-
-
لكن كيف يشرق صباح اليوم التالي للمجزرة؟
بصياغات بنوده العريضة، وتاريخيته التي لا تُنكر، لا يكاد نصّ اتفاق الشرع – عبدي يُجيب على أيّ تساؤلٍ عملي حول مستقبل المسألة الكردية في سوريا. هو إعلانٌ رسميٌّ لنوايا ستحتاج إلى الكثير من الوقت والتفاصيل لكي تتوضّح في صياغاتٍ وسياسات واقعيّة؛ وتقبع خلف هذه النوايا المُعلنة توافقاتٌ إقليمية ودولية ستحتاج هي الأخرى وقتاً لكي يتوضّح أثرها على مجمل الوضع السوري، والعين دوماً نحو الأفق الغربي حيث واشنطن وعقوباتها. لكن لماذا وُقِّع الاتفاق يوم الإثنين تحديداً، مع كل ما جرى في الأيام الأربعة السابقة؟ لعلّ الإجابة على هذا السؤال ستكون آخر ما يتوضّح من تفاصيل هذا الاتفاق – الإطار. العريض. العريض جداً.
عريضٌ، أيضاً، هو السؤال عن مدى فاعلية اللجنة التي عيّنها الشرع للتحقيق في «أحداث الساحل»، وعن مدى قدرتها على إنجاز تحقيقٍ لائقٍ بحجم الهول الذي حصل خلال شهرٍ اعتباراً من يوم تشكيلها، وهو شهرٌ مضى منه يومان لم يُتمكّن حتى من إيقاف الانتهاكات خلالهما، عداك عن أن تباشر اللجنة أيّ عملٍ فعلي عدا الاجتماع بالرئيس بعد إعلان توقيعه الاتفاق مع مظلوم عبدي بحوالي ساعة. لربما تعتقد أوساط السلطة أن شهراً هو زمنٌ كافٍ لكي تمضي المجزرة وتذوب وسط تعقيدات سوريا التي يُؤمل أن تتخلّلها أخبارٌ جيدة، دبلوماسية أو اقتصادية. في سيرورة التسعين يوماً الماضية، وفي تجربة إدلب قبلها، ما يدعو حقيقةً للقلق حول جدّية ما سيخرج من هذا التحقيق.
لم يأخذ أحمد الشرع سلامةَ الإطار القانوني لحُكمه بجدّية، خصوصاً في ما يتعلّق بهيكلية وآليات الملاحقة والمحاسبة لأركان النظام السابق وبقايا أمنه وقوّاته. انطلق، كما علمنا من كلامه في العديد من المناسبات، من ترتيبات معركته الأخيرة والتسويات التي توصل إليها مع بعض رؤوس النظام البائد («طرائق النصر»، كما أسماها في خطاب «مؤتمر الحوار الوطني») ليمضي في مسارٍ غير واضح الشكل من التمشيطات والمداهمات في مناطق حمص وحماة والساحل، تخللتها الكثير من «التجاوزات الفردية»، دون وجود هيئة عدالةٍ انتقالية تضبط ملاحقات مجرمي النظام الأسدي، ودون مجلسٍ قضائيٍّ أعلى مؤقّت يضمن وجود قضاءٍ فاعلٍ ونزيهٍ وموثوق، ودون حتى قائمة مطلوبين علنية تُخرج الناسَ من حيرة إعلانات «دار أبي سفيان» لحظة التحرير، والتي أسست لضبابيةٍ لا مطلوبين واضحين فيها، ما يجعل أيّ عَلويٍّ مُتّهماً لحظة يريد أحد «المنتصرين».
وكل هذا وشادي الويسي وزيرٌ للعدل… وكلّ هذا حصل في سياق مسارٍ سياسي سِمته الأساسية قلة الاكتراث بسلامة الإجراءات وغياب الأطر الناظمة للانتقال السياسي. شغل الشرع القصر الجمهوري وهو «قائد» لأسابيع طويلة، قبل أن يُعلنه «مؤتمر النصر» المنقول تلغرامياً رئيساً للبلاد؛ مؤتمرٌ جلست فيه فصائل تمرّغت بالدم العَلوي المُراق في الساحل السوري طوال الأيام الماضية، وزَهَا عناصرها بجرائمهم، وتولّت قنواتها الرسمية وشبه الرسمية على تلغرام ووسائل التواصل مهمة نقل المجزرة بشكلٍ شبه آني. وتلا التنصيب العسكري مؤتمر «حوارٍ وطني» هزيل وأشبه بالغفلة، فقيرٌ بتمثيليّته، لا سيما عَلوياً ودرزياً وكردياً؛ سبقه عملُ لجنةٍ تحضيريةٍ ليتها لم تكن. وها نحن هنا، الآن، بانتظار إعلانٍ دستوري سُرّبت مواده بعد ساعةٍ من تعيين لجنته التحضيرية، وبانتظار حكومة.
الوضع في سوريا مُعقّد، والدولة مُنهارة، وتركةُ نظام الأسدين ثقيلةٌ بشكلٍ قاتل، ولعلّ غياب العنف الانتقامي المنفلت في الأشهر الثلاثة الماضية كان هو المعجزة، وما حصل الآن كان من شبه المُحال ألا يحصل ما يشابهه في لحظةٍ ما… لكن لا شكّ أن إطاراً قانونياً أفضل للوضع الراهن، بلجنة عدالةٍ انتقالية حقيقية وبمجلسٍ قضائيٍّ أعلى فاعل؛ وحواراً مجتمعياً وسياسياً أعمق وأشمل؛ وعمليةً سياسيةً أكثر احتراماً لعموم السوريين والسوريات وأعمق إدماجاً لهم-ن، كانت ستكون عوامل مُساعِدة لتعاملٍ أفضل مع ما جرى.
بإمكان الاتفاق مع قسد أن يكون مفصلاً تاريخياً بحق، وفيه بلا شك كمونُ أن يكون أعظم لحظةٍ في سوريا المعاصرة بعد سقوط نظام الأسد؛ وبإمكانه أيضاً أن يكون حبراً على ورق، نتذكّره بسخرية بعد حين ونحن نرى راجمات أبو عمشة عائدةً إلى تخوم سدّ تشرين وسط دندناتنا المُتحسّرة للأغنية إياها. شرط تاريخية الاتفاق هو أن يكون جزءاً من تحوّلٍ عميقٍ وحاسم في وِجهة «سوريا الجديدة»؛ تغييراً جذرياً في المسار ينبع من قناعةِ من يَحْكمون أنه تحريكٌ للدفّة لكي تكون لهم فرصةٌ في حكم هذا البلد. ولا تحوّلٌ عميقٌ ممكن دون التعامل مع ما حصل دون أي طمس: لقد أدّى هجومٌ حقيرٌ شنّته فلول قوّات الأسد إلى مقتل عددٍ كبيرٍ من قوات الأمن والمدنيين في الساحل، ما أُخِذ كذريعةٍ لانفلات فصائل ومجموعات مسلّحة عشوائية، تحت غطاء نُصرة القوى الأمنية المُستهدفة، لارتكاب مجزرة جينوسايدية الطابع بحق علويي الساحل السوري، بوصفهم علويين، ولأنهم علويون؛ مجزرة استمرّت أياماً عديدة وسط تقصيرٍ و/أو عجزٍ عن وقفها (دون الانتقاص من جهود عناصر كثُر من الأمن العام فعلوا كل ما بوسعهم لحماية مواطنيهم، ومنهم من قضى في كمائن فلول قوات الأسد ثمناً لذلك)، ووسط تأييدٍ فاشيِّ الطابع من أوساطٍ شعبية طائفية لا يُستهان بها. هذا واقعٌ لا يمضي بالتقادم. يوم المجزرة يبقى هو ذاته مهما تتالت الشموس والأقمار عليه. من المؤلم كم تعرف سوريا هذا الأمر.
من شأن كشف كل الحقائق، ومحاسبة كلّ الجناة، وتكريم كل الضحايا، أن يجعل يوم المجزرة يمضي، ولو ببطءٍ وكمد، نحو نهارٍ جديد. ولأن العلويين استُهدفوا وذُبحوا بوصفهم علويين، فعلى الدولة السورية، وعلى رأسها الشرع، أن تخاطبهم كعلويين، وأن تجبر خاطرهم كعلويين. لم يفعل الشرع ذلك في خطاباته التي بدتْ وكأنها استمرارٌ لإعطاء هذه الجماعة الأهلية بالذات ظهره. ربما يمكن حكمُ جموع إنكاريي المجزرة هكذا، ولكن الشرع يريد أكثر، يريد أن يحكم سوريا كلها، وأن يحكمها طويلاً.
-