لا شيء يحدث في سوريا دون تعقيدات وتناقضات. تشكيل مجلس السويداء العسكري كان خطوة متوقعة، في ظل الفراغ الأمني والانهيار العام، لكنه سرعان ما أثار أسئلة أوسع حول هوية المشروع السياسي الذي يسعى المجلس لتمثيله، مع إعلان مجموعة عسكرية داخله عن نفسها تحت اسم “قوات النبي شعيب”. كيف يمكن لفصيل يطرح نفسه كجزء من مشروع وطني ديمقراطي، أن يتبنى اسماً ذا حمولة دينية؟ هل كان هذا الاختيار مجرد استجابة لحسابات محلية، أم أنه يعكس سقفاً سياسياً يصعب كسره؟
في بيئة يغلب عليها طابع الانتماء المحلي والتقاليد العشائرية، يصبح الاسم أكثر من مجرد عنوان رمزي. قد يكون استدعاء رمز ديني أداةً لحشد القاعدة الشعبية، لكنه أيضاً قد يكرّس الانغلاق داخل هوية طائفية ضيقة، ما يضع المجلس في معادلة معقدة: هل يمكن له تقديم نفسه كمشروع وطني يتجاوز الطوائف، وهو يرسّخ عبر لغته العسكرية الإطار نفسه الذي يسعى للخروج منه؟
في مناطق النزاع، يفرض السلاح منطقه، لكن في السويداء المعادلة مختلفة. لا يمكن لأي كيان عسكري أن يفرض وجوده ما لم يكن محاطاً بغطاء مجتمعي يبرر شرعيته. أي مشروع سياسي لا يمتلك هذه الشرعية الشعبية، سيفقد تأثيره قبل أن يبدأ. لذلك، فإن السؤال الأهم ليس فقط لماذا اختارت مجموعة داخل المجلس هذا الاسم، وإنما كيف سيتعامل المجلس ككل مع تداعياته؟ هل سيتم اعتباره مجرد غطاء تكتيكي لاستخدام رمزية دينية محلية لحشد الدعم، أم أنه يعكس انغلاقاً يصعب تجاوزه مستقبلاً؟ المعضلة هنا تكمن في أن الاسم لا يمكن فصله عن السياق الذي أنتجه. في ظل انهيار الدولة المركزية، تلجأ التشكيلات العسكرية إلى الرموز المحلية لإثبات شرعيتها. ولكن في سوريا، حيث الهوية الوطنية تعرضت لهزات عنيفة، أي اختيار يحمل معنى دينيا يصبح سلاحاً يُستخدم لتكريس الانقسام، سواء عن قصد أو من دونه. سواء جاء الاسم بحسابات محلية أم لا، فإن السلطة الجديدة لن تفوّت الفرصة لاستغلاله، لترسيخ صورة السويداء ككيان مذهبي منفصل عن السياق الوطني العام. أي كيان عسكري لا يندرج تحت جناحها هو مشروع “متمرد”، وأي حراك سياسي لا يبايع قيادتها، هو خطر يجب “ضبطه أمنياً”. الرهان هنا واضح: تحويل السويداء من طرف فاعل في المعادلة السورية إلى “مشكلة خاصة” يتم التعامل معها كملف أمني، لا كجزء من مستقبل البلاد. من جهة أخرى، القوى الإسلامية الرديفة للسلطة، والتي تقدّم نفسها كحامل للمشروع الجديد، ستوظّف الاسم لتعزيز سرديتها عن الدروز كطائفة ترفض الاندماج، ما يعزز عقلية الإقصاء، بدل استيعاب التعددية. وهكذا، تجد السويداء نفسها محاصرة بين خطابين متناقضين في الشكل، متطابقين في الجوهر، كلاهما يسعى إلى تكريسها كاستثناء، لا كجزء من الحل الوطني.
إذا كان هناك من يراهن على مشروع وطني حقيقي، فليبدأ أولاً من تفكيك البنى المغلقة، لأن الثورة على الاستبداد لا تُبنى بمنطقه، والمطالبة بالدولة المدنية لا تستقيم مع أدوات الطوائف، والمواطنة لا يمكن أن تكون انتقائية
السؤال المطروح هنا: هل “المجلس العسكري في السويداء” قادر على تفادي هذه الفخاخ السياسية، أم أنه سيجد نفسه مع الوقت مجرد كيان محلي محصور في إطار مذهبي، غير قادر على التحول إلى مشروع وطني؟ المعضلة الحقيقية ليست في اسم مجموعة واحدة داخل المجلس، بل في كيفية تقديم المشروع ككل. هل سيتمكن المجلس العسكري من فرض نفسه كقوة سياسية وعسكرية ذات امتداد وطني، أم أنه سيتحول تدريجياً إلى مجرد كيان محدود الفعالية، حبيس الجغرافيا الطائفية؟ ما يحدث الآن ليس مجرد خلاف على الاسم، بل هو اختبار حقيقي لقدرة السويداء على تقديم مشروع يتجاوز الهويات الضيقة. فالتاريخ السوري الحديث مليء بالمشاريع التي بدأت برؤية وطنية، لكنها انتهت كأدوات ضمن لعبة القوى الإقليمية، أو ككيانات منعزلة غير قادرة على تحقيق الاستقلال السياسي عن المظلة الطائفية التي وُلدت داخلها.
في سوريا، لا شيء محايدا، لا الأسماء، ولا الشعارات، ولا الرموز. في بلد دفع ثمن الطائفية لعقود، يصبح اختيار أي مرجعية دينية، ولو رمزية، فعلاً سياسياً يحمل رسائل للداخل والخارج. السويداء، التي رفضت أن تكون جزءاً من لعبة الاستقطاب الطائفي، لا تحتاج إلى إعادة إنتاج الأخطاء نفسها، بل إلى مشروع يتجاوزها تماماً، يبدأ من الخطاب، من الأسماء، من اللغة السياسية. إذا كان هناك من يراهن على مشروع وطني حقيقي، فليبدأ أولاً من تفكيك البنى المغلقة، لأن الثورة على الاستبداد لا تُبنى بمنطقه، والمطالبة بالدولة المدنية لا تستقيم مع أدوات الطوائف، والمواطنة لا يمكن أن تكون انتقائية. فإما مشروع يتجاوز الهويات الضيقة، أو إعادة إنتاج للفشل بشعارات مختلفة.
كاتب سوري
- القدس العربي