تسعى إسرائيل تحت قيادة بنيامين نتنياهو وفي خضم التحولات السياسية والعسكرية التي تشهدها سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، إلى إعادة صياغة معادلات السطوة في الجنوب السوري عبر مشروع “حماية الدروز”، الذي يشكل في جوهره محاولة ممنهجة لإنشاء حزام أمني جديد داخل الأراضي السورية، على غرار ما حاولت إسرائيل فرضه في جنوبي لبنان خلال فترة الاحتلال عبر “جيش أنطوان لحد”.
تمتد المناطق التي يشملها مشروع نتنياهو من الجولان المحتل إلى محافظة القنيطرة، ثم درعا والسويداء، وصولاً إلى جنوبي دمشق وريفها. هذه الرقعة الجغرافية تمثل أهمية استراتيجية لإسرائيل لعدة أسباب، أولها أنها تشكل حاجزاً طبيعياً أمام أي امتداد عسكري سوري اتجاه الحدود، وثانيها أنها ترتبط مع شبكة طرق حيوية تربط سوريا بالأردن، مما يمنح إسرائيل قدرة على السيطرة على أهم المنافذ التجارية الأساسية لسوريا الجديدة، وثالثها أن هذه المناطق، بحكم طبيعتها الديمغرافية، تمكنها من اللعب على المخاوف الطائفية والمناطقية.
تمتلك إسرائيل خبرة واسعة في توظيف الأقليات الدينية والطائفية لمصلحتها، ولا تكتفي بتوظيف هذا المشروع في سوريا، بل تحاول تعميم نموذج “الحزام الأمني” على أكثر من جبهة.
ويستند المشروع الإسرائيلي في سوريا على فكرة الحماية الظاهرية للدروز، لكنه يهدف في عمقه إلى فرض واقع جديد.
تل أبيب تدرك أن نجاحها في إقامة حزام أمني في جنوبي سوريا سيوفر لها ثلاث فوائد أساسية: الأولى هي ضرب سلطة الدولة السورية الجديدة، عبر منعها من بسط سيادتها على كامل أراضيها، والثانية هي تأمين حدودها مع سوريا بأقل كلفة عسكرية ممكنة، من خلال الاعتماد على قوات محلية بديلة، والثالثة هي تعزيز نفوذها الإقليمي عبر فرض معادلات ميدانية تفرض لاحقاً على المجتمع الدولي التعامل معها كأمر واقع.
تتصدر روسيا قائمة الدول المتضررة من طموحات إسرائيل في الجنوب السوري وهي دولة لا تزال تمتلك نفوذا كبيرا وفاعلا في سوريا
الرفض الشعبي لهذا المشروع في الجنوب السوري كان واضحاً منذ اللحظة الأولى. الدروز، الذين عانوا من تهميش كبير من قبل النظام السوري الأسدي لا يرون في إسرائيل خياراً يمكن الوثوق به. معظم القوى الدرزية، رغم خلافاتها الداخلية، تدرك أن الانخراط في المشروع الإسرائيلي سيضعها في مواجهة مباشرة مع باقي المكونات السورية، وسيفتح الباب أمام صراعات دموية.
الرفض الشعبي لا يعني أن إسرائيل ستتراجع عن مشروعها بسهولة. حكومة نتنياهو تراهن على أمرين: الأول هو الضغط الاقتصادي، حيث تعيش مناطق الجنوب السوري أوضاعاً صعبة والثاني هو التحركات السياسية، حيث قد تحاول فرض واقع مستجد من خلال دعم شخصيات درزية موالية لها، والسعي إلى تقديمها كبديل عن القيادة التقليدية للدروز.
الدولة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع التي تحاول إنشاء بنية مؤسساتية محكمة كانت الحرب قد دمرتها، تدرك أن إبداء أي تساهل مع المشروع الإسرائيلي سيفقدها السيطرة على الجنوب نهائياً، لكن في الوقت ذاته، فإن قدرتها على المواجهة العسكرية المباشرة محدودة، نظراً للضغوط الاقتصادية والدولية التي تواجهها. السيناريو الأكثر ترجيحاً هو أن تعمل دمشق على تعزيز وجودها غير المباشر في الجنوب، عبر استقطاب الفصائل المحلية، ومحاولة بناء تحالفات مع القوى البارزة الرافضة للمشروع الإسرائيلي والضغط من خلال المسارات الدولية والإقليمية.
ولا يتوقع أن تنظر الولايات المتحدة تحت ظل إدارة ترمب بعين الرضا الكاملة إلى مثل هذا المشروع، لأنها تسعى إلى الإنهاء السريع للصراعات المندلعة في المنطقة للتفرغ للعناوين الأكثر أهمية بالنسبة لها، والمتعلقة بفرض سطوة تكنولوجية اقتصادية على العالم. وتاليا فإن المشروع الإسرائيلي بما يتوقع أن يستجره من توترات وصراعات مفتوحة ومستمرة لا ينسجم في آفاقه المتوقعة مع المسار الأميركي، لذا قد تجد حكومة نتنياهو صعوبة في إقناع الحكم الأميركي الجديد بدعمه.
إسرائيل، وفي حال السير بخطوات تنفيذية، ستخوض هذه المغامرة بمفردها في مواجهات تكتلات من المصالح الدولية والإقليمية والمحلية التي تتعارض معها بدرجات متفاوتة من الشدة.
وتتصدر روسيا قائمة الدول المتضررة من طموحات إسرائيل في الجنوب السوري وهي دولة لا تزال تمتلك نفوذا كبيرا وفاعلا في سوريا، ويرجح أن يزداد مع حسم الحرب الأوكرانية لصالحها عبر مفاوضات لا يمتلك فيها الطرف الأوكراني عناصر قوة في ظل انكفاء الدعم الأميركي.
مشروع “حماية الدروز” الذي يروج له نتنياهو يهدف إلى فرض واقع إسرائيلي جديد في سوريا، و في لبنان أيضاً، عبر إنشاء أحزمة أمنية تخدم مصالح إسرائيل على المدى الطويل
إيران من جهتها قد تجد في هذا المشروع فرصة لإعادة تعزيز نفوذها المتهالك، عبر تفعيل عنوان مواجهة المخططات الإسرائيلية، مما قد يفتح الباب أمام صراع جديد بالوكالة بين طهران التي تسعى للدفاع عن حضورها في سوريا، وإسرائيل التي تبذل جهودا كبيرة في محاولات تصفية الوجود الإيراني في دمشق ومحاولات تهريب السلاح إلى حزب الله في لبنان.
وكذلك فإن فكرة فرض المشروع بالقوة العسكرية دونه محاذير كثيرة فالواقع السوري الجديد لا يتطابق مع الظروف الفلسطينية واللبنانية لناحية فرض واقع جديد عبر النار، لأن نتنياهو لن يجد نفسه في مواجهة سلطة محلية وحسب، ولكنه سيدخل في مواجهة مع شبكات مصالح كبرى ترعاها دول وازنة.
من هنا فإن مشروع “حماية الدروز” الذي يروج له نتنياهو يهدف إلى فرض واقع إسرائيلي جديد في سوريا، و في لبنان أيضاً، عبر إنشاء أحزمة أمنية تخدم مصالح إسرائيل على المدى الطويل. لكن هذه الاستراتيجية، تحمل في طياتها مخاطر كبيرة إذ إنها قد تؤدي إلى تقسيم المنطقة وتفتيتها وتعطيل مشاريع السلام كما ستعطي حجة متينة لنشوء أنواع جديدة من الاعتراض المسلح على الوجود الإسرائيلي يرجح أن تكون أكثر راديكالية وتشددا.
كل ذلك من شأنه أن يخلق واقعاً متفجرا تصعب السيطرة عليه وإدارته في مواجهة معادلات سلطة سورية جديدة تطرح عنوان وحدة الأراضي السورية كعنوان عام لشرعيتها، ومشاريع عربية تطرح الحلول العادلة للقضية الفلسطينية وضبط الأوضاع في لبنان والمنطقة عموما كشروط أساسية للسير في عملية السلام.
- تلفزيون سوريا