء السياسة وأكاديميوها، عند تقديم رؤاهم وأطروحاتهم التي لم تمتلك الرؤى لتوقّع ما سيحدث، أو لرسم استراتيجيات مستقبلية.
ما الذي يقوم به الخبراء السياسيون حقيقة؟ ولِمَ هم قاصرون عن تقديم رؤى تتطابق مع ما سيحدث؟ وما أسباب القصور عن إضافة معرفة ما بعيدة عما يدركه العامة من أقاويل تردّد أن الإيرانيين والروس قد سئموا الأسد، وأن جيشه بات ضعيفاً بسبب الفساد وانعدام الثقة، وأن العرب تخلّوا عنه بسبب كذبه وإصراره على تهريب الكبتاغون، وأن قوى خفية ومسيطرة حسمت هذا المصير المفاجئ؟
كلما تحدث الساسة وخبراء السياسة عن الحل السياسي، استعرت الحرب
اعتاد المحللون والأكاديميون السياسيون، سواء عبر الشاشات أو من خلال المراكز البحثية والأكاديمية، على تكرار ما يراه ويستنتجه الجميع من نشرات الأخبار والمقالات والسوشيال ميديا.
وللمفارقة تردّدت عبارات طوال الأربع عشرة سنة الماضية، مشيرة إلى أن الحل في سوريا هو حل سياسي، وكلما تحدّث الساسة وخبراء السياسة عن الحل السياسي، استعرت الحرب، وكأن الحديث عن عبارات الحل السياسي كان لتمييع المسألة السورية، ريثما تأخذ الحلول العسكرية والاستخباراتية ومعاملات الفساد والصفقات وتبادل المعلومات الأمنية مجراها، وظلت كلمة الحل السياسي هي السائدة إلى أن هرب بشار الأسد بمزيج من حل عسكري وأمني.
قد يكون السؤال عما تقوم به العلوم السياسية والخبراء والمحللون السياسيون سورياً بالقدر الذي يتّخذ منحى عالمياً أيضاً. وكانت الاحتجاجات التي ألمّت بالعالم في العشرية الثانية من القرن الحالي كالربيع العربي، والسترات الصفر في فرنسا، والمزارعين على التراكتورات في ألمانيا، واحتلال وول ستريت في الولايات المتحدة، أمثلة على فشل السياسة في توقّع حدوث هذه الاحتجاجات، ومن ثم التعامل معها وقراءة تنظيماتها وأهدافها ومرجعياتها. كما أكّدت هذه الاحتجاجات الهوة بين السياسيين والمواطنين، وفقدان ثقة العديد من الشرائح الاجتماعية بالتمثيلات السياسية في هذه الدول.
ما الذي يقوم به الخبراء السياسيون حقيقة؟ ولم هم قاصرون عن تقديم رؤى تتطابق مع ما سيحدث؟
ولعل أحد أكبر مفاجآت القرن الواحد والعشرين كانت الأزمة الاقتصادية التي حصلت في عام 2008. أثبتت هذه الأزمة طواعية الساسة أمام عوالم البنوك ودورات رأس المال، لتُنقذ البنوك عبر إجراءات لم تكن مفهومة من قِبل عموم البشر الذين تضرروا فعلياً من هذه الأزمة.
تعافت البنوك من “الأزمة” المالية بإنقاذ “سياسي”، ولكن كانت تلك المفاجأة صدمة للبشر الذين هجروا بيوتهم، كما كانت صدمة بالنسبة للسياسيين وحيتان المال. لماذا فشلت الخبرات السياسية في توقّع هذا الانهيار؟ وكيف فشلت في توصيف “فقاعة” المعاملات البنكية وقروض السكن على حد تعبير الفيلم الأميركي (The Big Short)؟
اتّسم القرن الواحد والعشرون بتغييرات تكنولوجية واجتماعية هائلة، ولكن ظلت العلوم السياسية بمناهجها قاصرة عن توصيف ما يحدث، وعلى حد تعبير سلافوي جيجيك ينحو السياسيون إلى استخدام مفردات من القرن العشرين، لتفسير الانعطافات السياسية الكبيرة التي يشهدها هذا القرن. حتى كلمة ثورة، بنظر جيجك، هي استعادة نوستاليجية لمفردة كانت لها رنتها في القرن العشرين، ولكن قد لا تكون المفردة صالحة لتوصيف الربيع العربي، أو احتلال وول ستريت، أو السترات الصفر، أو حتى Me-Too.
في كتاب “التقشّف: تاريخ فكرة خطيرة”، يروي مارك بليث كيف فشل السياسيون في توقّع الأزمة الاقتصادية في عام 2008، كما فشلوا في سياسات التقشّف التي قاموا بها عبر رعونة مرجعياتها العملية والنظرية، وينسجم هذا النقد مع افتقار الأكاديمية السياسية التقليدية للأدوات التي تتعامل مع كوارث عصرنا كمشكلة البيئة والإرهاب العالمي والإحباط الاقتصادي.
وفي معرض قراءته للربيع العربي، يشير بليث إلى الأنظمة العربية المعقدة التي اضطهدت التقلّبات بطرق سطحية ومصطنعة، وبرغم هشاشتها الشديدة كانت على الدوام تشير إلى أنها غير معرّضة للخطر.
تقع هذه الأحداث الكارثية خارج نطاق التوقعات المعتادة، وغالبًا ما يتم تبريرها من قبل خبراء السياسة بعد وقوعها.
نظرية البجعة السوداء التي وضعها نسيم نيكولاس طالب، هي إشارة إلى الأحداث غير المتوقّعة التي تُلقي أثراً هائلاً على العالم وتؤدي إلى انعطافات تاريخية. تقع هذه الأحداث الكارثية خارج نطاق التوقّعات المعتادة، وغالباً ما يتم تبريرها من قبل خبراء السياسة بعد وقوعها.
كتب نسيم طالب مع مارك بليث مقالة بعنوان “البجعة السوداء في القاهرة: كيف يجعل قمع التقلّبات العالم أقل قابلية للتنبؤ وأكثر خطورة”، ناقش الكاتبان الكيفيات التي يُوهم بها السياسيون وخبراء السياسة الجميع بالاستقرار وامتلاك اليقين، بينما يؤدي هذا الشعور الزائف بالاستقرار إلى نهايات كارثية، وإحساس عام بعدم الشعور بالاستقرار.
وفي الوقت الذي يقوم به السياسيون في أوروبا والشمال الأميركي بالتلاعب بالألفاظ لحماية تراكم الثروة بيد الفئات القليلة، ولصون التبعية والطاعة، وتدمير بلدان كاملة بحجج وأكاذيب “سياسية”، يقوم بهذه المهمة في سوريا وفي المنطقة عموماً، عساكر يخلطون السياسة بالأيديولوجيا كعائلة الأسد، وصدام حسين والزعماء اللبنانيين وحتى نتانياهو.
السياسة لدينا هي أوامر فجة بقوة السلاح، ومدعاة للفخر بسبب التضحيات الأيديولوجية التي يقوم بها الشعب خدمة للمثل والشعارات السياسية، وعلى سبيل المثال، وفي نباهة فريدة، يُستخدم مصطلح “المرونة اللبنانية” للقول إنه على الرغم من كل ما يحصل في لبنان، وفساد المنظومة الحاكمة، اللبناني “مرن” وقادر على تجاوز المحن التي فُرضت عليه ولم يكن له دور في اختيارها.
اعتاد الخبراء السياسيون التصرّف على أنهم العالمون بخفايا الأمور، وتبنّوا مواقف تزدري السرديات الاجتماعية والاقتصادية وحتى النفسية والأدبية، التي لامست بشكل أو بآخر انفجارات المنطقة، وانهيارات المنظومات البنكية في عام 2008، ولكن ظل الترفّع هو سمة علماء السياسة.
دروس للسوريين !
وفي عام 2023، كتب نيكولاس فان دام الدبلوماسي والباحث مقالاً بحثياً طويلاً بـعنوان “الدروس التي ينبغي تعلّمها من الثورة السورية والدروس التي كان يجب تعلّمها قبل فترة طويلة”، الدروس كانت توجيهات للسوريين بعدم الاحتجاج، وبناء حوار مع الأسد لرفع العقوبات، والبدء في إعادة بناء البلاد، وأسباب هذا التنازل هي وحشية النظام والجماعات الطائفية المتحالفة مع النظام.
يستنتج فان دام أن الأسد قوي لأنه عاد إلى الجامعة العربية، وبالتالي فإن إسقاط النظام صعب أو بعيد المنال. المقالة، وكما هو حال العديد من الرؤى السياسية، لم تتطرّق إلى قضية المعتقلين، ولم تتطرّق إلى الكبتاغون ومراوغات الأسد وابتزازه الجميع بملفات القاعدة وتهديداته بـ”تفجير المنطقة”.
وربما كان العزوف عن التطرّق إلى هذه المواضيع هو افتقار “الخبراء السياسيين” إلى حيثيات الصفقات السوداء، وعجزهم عن وضع حلول لمجابهة هذه التحديات، وبالتالي يكون الكلام السياسي الموزون هو الذي لا يقول ولا يشرح ولا يقدم حلولاً.
تغير “درس” فان دام في مقال آخر كتبه بعد ثلاثة أيام من سقوط النظام، ورأى فيه أن ثورة جديدة ضد نظام الأسد كانت شأناً لا يمكن تفاديه، وفي الوقت الذي اعتبر فان دام أن انتصار الأسد كان بعودته إلى جامعة الدول العربية، يصف أحمد الدالاتي القيادي في إدارة العمليات العسكرية، عودة الأسد إلى الجامعة العربية هي اللحظة التي تيقّنوا فيها أن الأسد هُزم!.
وعلى الصعيد السوري كان هناك اقتناع تام عند العديد من السوريين الذين اصطفوا إلى جانب الأسد، أو الذين عارضوه، أن الأسد ذكي، وأنه يعرف ما يقوم به، وأن سياسات التقشّف، وسياسيات التلاعب بالكلام والفذلكات اللغوية كانت مناورات سياسية، ليتبين فيما بعد أن السياسي المحنك قد سرق نقود البلد وهرب، وأن اللصوصية التي قام بها كانت شديدة البساطة إلى درجة ترفّعت عنها حذلقات العلوم السياسية.
مسرحي وأكاديمي سوري
- درج