لا يكتفي نتنياهو حتى اللحظة بكل الوقائع السياسية والعسكرية التي فرضتها الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، ويمتد بطموحاته لتهديد أمن سوريا أو الأردن ومصر، فهو يحمل مشروعاً تاريخياً يشتمل على فرض هيمنة شاملة على قرار الشرق الأوسط بتوصيف نفسه “بن غوريون 2” والذي تسعى فيه إسرائيل لتكون الدولة الأكثر تفوقاً وتقدماً على إيران من جهة، وعلى تركيا والعرب من جهة أخرى، وخاصة في ظل التقدم التركي اللافت في مجالات متعددة عسكرية وسياسية، وما يطمح له نتنياهو اليوم هو وراثة الدور الأميركي إذا ما قرر ترمب تخفيف حضور واشنطن والاهتمام بالمد الصيني واستيعاب روسيا.
وهذا الحلم الإسرائيلي يتجلى اليوم باستمرار نتنياهو بابتزاز الوسطاء في وقف إطلاق النار في غزة عبر محاولات فرض التمديد للمرحلة الأولى ودفع الإدارة الأميركية لمفاوضة حماس مباشرة، تحت ضغط التهديد بتهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة والضفة الغربية وإجهاض حلم بناء دولة فلسطينية على حدود 67.
ما تعمل له إسرائيل في الواقع هو خلق منطقة سيطرة لها تصل حتى مشارف دمشق. وهي من خلال تثبيت المنطقة ذات الأغلبية الدرزية في الجنوب تريد توفير الدعم اللازم لتثبيت المنطقة الكردية في الشمال.
وفي لبنان يستمر نتنياهو في تأكيد أنه لن ينسحب من النقاط التي يحتلها في جنوبي لبنان وتحديداً النقاط المشرفة على جنوب نهر الليطاني، لفرض مسار تفاوضي على الحكومة اللبنانية الجديدة من جهة وخلق تحديات داخلية لبنانية في مواجهة حزب الله، والذي يصر حتى اللحظة على عدم النقاش بملف السلاح في شمال الليطاني، متسلحاً بالشرعية الشعبية التي منحت له في تشييع حسن نصرالله.
أما وفي سوريا يعلن الإسرائيليون بوضوح عن دعمهم لمكونات دون أخرى، درزية من جهة وكردية من جهة أخرى، في إطار مشروع تقسيم سوريا الى دويلات طائفية ومذهبية، وتمزيق الجغرافيا السورية مع تسجيل اختراقات متعددة في الجغرافيا بعد احتلال جبل الشيخ المشرف على دول المنطقة.
وليس من باب المصادفة أن تفرد القناة 13 الإسرائيلية ساعتين لنقاش تطورات الملف السوري لمحللها العسكري، والذي ذهب بعيداً باعتبار أن هنالك في لبنان من يراهن على تصدير أسلحة لحزب الله وحماس عبر سوريا بطرق مختلفة، باعتبار أن التهريب مهنة قديمة وشائعة لها عصاباتها وتمتهنها عشائر وعائلات موجودة عند الحدود. والأوضاع في سوريا لا تزال غير مضبوطة.
وكان لافتاً ما قاله المحلل العسكري الإسرائيلي باعتباره أن وجود مجموعات سورية متعددة وغير منسجمة في كثير من الأحيان. ومن بينها مجموعات إسلامية هي متأثرة بخطاب وفكر حركة حماس قد تساعد على نقل أسلحة للحزب في المستقبل، واعتبار قيام ضباط سابقين في جيش الأسد ببيع بعض المعدات والأسلحة والذخائر بعد سقوط النظام لقاء بدل مادي والمساعدة في تهريبها إلى البقاع هو أحد مؤشرات فلتان الحدود. وجاء استهداف الطائرات الإسرائيلية لمسؤول في قوة الرضوان في حزب الله لتعزز هذه الرواية الإسرائيلية.
على أي حال، ومن دون الحاجة إلى تبرير، نفذ الإسرائيليون حتى اليوم خطوات متسارعة في سوريا، بعد سقوط نظام الأسد. فبعدما ضربوا كل المقدرات العسكرية للسلطة على امتداد الأراضي السورية، أمسكوا بقمم جبل الشيخ، ووسعوا المنطقة العازلة، وفرضوا نفوذهم حتى مشارف ريف دمشق، ومنعوا السلطة من تجاوز خط دمشق جنوباً. ثم بدأوا يسهلون إدخال أبناء القرى الدرزية إلى إسرائيل للعمل، وتم إغراؤهم برواتب عالية. ونصبت حكومة نتنياهو نفسها حامية للأقلية الدرزية أولاً والكردية ثانياً.
ما تعمل له إسرائيل في الواقع هو خلق منطقة سيطرة لها تصل حتى مشارف دمشق. وهي من خلال تثبيت المنطقة ذات الأغلبية الدرزية في الجنوب تريد توفير الدعم اللازم لتثبيت المنطقة الكردية في الشمال، على أن يتم الربط بينهما بمعبر ضيق يحاذي الحدود السورية- العراقية، يطلق عليه الإسرائيليون اسم “ممر داود”. وبهذا الوضع سيكون الإسرائيليون قد أحكموا حصارهم غرباً على سوريا وشرقاً على العراق ولامسوا حدود تركيا.
إن حزب الله وبيئته تبدو مشتتة جغرافياً بين الجنوب وخط تماسه مع إسرائيل، والبقاع الشمالي وخط تماسه الجديد مع القوات السورية المتنازع معها عقائدياً.
ولكن، حتى الآن، ليس واضحاً اتجاه الحدث الكردي، بعد الدعوة التي وجهها عبد الله أوجلان قبل أيام، من سجنه التركي، إلى رجاله لكي يرموا السلاح. فالأمر هناك ربما يتعلق أيضاً بمقايضات يعقدها الأميركيون مع تركيا، تماماً كما أن مصير المنطقة العلوية مرهون بالمقايضة بين ترمب وبوتين، ما قد يسمح لهم بالحفاظ على القاعدتين العسكريتين في الساحل، لكن ما يبدو محسوماً في سوريا هو أن المحافظات الجنوبية الثلاث، درعا والقنيطرة والسويداء، باتت أكثر فأكثر تحت سيطرة إسرائيل الحصرية، ووسط صمت إقليمي وعربي، وتواطئ أميركي واضح المعالم.
من هنا يمكن فهم أسباب عودة حزب الله بشكل مطرد للحديث عن سوريا والدخول الإسرائيلي المستمر فيها، وهو يبرر تمسكه بالسلاح والعودة الأمنية وإعادة ترتيب تنظيمه العسكري السري على طريقة التسعينيات، اعتباراً أن ما يجري في سوريا يشي بالذهاب إلى مشروع تفتيت سوريا إلى كيانات طائفية وفق تقدير الحزب وإيران.
وهو ما يعني استعادة النظريات السابقة والتي تحدثت عن إلغاء حقبة حدود “سايكس بيكو” لمصلحة دويلات طائفية صغيرة متناحرة ومعدمة اقتصادياً. وفي حال صحت هذه المخاوف، فهذا سيعني أنها ستصيب الجغرافيا اللبنانية أيضاً، وخاصة مع تصاعد الخطاب اليميني المسيحي اللبناني الداعي للتقسيم، على اعتبار أن لبنان ولأول مرة ضم في حكومته أحد الوزراء الداعين للفدرالية والتي تعاكس طبيعة اتفاق الطائف.
لذا فإن حزب الله وبيئته تبدو مشتتة جغرافياً بين الجنوب وخط تماسه مع إسرائيل، والبقاع الشمالي وخط تماسه الجديد مع القوات السورية المتنازع معها عقائدياً. وفي هذه الحالة سيفكر في طريقة التواصل مع عمقه في الساحل السوري وحمص.
- تلفزيون سوريا