ثلاثة هوامش على «مؤتمر الحوار الوطني» وعن النصر وطرائقه

ياسين السويحة

    • لم يكن لفرط اللامعنى أي ضرورة

      لا أحد يُزاحِم أحمد الشرع على رأس سلطة البلاد. داخلياً، ثمة سعداء به، وآخرون يتعايشون بتنويعاتٍ من الـ«على مضض» مع كونه أقلّ الأطراف السورية ضعفاً، والأقرب للقدرة على تجميع نثار دولةٍ سوريةٍ ما، وثمة جمعٌ أقل عدداً وقدرةً يتمنّون لو تضربه صاعقةٌ؛ إذ ليس لديهم غير ترجّيها ما يواجهونه به. أما خارجياً فقد حصّل الرجل اعترافاً أكثر من مقبول من الإقليم والعالم؛ اعترافاً تعلوه غيوم تحفّظٍ أميركي ووعيدٍ إسرائيلي مُقلقَين، ولكنه اعتراف، بلا شك، يتجاوز ما يمكن لرأس جماعة جهادية سابقة أن يحلم به في سياقنا الإقليمي والدولي بعد ربع قرنٍ من «الحرب على الإرهاب».

      للبيان الختامي الصادر عن مؤتمر الحوار الوطني ضرورةٌ سياسيةٌ على صعيد شرعنة الخطوات اللاحقة في طريق إعادة تشكيل السلطة في سوريا، ومن المرجّح أنه كان خطوةً ضروريةً لتمتين الشرعية الدبلوماسية لملاقاة الخطوات الأوروبية من جهة، وتجهيزاً للجولة الخارجية التي ستمرّ بمصر وبقاعة اجتماعات القمة العربية المُقبلة فيها. قد تفسّر هذه النقاط الاستعجال في عقد المؤتمر والحصول على مخرجاته إثر ما بدا تريّثاً في الإعلان عنه وعن لجنته التنظيمية، لكنها لا تفسّر الاجتهاد في إخراج الموضوع بهذا الشكل المتعثّر.

      لقد كان بإمكان أحمد الشرع، ودون صعوبة تُذكر، الحصول على البيان الختامي نفسه بشكلٍ أقل فوضويةً وأكثر احتراماً لمَن شاركوا في صياغته، ولمَن غابوا عن المشاركة بما كان أشبه بالمغافلة؛ ودون أن يذهب بعيداً نحو مؤتمر وطني فعلي وسيّد وملزم القرارات. يسود الرجل في توازنات الضعف السوريّة بما يكفيه لأن يعقد مؤتمراً شكلياً محترماً بالحد الأدنى للخروج بالوثيقة التي صدرت نفسها. ليس مضطراً في الوقت الحالي لما يتجاوز الشكليات، وأهمية الشكليات هي في.. الشكل.

      * * * * * 

      اللجنة 

      لقد أتى يوما المؤتمر فائق الصوتي هذا تتويجاً لمسارٍ غير طيّب لعمل لجنته التحضيرية؛ كختامٍ لما لم يبدأ على خير.

      تشكّلت اللجنة بقرارٍ فوقي، وكانت نواة تشكيلها شخصيات من هيئة تحرير الشام وضواحيها، يجاوِرها حسن الدغيم ممثلاً لتيارٍ إيديولوجي عسكري ذي تاريخٍ مناوئ للهيئة ومُتشكّك تجاهها؛ وضمّت اللجنة كلاً من السيدتين هدى الأتاسي وهند قبوات، ذوات خبرة في العمل المدني والسياسي السوري من زوايا عديدة. ولذلك، ولأنّهما امرأتان حاضرات في الشأن العام، تراءى أنّ حساسيات التنوّع والديمقراطية والعدالَتين الجندرية والاجتماعية ستتمثّل فيهنّ تحديداً. لم يحصل.

      لم تُفهم تركيبة اللجنة، فعدا عن عدم توازنها جندرياً، غاب عنها الكثير من التوازن المطلوب في تمثيل المجتمع السوري، وتمت مواجهة عدم الفهم هذا بالمرافعة عن عدم ضرورة أن تكون اللجنة التحضيرية متنوّعةً وتمثيلية، بل إن عملها هو ما سيحقق هذا التمثيل للتنّوع السوري. لم يحصل.

      سبق إرسال الدعوات المُغافِلة للمؤتمر جولاتٌ على المحافظات لإجراء جلساتٍ تشاورية، تميّزت جميعها بسوء التنظيم وقلة الاعتناء بترتيب الدعوات وتنظيم نقاشاتٍ ذات معنى، ووصل سوء التدبير وقلة الاكتراث ذروته في التعامل المخزي مع محافظَتي الرقة والحسكة، إذ استُدعي «ممثلوها» إلى دمشق بالاستعجال المُغافِل نفسه الذي تميّزت به العملية كلّها، وجرت الاجتماعات باستعجال، وبغيابٍ مؤسف للسيدَتين قبوات والأتاسي، ممثلات كل ما ليس هيئة تحرير الشام ومناوئيها من رجال عسكرتاريين إسلاميين. تكرّرت غيابات أعضاء اللجنة وعضواتها عن لقاءات تشاورية أخرى، ما يطرح تساؤلات حول ما يمكن أن يُشغِل عن هكذا مهمة جليلة. كان يُفترض أن تكون جدية اللجنة ومنهجيتها على مستوى المهمة المنوطة. لم يحصل.

      تتحمل السلطة في سوريا، ورأسها أحمد الشرع، المسؤولية الأولى والكبرى عن الطريقة التي سُلِق فيها «مؤتمر حوار وطني» في هذه اللحظة من تاريخ بلدنا. وبعد التأكيد على ذلك، يجدر قول إن على اللجنة وأعضائها وعضواتها، خصوصاً جانبها المدني الذي كان به العشم، أن تتوجه بشيءٍ ما للرأي العام السوري حول ما حصل. قالت اللوحات الدعائية الضخمة التي وُزِّعت في شوارع دمشق الكثير عن «الشفافية» و«التشاركية»، وتطبيقاً لروحية هذه الشعارات يُتوقّع ممن شارك في تنظيم ما حصل أن يقول شيئاً عن رضاه عنه، سيما إن بقي في الشأن العام مستقبلاً. فهل يحصل؟

      * * * * *

      النصر وطرائقه

      في كلمته، الحاملة لقراءاتٍ عديدة دون أن تحمل أيَّ جديدٍ في الوقت ذاته، قال أحمد الشرع، فيما بدا دفاعاً عن تسوياتٍ مع بعض عسكر النظام البائد البارزين أتت في سياق تجنّب معارك الساعات الأخيرة من عمر حكم بشار الأسد: «إنّ على من قبِل هذا النصر أن يتكرّم بتقبّل طرائقه».

      صحيحٌ أن ملف العدالة الانتقالية هو أحد أبرز مداخل النقد الموجّه للسلطة الجديدة في دمشق، خاصةً فيما يتعلّق بعدم وضوح معادلات الملاحقة والمهادنة والتسوية والاستيعاب، ولكنّه بالنهاية نقدٌ خافتٌ نسبةً لحجم الملف، يكاد خارج ضجيج وسائل التواصل ينكمش إلى ذوي الضحايا الناشطين والحلقة الاجتماعية المحيطة بهم-ن؛ إلى «مجتمع الألم». لا يُعاني النصر ولا تُعاني طرائقه من كثرة النقد، بل إنها بالأحرى تجوب سهولاً وسهوباً من فرط التفهّم.

      لا يحلم المرء بأن تؤدي طرائق النصر هذه إلى ديمقراطيةٍ ناجزةٍ وتداولٍ سلمي للسلطة في سوريا في وقتٍ قريب، فهذا حقٌّ يجب أن يُنتزع ويُناضل من أجله إنْ أراده سوريون كثر وعملوا من أجله، بطرائقهم هم. جلّ ما يُرتجى، الآن وهنا، ألا تؤدي طرائق النصر إلى إغلاق المجال العام والحدّ من الحريات السياسية والعامة في المستقبل القريب في سياق «بناء الدولة». وهذه، والحق يُقال، المسألة السياسية الأساس.

      سوريا اليوم تحت بردٍ قارس، على ضفاف الجوع، ونصف مُهدّمة. همّ ربطة الخبز ودفء الطفل لا يترك خلايا رمادية لما عداه. هذا واقع، هذه هي سوريا «غرفة الإنعاش» التي تحدّث عنها أحمد الشرع مُحقّاً في كلمته. يتلقّى المهتمون بالشؤون السياسية توبيخاً متكرراً من جماهير المتحمسّين للسلطة الجديدة حول سطحية اهتمامهم مقارنةً بهذا الهمّ السوري الفظيع، وضمن هذا التوبيخ يندرج تسخيفٌ سهلٌ للاعتراضات على الإخراج الهزيل للمؤتمر الشكلاني. هذا سجالٌ عقيم. ما يستحق النقاش هو ما يبشّر به هذا السلوك من وجود الكفاءات والقدرات والأفكار اللازمة للإشراف على سوريا التي في غرفة الإنعاش، عن كيف سيعيش الناس موجة البرد المقبلة، هذا الشتاء أو الذي يليه؛ عن كيف سيُفكر بأكل الناس ومأواهم وتعليم أبنائهم. أتمرُّ هذه المهمات الجلل عبر استدعاء الناس من أصقاع البلد والأرض إلى فندقٍ فخم في دمشق خلال 48 ساعة؟

Next Post

اترك رد

منتدى الرأي للحوار الديمقراطي (يوتيوب)

أبريل 2025
س د ن ث أرب خ ج
 1234
567891011
12131415161718
19202122232425
2627282930  

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist