في وسع سياسيّ إيراني مثل علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الأعلى علي خامنئي، عصابيّ الولاء لسادته ورؤسائه آيات الله على اختلاف مراتبهم، أن يتغنى دائماً بقصيدة أدونيس الشهيرة «تحية لثورة إيران» والتي تقول بعض سطورها:
«شعب إيران يكتب للغرب:
وجهك يا غرب ينهار
وجهك يا غرب مات»؛
فلا يُلام ولايتي إذا واصل اجترار القصيدة، نصّاً وروحية، أياً كانت متغيرات أدونيس من الثورة الإسلامية. المفاجأة، في المقابل، يمكن أن تذهب بالسطور الأدونيسية ذاتها، افتراضياً بادئ ذي بدء ثمّ عملياً في نهاية المطاف، إلى متغنٍّ آخر يصعب أن يخطر على بال للوهلة الأولى: جيمس دافيد فانس، نائب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب!
ففي أواسط شباط (فبراير) الماضي، وأمام مؤتمر ميونخ للأمن، ألقى فانس خطبة يصحّ حقاً استئذان الفصحى لتوصيفها بـ«العصماء» في توبيخ الديمقراطيات الأوروبية، جمعاء وبلا استثناء. البُعد الثاني، الجدير بالإفراد أيضاً، هو نبرة الأستذة والتلقين والتعليم حول أصول الممارسة الديمقراطية، ونقائض ونواقص تلك الأصول كما تُمارس في أوروبا الراهنة. ولعلّ المبالغة ليست أوّل الطعون ضدّ خلاصة تقول إنّ جوهر تلك الخطبة العصماء كان الحكم على الديمقراطية الأوروبية بأنها ضعيفة أوّلاً، ثمّ تقريع الديمقراطيين الأوروبيين التلامذة: ألم نتعلم أيّ درس؟
فانس هو صوت سيّده ترامب بالطبع، وإنْ كان أكثر من الأخير قدرة على السفسطة (أي: ألعاب الحواة المعهودة عند زاعم محتد إنتلجنسي، انتهج ديماغوجية معلَنة)؛ وكان تقريع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض بمثابة فصل في عروض ترامب/ فانس لتسخيف أوروبا ونُظُمها السياسية والعسكرية. وهو إنما يستعيد بعض مقاربات ترامب إزاء أوروبا والحلف الأطلسي، التي تجلت فعلياً خلال رئاسة ترامب الأولى، ويُعاد إنتاج بعضها اليوم ضمن جرعات أعلى من التمترس اليانكي خلف شطآن المحيط، على حساب ماضي الانفتاح نحو «شركاء القِيَم» في لندن وبرلين وباريس وروما؛ وعلى نيّة اتقاء القوى الصينية، التكنولوجية والتجارية خصوصاً، عن طريق تحييد روسيا فلاديمير بوتين…
في تلك الحقبة، غير البعيدة زمنياً لأنها ترتدّ إلى سنة 2018، لم تكن سياسات ترامب إزاء أوروبا والأطلسي خارجة عن مقاربته المركزية الناظمة في كلّ خيار أو قرار عملياً، أي وضع الـ«بزنس» قبل أيّ اعتبار، وفوقه؛ وهي ليست مختلفة اليوم، إلا في أنها ازدادت شراسة بالمعنى الاستثماري المجرّد للأعمال والأموال، ودليلها الرسوم الجمركية (ولا استثناء للجارتين كندا والمكسيك) في ملفّ أوّل، والاستحواذ على معادن أوكرانيا الثمينة (وقبلها الطمع في عائدات الحجّ إلى مكّة!) في ملفّ ثانٍ. الأطلسي، من جانبه، ظلّ أسير مفردات الحرب الباردة واستنساخ «النمور الورقية» في التعبير الصيني الشهير، ضمن ركيزة أولى مهيمنة؛ والعجز عن الملاءمة بين عقلية ترامب التجارية الاستثمارية، وبين الحاجة إلى الغطاء الأمني والعسكري الأمريكي والمظلة النووية تحديداً.
ومن الإنصاف التذكير بأنّ علاقات واشنطن مع أوروبا تحت اشتراط الـ«بزنس» ليست مقتصرة على ترامب، ولم تكن من ابتداعه؛ إذْ يسجّل التاريخ القريب أنّ الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون كان حاسماً وجازماً خلال الاحتفالات في العاصمة الهولندية لاهاي بالذكرى الخمسين لإطلاق «مشروع مارشال» الشهير، فذكّر «شركاء القيم» الأوروبيين أنفسهم بأنّ أفضال الولايات المتحدة على القارّة لا تُترجم بعبارات الامتنان وحدها، بل بردّ الجميل اقتصادياً وتجارياً وتكنولوجياً وجيو ــ سياسياً.
لم تكن سياسات ترامب إزاء أوروبا والأطلسي خارجة عن مقاربته المركزية الناظمة في كلّ خيار أو قرار عملياً، أي وضع الـ«بزنس» قبل أيّ اعتبار، وفوقه
الأوضح عبارة، كالعادة في تلك الأيام، كانت وزيرة خارجيته مادلين ألبرايت: «ما لم تنتسب الديمقراطيات الجديدة في أوروبا الشرقية إلى النظام، فإن الشراكة الأطلسية في التجارة والأمن لا يمكن أن تتمّ». وهذا يعني أنه من غير الجائز (وبالتالي غير المسموح أصلاً) أن تزدهر القارّة العجوز اقتصادياً أكثر من ازدهار شقيقتها الولايات المتحدة؛ فكيف إذا كانت تعتزم تقوية شوكتها العسكرية بمعزل عن واشنطن، أو حتى على حسابها!
لكنّ خطبة فانس التوبيخية في ميونخ تركت لسيّده الرئيس شؤون الاقتصاد والأمن وتخوين الاتحاد الأوروبي وتقريع زيلينسكي وإعادة تدوير بوتين، واختصّ هو بتذكير الشركاء حول أبجديات الديمقراطية، وحقوق صندوق الاقتراع، وحصانة الانتخابات، وقدسية حرية التعبير، ثمّ الاحتذاء بأمريكا كما يديرها اليوم شرطي جديد وحيد يُدعى دونالد ترامب. هواة النوع، وخاصة أولئك الذين يستمتعون بتلك النصوص الغوغائية التي تٌبطن الباطل تحت أغلفة هذا الحقّ أو ذاك، يُنصحون بقراءة الخطبة العصماء تلك، وقد يكون الأفضل متابعتها مسموعة مرئية لحيازة مقدار أوفر من علامات الصوت ودلالات لغة الجسد.
«نؤمن أنه من المهمّ خلال السنوات المقبلة أن تنهض أوروبا بطريقة كبرى لضمان أمنها الخاص، لأنّ التهديد الذي يقلقني بصدد أوروبا ليس روسيا، وليس الصين، وليس أيّ عامل آخر خارجي. ما يقلقني هو التهديد من الداخل، وتراجع أوروبا عن بعض قيمها الجوهرية، وهي القيم التي تشترك فيها مع الولايات المتحدة الأمريكية»؛ قال فانس، قبل أن ينخرط في تعداد أنماط التراجع الأوروبي عن قيم مثلى: مصادرة حرية الرأي (عند أحزاب اليمين المتطرف) إلغاء انتخابات رئاسية عن طريق محاكم عليا (في رومانيا، حيث الانتهاكات شتى، والمرشح الفائز لا يخفي الولاء لموسكو) وتحوّل هذا المفوّض الأوروبي أو ذاك إلى «قوميسير» على الطريقة الستالينية، وفتح أبواب اللجوء على مصاريعها، وإدانة مواطن سويدي مسيحي لأنه مارس حرية التعبير وأحرق نسخة من القرآن، ومنع هذه المؤمنة أو ذاك المؤمن من الوقوف أمام مستوصف تُجرى فيه عمليات إجهاض والصلاة من أجل راحة نفس الجنين…
التلفيق ليس غائباً عن لائحة الاتهام هذه، كما في حقيقة أنّ الصلاة ذاتها لم تُمنع، بل جرى في بريطانيا فرض منطقة عازلة أمام مستوصف الإجهاض لأسباب أمنية تخصّ حساسيات التجمهر، والمواطن السويدي أحرق القرآن بالفعل ولكن تحت حماية الشرطة، وإلغاء الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية في رومانيا تمّ بقرار من المحكمة الدستورية بعد تقارير استخباراتية ملموسة تفيد بتمتّع المرشح الفائز كالين جورجيسكو بمساندة غير مباشرة من الاستخبارات الروسية وأنه رفض المشاركة في كلّ المناظرات قبل الانتخابات، ولم يصرف أيّ يورو على حملته… كلّ هذه، وسواها، يسردها من نائب لرئيس أمريكي بدأ ولايته الثانية بالعفو عن أكثر من 1.500 متهم بجرائم اجتياح مبنى الكابيتول يوم 6 كانون الثاني (يناير) 2021.
وليس غائباً تزييف التاريخ أيضاً، على هذا النحو الذي يمزج التبسيط المخلّ بالغوغائية الشعبوية: «الحرب الباردة وضعت المدافعين عن الديمقراطية ضدّ قوى أكثر طغياناً في هذه القارّة، ممّن فرضوا الرقابة على المنشقين، وأغلقوا الكنائس، وألغوا الانتخابات. وهؤلاء خسروا لأنهم لم يثمنوا ولم يحترموا نِعَم التحرر الرائعة، والحرّية في المفاجأة، وارتكاب الأخطاء، والابتكار، والبناء». وفانس لا يسوق هذا المشهد المختلق، في كثير أو قليل، إلا لكي يعيب على الشقيقات الأوروبيات: «ومن سوء الحظّ أنني، إذ أنظر إلى أوروبا اليوم، لا يبدو لي واضحاً بما يكفي ما الذي حدث لبعض المنتصرين في الحرب الباردة».
إنهم دول غنية ومزدهرة، ولكنهم لا يدفعون فواتيرهم للأطلسي، ولأمريكا استطراداً أو حتى أوّلاً؛ كانت تلك رسالة ترامب في سنة 2018، وهي اليوم ذاتها بعد أن زاد عليها وصم الاتحاد الأوروبي بالخيانة، وأنه إنما أُنشئ كي يُضعف الولايات المتحدة. أين وجهك يا غرب، إذن، كي يعود المرء إلى أدونيس، وهل يعلن ترامب تشييعه إلى مثوى أخير؟
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
- القدس العربي