ما عدّه الرئيس الشرع منذ عدة أيام في خطابه أمام مؤتمر الحوار الوطني بـ (تيه السياسة) مشيراً إلى مرحلة ما بعد الاستقلال وقبل الوحدة (1946 -1958)، ينظر إليه كثير من السوريين والمؤرخين بأنه من الفترات الأكثر انتعاشاً في الحياة السياسية، فحتى أشد فترة “الدكتاتورية” قسوة كانت مزحة قياساً لمرحلة الأسدين، كما كانت فترة عايشت حياة سياسية حرة وانتخابات برلمانية وظهور شخصيات وطنية، وهي الفترة التي كُتب فيها دستور 1950 بمشاركة تيارات مختلفة، وفيها تلمست بدايات تجربتها الديمقراطية، التي يصر رجال الحكم اليوم حتى على عدم لفظها، مع العمل بشكل أو بآخر وفق مضمونها من حريات ونقاشات، وكذلك يأتي الحديث عن نظام الحكم المقبل في سورية بأنه يرتبط بالثقافة العميقة للبلد والأصيلة لأهله، كأنه محاولة للابتعاد عنها، مع أنها لم تعد مرتبطة بأي مكان أو كيان، بل نمط إدارة للحكم والاختلاف بوسيلة سلمية.
يتكامل هذا الخطاب مع الحديث على أعلى المستويات بما فيها الرئيس، بتجنب الحديث عن التنوع السياسي والأحزاب السياسية، التي من دونها لن يكون هناك بناء لنظام سليم ولدولة قوية، فقد ذكر هؤلاء المسؤولين أكثر من مرة مسألة الحفاظ على التنوع الثقافي والاجتماعي وبناء السلم الأهلي وهي أمور محقة وضرورية، لكن كيف يمكن تحقيق هذه العملية، فسوريا ليست قرية أو مجموعة قرى صغيرة متناثرة، وحتى إن كانت كذلك، فالمطلوب بناء كيان واحد يعبر عنها ويمثلها، وهو الدولة، التي تقوم على ركائز أساسية: القانون، الدستور، قوات إنفاذ القانون، البرلمان، القضاء، وبالطبع من دون هيمنة من إحدى هذه المؤسسات على الأخرى، ومن دون ذوبان واحدة ضمن الأخرى، وما ينظم هذه العلاقات هو الدولة من خلال القانون (الدستور) الذي ينظم عمل هذه المؤسسات وينسق فيما بينها.
الأمر المهم الآخر، في دعم بناء الدولة، وهو من مستلزماتها، اختيار النظام السياسي التي ستدار من خلاله هذه المؤسسات، فحتى لا تكون شكلية أو ممسوخة، لا بد من وجود تعبيرات تمثيلية تدعم استقلاليتها وتراقب الدولة (السلطة) في وقوفها وممارستها، وهذه التعبيرات التمثيلية هي الأحزاب والهيئات المدنية والسياسية وحتى الشخصيات المستقلة، إضافة للصحافة الحرة، ومن ينظم العلاقة بينهما هي العملية الديمقراطية بما هي آلية للانتخابات وضمان حق المختلف في التعبير عن رأيه كفرد وجماعة، وإيصال رأيه من خلال ممثليه ومنابره، وهو ما يشكل عوامل استقرار للدولة ومؤسساتها، بل يمكن القول يضخ الدم في عروقها.
من المهم ألا نتخذ من التجارب الفاشلة والبائسة التي عاشتها الأحزاب في ظل الأنظمة الطغيانية، وبنسختها الفريدة، المتمثلة بالنموذج الأسدي، وهو نموذج يستحق الدراسة العميقة والتشريح، ومن المؤكد أن وصفه بالديكتاتوري رحمة له وظلم للديكتاتورية، وكذلك بالشمولي (الكلياني)، فهو نظام اخترع نمطاً جديداً، من سماته الأساسية إماتة الحياة في عقول البشر، ومن ثم قتلهم، إنه نظام إبادي أسدي، وهذا النموذج وغيره من التجارب الفاشلة، ينبغي ألا تكون جملة مقارنة لنا، بل نقيضها، الذي لن يتحقق إلا بضخ الحياة في روح المجتمعات، وتفعيلها من خلال مشاركتها وحقها في تأسيس تعبيراتها وتمثيلاتها المختلفة، وأهمها السياسية التي تضمن ألا نعود للحقبة الأسدية ولشبيهاتها. إن تحفيز الناس على المشاركة في صنع القرار هو همٌ وواجب وطني على الجميع، على السلطة وعلى الناس، كما أنه المقدمة الضرورية لتأسيس دولة المواطنة.
كثر الحديث في الآونة الأخيرة، تقريباً منذ عقد من الزمن، عن دولة المواطنة، أو المواطنة المتساوية، بمعنى قيام الدولة التي تعامل الناس كمواطنين متساويين أمام القانون من دون تمييز أياً كان سببه، دولة تساوي بين الناس في الحقوق والواجبات، لدرجة تحولت الدعوة إليها إلى ما يشبه الأيديولوجيا، بمعنى أنها الحل السحري لكثير من المشكلات التي تعانيها البلاد، وهذه من أهم عيوب التفكير لدينا، عدم التعامل النقدي مع الأفكار كما أوصى ذات يوم علي عزت بيجوفيتش، الرئيس البوسني، فبداية لا بد من ذكر أمر أساسي تشير إليه المواطنة، فهي علاقة بين الفرد الحر من خلال الجماعة مع الدولة، أي أن هذه المواطنة تقوم على ركائز ثلاث: وجود دولة (مؤسسات ذات قوانين مستقلة وثابتة)، فرد حر يمتلك ذاته، مؤسسات تمثيلية، وهي أمور ثلاثة نفتقدها في سوريا إلى حد كبير، ويتوجب بناؤها، وأولها الدولة.
هناك قضية مهمة ينبغي التعامل معها بموضوعية، بمعنى الإقرار بها كحالة قائمة بغض النظر عن الموقف منها، وهي حالة الانقسامات في المجتمع السوري، الذي تذرر بكل ما تعنيه الكلمة نتيجة لعوامل عديدة، أهمها القمع الإبادي المفرط الذي مارسه النظام، وثانيه التدخلات الدولية والتصارعات على سورية طوال أكثر من عشرة أعوام، بما شجعت على الخندقات الأيديولوجية والإثنية والمذهبية، حيث يتوجب علينا الإقرار بوجود تصارعات إثنية وطائفية ودينية، وما يترتب على ذلك من أشكال صراع واقتتال ممكنة، خاصة مع انتشار السلاح وعدم تمكن الدولة بجمع السلاح وحصره حتى الآن بيدها، وهذه الوقائع لا يلغيها مجرد الإعلان عن الدعوة إلى دولة المواطنة، فتلك نتاج عمل تاريخي طويل، وبالتالي تكون العملية الديمقراطية كوسيلة لإدارة الحياة بما تحويه من صراعات ومعارك بطريقة سلمية ضرورة لا تقل عن ضرورة متابعة الدولة بعملية جمع السلاح وحصره تحت إدارتها.
يتطلب بناء الدولة عملاً طويلاً وشاقاً، لكنه ينطلق ويرتكز إلى أمور أساسية: السيطرة على الجغرافيا المقصودة، وبناء مؤسسات (تشريعية، تنفيذية، قضائية) مستقلة عن بعضها وتتكامل في تسيير أعمالها من دون طغيان لواحدة على أخرى، وقانون واحد في عموم هذه الجغرافيا، وقوة لتنفيذ القانون هذا، ورضا وقبول من الجمهور لهذه القوانين. بالطبع فهي مهمة شاقة وتاريخية حتى تصل لصورة الدولة -الحلم التي يكثر الحديث عنها، لكن هذا لا يمنع، بل يتطلب بين ما يطلبه هو التشارك في العمل، وعدم حصر القرار بفريق من أي لون كان مهما كانت ميزاته، وفتح المجال أمام المشاركة الواسعة من خلال التجمعات والكيانات السياسية، والتحفيز لتأسيسها بحال عدم وجودها، وهذا يتطلب إعلان (قبل إصدار قوانين تأسيس الأحزاب والجمعيات) يكفل حق الجميع بالتجمع والمناقشة وإبداء الآراء وتأسيس الكيانات السياسية بكل حرية ضمن شرط وطني فقط، وتجريم الاعتقال السياسي (لا يجوز اعتقال أي شخص لمجرد رأي بشكل سلمي وغير عنيف).
من طبيعة السلطة، أياً كانت التغول تجاه المجال العمومي والهيمنة عليه، وما يحد أو يكبح هذا التغول هو فعالية المجال السياسي بتجمعاته وأحزابه وشخصياته، وبالتالي من الضروري على السوريين الانتقال نحو فعل تشاركي في عملية البناء هذه، بناء الدولة، والتخلي عن قاعدة “أننا لا يمكن أن نغير شيئاً، أو شو طالع بإيدنا” التي ساعدت على إدامة الاستبداد والانتقال للفعل، فالحقوق تحصل، وأهم وسيلة للتحصيل هي السياسة كإحدى صيغ الحرب، لكن بوسائل سلمية، فلننفض غبار الابتعاد عن القضايا العامة، ولنبدأ، واللحظة حاسمة ومتاحة، ينبغي ألا نضيعها، وألا نسمح بالعودة إلى الوراء.
- تلفزيون سوريا