لا يزال مصير الإدارة الذاتية لشمال سوريا وشرقها غير واضح، بخاصة بعدما قررت الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة دونالد ترامب التخلّي عن حلفائها العسكريين السابقين، ما أدّى إلى كسر التحالف الذي هزم “داعش”، والذي لا يزال ضرورياً لمنع عودته. حتى الآن، المفاوضات متعثّرة بينما تزداد الأزمة الاقتصادية والإنسانية سوءاً بالنسبة الى الكرد.
“كانت هناك جثث في كل مكان حولي، كان كابوساً لا يمكنني نسيانه”، تروي هناء (45 عاماً)، وهي جالسة في خيمتها في مدينة الطبقة، والدموع تملأ عينيها: “في تلك الليلة، أثناء هروبنا من منبج، كان أول ما فكرت فيه أننا يجب أن ننجو لنروي قصتنا”، قصة الكرد الذين يُهجَّرون مراراً وتكراراً، من مأوى إلى آخر.
مرّ ما يقارب الشهرين منذ سقوط نظام الأسد وحزب “البعث” في سوريا. ركّزت الأخبار الدولية على كيفية شروع الحكومة المركزية الجديدة، بقيادة “هيئة تحرير الشام”، في عملية تطبيع بطيئة ولكن ثابتة مع المجتمع الدولي، إلى جانب إعادة إعمار البلاد التي دمرتها 14 عاماً من الحرب الأهلية.
لكن في المناطق الصحراوية الشمالية، يبدو المشهد مختلفاً، إذ بدأت فصول جديدة من الحرب، وبينما يحاول الحكّام الجدد بسط سيطرتهم وتوحيد القوّات المسلحة، تواجه الإدارة الذاتية في شمال سوريا وشرقها (AANES)، وهي السلطة المتعددة الإثنيات التي تحكم المنطقة بقيادة الكرد، واحدة من أعمق أزماتها منذ 12 عاماً على وجودها.
التقدّم التركي الجديد
في الأيام الأخيرة من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، وقبل سقوط النظام البعثي، سقطت المناطق القليلة الخاضعة لحكم الإدارة الذاتية لشمال سوريا وشرقها، في عفرين، والشهباء، وتل رفعت، إثر عملية عسكرية قادها “الجيش الوطني السوري/ SNA”، واستغلّت الفصائل المتحالفة مع تركيا الفراغ الذي خلّفه رحيل الأسد، لشنّ موجة جديدة من الهجمات المدمرة ضد المقاومة الكردية والسكان المدنيين، أسفرت عن نزوح فوضوي لنحو 150 ألف شخص إلى الضفة الشرقية لنهر الفرات.
مصير الكرد والمجتمعات التي تتقاسم معهم هذا الفضاء الجغرافي، يعتمد على نتيجة الصراع المستمر بين “قوّات سوريا الديمقراطية/ SDF” و”الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا. المعارك أضافت مئات القتلى إلى “مقابر الشهداء”، بينهم الكثير من المدنيين، وأفراد من التنظيمات السياسية، وفي الوقت نفسه، أدّى انقطاع المياه والكهرباء إلى تعميق الأزمة الإنسانية في المنطقة.
“الوضع الأمني حرج”، يقول المتحدث باسم “قوّات سوريا الديمقراطية” سيامند علي من داخل ثكنته، ويضيف: “سقطت الشهباء أولاً، ففرّ الكثيرون إلى منبج، بينما لجأ آخرون إلى حي الشيخ مقصود في حلب”، ويتابع الضابط وهو يعدّل نظارتيه: “لكن لم يكن هناك وقت للراحة، إذ أُجبر السكان على إخلاء المدينة، وهي الآن في أيدي حلفاء أردوغان”. تحاول “قوّات سوريا الديمقراطية” الصمود عند سد تشرين الاستراتيجي، الذي يقع على بُعد بضعة كيلومترات فقط من منبج.
بينما تواصل الطائرات التركية والمسيّرات قصف المنطقة، تسافر مجموعات من الناشطين لتقديم الدعم المعنوي لـ”قوّات سوريا الديمقراطية” بالقرب من السد. “لا يمكننا التوقّف عن الدفاع عن السد، إنه آخر خط دفاع لدينا”، تقول هدى حماد (42 عاماً)، وهي عضوة في منظّمة نسائية، وتضيف: “برغم أننا مدنيون، لا تفرق القنابل بيننا”، مؤكّدة أنها جزء من اعتصام دائم، احتجاجاً على الهجمات، وأنه منذ 8 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، قُتل 24 مدنياً وأُصيب 200 في محيط السد.
“سد تشرين لا يزوّد شمال سوريا بالكهرباء فقط، بل له دور مهم أيضاً في الزراعة”، تشرح سوسن خليل من إدارة المياه في كوباني. وبعبارة أخرى، يضمن سد تشرين الأمن الغذائي والمائي إلى جانب الكهرباء. “بنية السد معلّقة بخيط رفيع، فهو يتعرّض لهجمات مستمرّة، وأي خرق قد يؤدّي إلى كارثة”، يحذّر مصدر آخر في الإدارة، رفض الكشف عن هويته، “هناك فريق تقني داخل السد، لكن عندما يشتد القصف، يخشى الفريق الخروج”.
أصبحت المعركة من أجل المياه أكثر احتداماً منذ ذلك الحين. في محطة استخراج مياه صغيرة على الحدود التركية، تعرّض العمال للهجوم ما لا يقل عن خمس مرات. يقول رحمن محمد (50 عاماً)، وهو عامل في السد: “منسوب الفرات يتناقص لأن تركيا تحوِّل تدفّقه عبر سد أتاتورك في الشمال”، ثم يواصل حديثه من داخل غرفة المحركات الصاخبة: “نأتي إلى العمل ونحن خائفون، فقد أُصيب ثلاثة من زملائنا في انفجار سيارة، وأُصيب آخر برصاصة”، يقول العامل الذي يتقاضى راتباً زهيداً.
تخدم هذه المعارك هدفاً استراتيجياً لتركيا؛ فهي مفتاح توسيع نفوذها في سوريا. وبينما تتعثّر جولات المفاوضات بين الإدارة الذاتية لشمال سوريا وشرقها والإدارة الجديدة، يكسب “الجيش الوطني السوري” وتركيا الوقت لمواصلة عمليات الاستنزاف ضد “قوّات سوريا الديمقراطية”.
لطالما اعتبرت تركيا “قوّات سوريا الديمقراطية” كياناً معادياً، لكنها حتى الآن كانت مقيّدة بسبب الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، الذي يسعى إلى استبدال “قسد” بحلفاء أكثر توافقاً مع مصالحه، لكن الظروف تغيّرت بشكل كبير بعد وصول “هيئة تحرير الشام” إلى السلطة وتحالفها مع “الجيش الوطني السوري” وجماعات مسلّحة أخرى.
فقدت “قوّات سوريا الديمقراطية” آلافاً من عناصرها في القتال ضد تنظيم “داعش” والفصائل المسلّحة المدعومة من تركيا، وتعتبر أنقرة أن “قسد” امتداد لحزب “العمال الكردستاني/ PKK”، وهو تنظيم كردي مسلّح تصنّفه كمنظّمة إرهابية. لهذا السبب، ترى تركيا في مشروع الإدارة الذاتية لشمال سوريا وشرقها، مشكلة استراتيجية منذ تأسيسه بعد الانتفاضة الشعبية في عام 2011 ضد نظام الأسد وبداية الحرب الأهلية.
إحدى هذه الإشكاليات كانت عندما أنشأت التنظيمات السياسية الكردية، وعلى رأسها “وحدات حماية الشعب/ YPG”، مشروعاً سياسياً مستقلاً بحكم الواقع، مستنداً إلى اتفاقيات مع زعماء العشائر العربية والمجتمعات متعددة الإثنيات والأديان. وقد حققت هذه السلطة مستويات عالية من الحكم الذاتي من خلال إدارة الشؤون اليومية للمنطقة، التي يسمّيها كثر من الكرد “روج آفا – كردستان الغربية”.
دور العشائر
أدّت سياسات التغيير الديموغرافي منذ العام 1970 التي انتهجها آل الأسد، وفي السنوات الأخيرة تركيا، إلى تعقيد ميزان القوى، ما جعل الكرد أقلية في الأراضي التي يطالبون بها تاريخياً، وكان هذا هو أساس التفوّق الميداني لأنقرة في منبج، كما يُوضح المتحدث باسم “قوّات سوريا الديمقراطية” سيامند علي وهو يرتدي سترته الرسمية: “جزء من العشائر هناك كان دائماً معادياً للإدارة، لكن هذا ليس حال جميع المناطق”.
في مكتبه، يوضح الشيخ بندر، أحد زعماء قبيلة شُمّر القوّية بالقرب من العراق، قائلاً: “بعض العشائر قاتلت إلى جانب داعش، بينما انضم رجالنا إلى وحدتنا التي تضم 4,000 مقاتل، وتُعرف بالصناديد’”، ويتابع الشيخ، الذي يرتدي بدلة ويضع شالاً أبيض على رأسه: “قاتلنا من أجل تحرير المنطقة منذ العام 2014، وعندما قررنا أن نكون جزءاً من قوّات سوريا الديمقراطية، منذ ذلك الحين نحن مسؤولون عن أمن هذه المنطقة”.
هذا التحالف يشكّل ركيزة أساسية لاستدامة الإدارة الذاتية لشمال سوريا وشرقها، حيث بُني على سنوات من الدفاع عن المجتمعات ضد “داعش”، الذي ارتكب عشرات المجازر بحق العشائر العربية. بالنسبة الى الشيخ بندر فإن “داعش لم يحترم البنية القبلية، بينما فعلت الإدارة الذاتية ذلك”، ما جعل الكرد، رغم كونهم أقلية، يعتمدون في نظامهم على احترام الهياكل العشائرية، على عكس ما فعله تنظيم “داعش”. هذه العلاقة محورية لفهم أي تحوّل محتمل في التحالفات المستقبلية.
جالساً على فرش تقليدية بجوار مدفأة منزله، يُوضح الشيخ فارس حوران في الرقّة موقفه قائلًا: “رغم أننا لا نُعفي الإدارة من النقد ونرغب في سوريا موحّدة، فإن علاقتنا مع حكّامنا قائمة على الاحترام، ولا ندعم أي عمل عسكري. على العكس، نريد حلولاً سياسية سلمية”.
شنّت تركيا أربع عمليات عسكرية ضد هذه الكيانات منذ العام 2016، مثل عملية “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، وسيطرت على مساحات واسعة على طول حدودها، ما أدّى إلى نزوح مئات الآلاف من الأشخاص في محاولة لتقويض أي مشروع سياسي بديل. يشير القصف المستمر للمناطق المدنية إلى أن هذه الهجمات لن تتوقّف حتى بعد سقوط الأسد.
أزمة إنسانية جديدة
“ها نحن هنا، انتهى بنا المطاف في ملعب كرة القدم البلدي في الطبقة، ننام ونعيش في ظروف غير إنسانية، من دون مأوى آمن لفصل الشتاء”، تقول أرين سليمان (32 عاماً)، وهي أم لأربعة أطفال، أحدهم يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD). بالنسبة إلى كثيرين، هذه هي المرة الثالثة التي يُجبرون فيها على النزوح منذ العام 2018.
مصطفى رشيد رئيس مخيم النازحين داخلياً، يراجع الأرقام: “هناك حوالي 150,000 نازح في الطبقة، مع ما يقارب 1,300 عائلة هنا، بينما ينتشر أكثر من 2,000 آخرين في أماكن مثل المدارس والمساجد، في حين يوجد قرابة 200 شخص بلا مأوى”، يقول الرجل ذو اللحية الرمادية (55 عاماً)، و”الخيام مكتظّة، لا يوجد أي خصوصية، وهناك مشاكل خطيرة في الصرف الصحي”، يضيف رشيد. أما باقي النازحين، فهم منتشرون في مناطق أخرى مثل قامشلي وكوباني، ويعيشون في ظروف مماثلة.
جالسة بجواره، تشرح نسرين فهيمة أن “الفصول الدراسية توقّفت بسبب هذا الوضع، ما تسبب في مشكلات تعليمية خطيرة”، تقول ذلك بينما تأخذ رشفة من الشاي. “هناك مشكلات صحية من جميع الأنواع بسبب البكتيريا في المياه، ليس لدينا أطباء، وقد تُوفي بالفعل طفلان دون السنة من عمريهما بسبب البرد”، تتابع المرأة ذات الشعر الطويل (42 عاماً). “كما تُوفيت امرأة مسنة بسبب نقص الرعاية”، تضيف بأسى.
“لا توجد أدوية أيضاً، وهناك أشخاص يعانون من أمراض مزمنة خطيرة مثل السرطان أو يحتاجون إلى غسيل كلى، ناهيك بالصدمة النفسية الهائلة التي مررنا بها”، تشرح فهيمة بوجه قلق، جالسة بجوار المدفأة.
المنظّمات غير الحكومية مثل الهلال الأحمر الكردي و”اليونيسف” أرسلت مساعدات، لكنها غير كافية، بخاصة مع نقص المعدات الطبية المتقدمة. “أصبح النقص جزءاً من حياتنا اليومية”، وباختصار، “الوضع الإنساني كارثي”، تختم حديثها.
مشكلة الاندماج
ببطء ولكن بثبات، فتح قادة الإدارة الذاتية لشمال سوريا وشرقها، قنوات تفاوض مع السلطات الجديدة في دمشق، بشأن مستقبل الكرد، الذين يشكّلون 10 في المئة من سكان سوريا قبل الحرب، وهم لا يسعون إلى حكم ذاتي كامل بحكومة وبرلمان مستقلّين، بل يريدون ببساطة اللامركزية الإدارية، أي مساحة لإدارة شؤونهم اليومية.
لكن السلطات الجديدة متحالفة مع الجماعات المسلّحة المدعومة من تركيا، التي شنّت هجوماً على الكرد في كانون الأول/ ديسمبر، مستغلّة الفوضى التي أعقبت سقوط الأسد. بمعنى آخر، فيما تحاول قيادة “هيئة تحرير الشام” إبداء ضبط النفس، وتسعى إلى دمج المجتمعات المختلفة، فإنها تعتمد بشكل كبير على جهات خارجية مثل أنقرة والرياض والدوحة.
للصراع المستمر تداعيات كبيرة على مستقبل سوريا، حيث تحاول الحكومة الجديدة، بقيادة الجماعة الإسلامية المتمرّدة السابقة “هيئة تحرير الشام”، ترسيخ سلطتها والشروع في إعادة الإعمار بعد قرابة 14 عاماً من الحرب الأهلية، بينما تسعى الآن إلى تحقيق قدر من الاستقلال الذاتي.
في اجتماع مغلق بين أحمد الشرع (المعروف سابقاً باسم محمد الجولاني) والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أُبرم تحالفهما بشكل صريح. أعلن الشرع أن سوريا تسعى إلى “علاقة استراتيجية عميقة في جميع المجالات” تخدم مصالح البلدين. كما شدد على ضرورة وضع “استراتيجية مشتركة لمواجهة التهديدات الأمنية في المنطقة”، مشيراً بشكل خاص إلى شمال شرقي سوريا، الخاضع لسيطرة ميليشيا يقودها الكرد ولا تخضع لسلطة “هيئة تحرير الشام”.
رغم أن الشرع لم يشارك بعد بشكل مباشر في الصراع، فإنه أبدى استعداده للتعاون في مواجهة ما وصفه بـ”الإرهاب في الشمال”.
لا يزال مصير الإدارة الذاتية لشمال سوريا وشرقها غير واضح، بخاصة بعدما قررت الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة دونالد ترامب التخلّي عن حلفائها العسكريين السابقين، ما أدّى إلى كسر التحالف الذي هزم “داعش”، والذي لا يزال ضرورياً لمنع عودته. حتى الآن، المفاوضات متعثّرة بينما تزداد الأزمة الاقتصادية والإنسانية سوءاً بالنسبة الى الكرد.
- درج