ما زالت تهدد الكيان السوري المحطم جملة من التحديات، فالمسار الصعب نحو نجاة البلاد وأهلها، يتطلب جهداً أبعد من الخُطب الإنشائية، ومشاعر التفاؤل والتشاؤم، التي تجري الإحالة إليها من خارج الوقائع العيانية والسياسية.
فالمجتمع الذي لم يتعافَ من صراعاته النازفة بعد، يمكن للعنف أن يواصل جولاته فيه، وينفجر بطابعه الأهلي المعلوم في سوريا ومحيطها الإقليمي، على وقع أزمة اقتصادية تهدد حرفياً بالمجاعة، وغياب الأمن وتواتر الانتهاكات، وعدم وضوح إجراءات العدالة الانتقالية أو بناء الثقة. من هنا تأتي الحاجة إلى تعزيز دور السياسة، بما هي أداة للتعبير عن مصالح فئات متنوعة في المجتمع، وتوسيع المشاركة الشعبية في اتخاذ قرارات تمسُّ مستقبل بلدٍ مدمر، ليس على صعيد مؤسسات دولته وبنيته التحتية فحسب، بل على صعيد بناه الاجتماعية وروابط السياسة بين أفراده.
لكن والحال هذه، هل يمكن بناء الدولة على أنقاض نظام ديكتاتوري، كالذي عرفته سوريا، دون فضاء سياسي مفتوح، يتيح التعددية ويعزز المشاركة الفاعلة في النقاش واتخاذ القرارات؟ ولو سلّمنا جدلاً بأن الحرب انتهت، على ما يرغب الجميع، فهل يُعقل أن تدار المرحلة الانتقالية بعقلية فئوية؟ بينما يفترض أن يكون الهدف إعادة صياغة العلاقة بين المجتمع والسلطة على أسس جديدة، تقطع مع الاستبداد، وتنهي حكم الميليشيات. أليس تحييد الأحزاب والكيانات السياسية والنقابات، وتفضيل التعامل مع أفراد مقدمة جديدة لاحتكار السلطة؟ وتحويل السياسة إلى إدارة تقنية على يد منظمات مختصة، وخبراء مُلمَّعين يتقنون كتابة الوصفات الجاهزة بمعزل عن إرادة الناس.
الظاهر أن الواقع القائم حتى الآن هو عكس المطلوب، ففي بيانها بتاريخ 29 كانون الثاني/ يناير 2025 اتخذت فصائل إدارة العمليات العسكرية مجموعة من القرارات من ضمنها “حل حزب البعث العربي الاشتراكي، وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وما يتبع لهما من مؤسسات ومنظمات ولجان، ويحظر إعادة تشكيلها تحت أي اسم آخر، على أن تعود جميع أصولها للدولة السورية”. من المفهوم اتخاذ قرار بحل حزب البعث وجبهته الوطنية كواجهات للتركيبة الأمنية العسكرية الحاكمة سابقاً، مع العلم أن قيادة الحزب المليوني الذي “وحّد الأحرار والشعب العظيم” على ما يقول نشيده الرسمي، سبق لها تعليق عملها برسالة عبر تطبيق واتساب وصلت لقياداته. بيد أن المساواة التامة بين البعث والأحزاب الملتحقة بجبهته تستحق النقاش أكثر، فرغم صمتها المخزي عن الجريمة، إلا أن هذه الأحزاب يجب أن تُساءل وتخضع للتدقيق في امتيازاتها، وشبكات تمويلها، وفساد قياداتها المحتمل، ومحاكمة بعض رموزها، فيما يتعلق بارتباطاتهم الأمنية، وتشكيل ميليشيات تورطت في انتهاكات، لذا كان من الأفضل أن تشمل البعث وأحزاب الجبهة عملية تحقيق ومحاكمات واضحة، فليست كل هذه الأحزاب على السوية نفسها والسلوك والتأثير.
من ناحية أخرى، يجب عدم التغاضي عن منعها من تشكيل نفسها تحت أي مسمى كما يشير القرار، خشية أن يتمدد المنع والحل بعدها ليشمل أحزاب وتجمعات متعددة في تدرجاتها داخل الخريطة السياسية السورية، وصولاً إلى أحزاب معارضة ولها تاريخها في مواجهة الاستبداد. ولو واصلنا البند السادس سابق الذكر من بيان الفصائل مع البند السابع، الذي يقول: “استكمالاً لنضالها وتعزيزاً لدورها في بناء الدولة السورية الجديدة، تحل جميع الفصائل العسكرية والأجسام الثورية السياسية والمدنية وتدمج في مؤسسات الدولة” إذا اعتبرنا أن الفصائل التي سيطرت على السلطة بعد سقوط النظام من الطبيعي أن تسعى للاندماج والعمل المشترك، فما معنى حل جميع الأجسام الثورية السياسية والمدنية ودمجها في مؤسسات الدولة، هل هذا يعني أن جميع التجمعات والأحزاب التي تشكلت في سوريا قبل إسقاط النظام، أو بعده بقليل مستغلة هامش الحرية البسيط، الذي أتيح في البلاد تعتبر منحلة وممنوعة من العمل السياسي؟ وكيف يمكن لأحزاب أو تجمعات الاندماج في الدولة أصلاً على ما يشير القرار، إذ ليس من مهمة الأحزاب ولا الدولة أن يندمجا معاً بالأساس.
هل يمكن بناء الدولة على أنقاض نظام ديكتاتوري، كالذي عرفته سوريا، دون فضاء سياسي مفتوح، يتيح التعددية ويعزز المشاركة الفاعلة في النقاش واتخاذ القرارات؟
مرّ هذان البندان في زحمة الأحداث السورية ولم يثيرا ما يستحقانه من نقاش وتخوفات، ذاك أن بيان النصر وصل للناس عبر تلغرام، وتبعه في اليوم التالي خطاب لتخفيف حالة الاستياء، ثم بدأت فعاليات الحوار الوطني الأسرع بتاريخ الدول، بعدما تم تخفيض رتبته من مؤتمر تأسيسي دائم الانعقاد، يخرج بقرارات تتعلق بالدستور، ونظام الحكم، وطبيعة علاقة السلطات ببعضها، وعلاقتها بالمجتمع، إلى مؤتمر حوار بتوصيات غير ملزمة، افتقد التحضير له معايير الشفافية والوضوح، وانتهى ببيان تبدو بنوده الـ18 وقد أعدت بمعزل عن نقاش اللجان، وجهد أصحاب النوايا الطيبة والجادة من المدعوين والمدعوات.
يتوازى ما سبق مع تجاهل أي صيغة تشاركية جدية، فمع تصاعد أزمة تسريح العمال، تجري عمليات تعيين لمجالس النقابات المهنية من الأعلى، رغم أن بعض الجدية في العلاقة مع النقابات والتجمعات المهنية، تتيح للسلطة قنوات تواصل مع فئات اجتماعية متضررة، وتسمح بتخفيف الاحتقان الاجتماعي الحاصل، والذي يهدد بالانفجار. وعلى المنوال نفسه يمكن التعاطي مع المجالس المحلية في المدن والبلدات، فهذا على الأقل يضمن تواصلاً مع فئات تمثيلية لمجتمعاتها، وهو بالتأكيد أفضل من سياسة الأعيان والمكونات التي يجري اعتمادها، والتي تؤسس إلى شبكات زبائنية جديدة ومحسوبيات ووساطات.
في المقابل لا تحبذ السلطة القائمة العمل مع السياسيين والأحزاب، فالواضح تبنّي الفهم التقني للسياسة، بما يكتنف هذا الفهم من إضعاف للديمقراطية الغائبة أصلاً عن كل بياناتها وخطاباتها، ويتجاهل الديناميكيات الأيديولوجية والاجتماعية التي تدفع المجتمعات اتجاه التغيير السياسي، في سياق هذا الفهم، تطفو مصطلحات مثل الحوكمة، والخصخصة، والخبراء، واللجان، وأوراق السياسات، وكأنها بدائل العمل السياسي الفعلي، وأفضل من يقدم العروض فيها هم أفراد يقدمون بوصفهم “خبراء” دون هويات سياسية، يضاف إليهم منظمات مختصة، كسبت السلطة دستةً منها بعد سقوط النظام، وجرى اختزال المجتمع المدني فيها بصيغة مشوشة، لا تعني أكثر من منظمات غير حكومية تغطي على الفراغ السياسي، ولا يمكنها ملؤه، فهذه بالأساس هياكل غير ديمقراطية وغير منتخبة، ولا تخضع للمحاسبة السياسية أو الامتثال لقواعد العمل السياسي، في خلط واضح للمصالح، ولذلك بعض هذه الهياكل كان مطواعاً إلى جانب النظام السابق، ضمن مشروع الأمانة السورية للتنمية مثلاً.
في هذا السياق، لا يمكن الاستغناء عن السياسة اليوم في مجتمع سوريا المدمر، بما هي عملية تفتح باب التشاركية لأوسع الفئات الاجتماعية، بهدف طرح المشكلات صراحة، واستنباط حلول لها على طريق الخروج من حالة الحرب المديدة وتركتها، ووقف التهديدات الخارجية، غير أن الواضح إلى الآن هو الاكتفاء بترحيل الأزمات إلى وقت لاحق، ما يعني تعميقها وقابليتها الدائمة للانفجار.
كاتب وصحافي سوري
- القدس العربي