لطالما كانت سوريا مسرحًا للصراعات الدولية والتجاذبات الإقليمية، حتى أصبح مصيرها اليوم لغزًا غامضًا يثير الجدل حول احتمالية تقسيمها. فمشروع تقسيم سوريا ليس وليد اللحظة، بل تعود جذوره إلى زمن الانتداب الفرنسي عام 1920، حين كانت فرنسا من أشد الدول اهتمامًا بهذا المشروع، طامحة إلى تحقيق مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
منذ اللحظة التي فرضت فيها فرنسا انتدابها على سوريا بموجب اتفاقية سايكس-بيكو عام 1916، سعت إلى تقسيم البلاد عبر إقامة خمس دويلات على أسس مناطقية وإثنية وطائفية، وهي: حلب، دمشق، جبل الدروز (السويداء حاليًا)، جبل العلويين (اللاذقية وطرطوس)، ودولة لبنان الكبير.
لم تكن هذه الخطوة مجرد تنظيم إداري، بل كانت محاولة لزرع نزعات الانفصال وبث الفرقة بين مكونات المجتمع السوري، وهو ما نعاني من ارتداداتها حتى يومنا هذا.
وفيما بعد، عملت فرنسا على إعادة تشكيل الخريطة السياسية لسوريا، فجمعت دول دمشق وحلب والعلويين عام 1923 تحت اسم “الاتحاد السوري” لتسهيل إدارتها والسيطرة عليها.
ثم أعلنت قيام “دولة سوريا” بين دمشق وحلب عام 1924، في حين أبقت على دولتي العلويين والدروز مستقلتين حتى عام 1936، قبل أن تعلن ضمهما إلى الدولة السورية الموحدة. وتعتبر هذه الفترة من أشد المراحل حساسية في تاريخ سوريا الحديث، حيث خلّفت آثارًا سوداوية طويلة الأمد على حساب التماسك الوطني.
عودة المشروع إلى الواجهة:
منذ عام 2011، عاد الحديث عن تقسيم سوريا بقوة. استغلت القوى الغربية ثورة الشعب السوري والمظالم المتراكمة للنظام المخلوع، لتوجيه دفة الأحداث وفق أجنداتها. وعلى مدار عقد من الصراع، غُرست أقدام ميليشيات مثل حزب الله، وتم استدراجها إلى الملعب السوري لمواجهة فصائل المعارضة السورية المسلحة، وجُنِّدت قوات كردية من تركيا وإيران وسوريا تحت مظلة حزب العمال الكردستاني لمحاربة تنظيم الدولة، ما فتح الباب أمام التنظيمات الإرهابية العالمية لتحويل الأراضي السورية إلى ساحة تصفية حسابات فيما بينها، وكل ذلك بإشراف دولي وإقليمي وبشكل مخطط ومنظم.
متى تبلور مشروع التقسيم مجددًا؟
بدأت شرارة حرب التقسيم في الساحل السوري، وتبين لاحقًا تورط إيران بشكل منظم وبعلم موسكو في محاولة لضمان نفوذها على المدى البعيد بعدما تأكدت أن الحيتان تتصارع على الجغرافيا السورية وتحاول كل دولة حجز موطئ قدم لها داخل المشهد. واتخذت من منطقة الساحل كقاعدة مستقبلية لها، راهنةً على فلول النظام المخلوع بعد خسارة مناطق نفوذها في المنطقة.
أما إسرائيل، فهي الحاضر الغائب في كل طبخة تحضر في سوريا. فقد دخلت اللعبة عبر بوابة “الدفاع عن حقوق الدروز”، مفتتحة أبواب التواصل بين دروز السويداء وإسرائيل، مستغلة طائفة لها امتداداتها في الجولان. تدعي تل أبيب أنها “تحمي أمنها” من خلال استهداف مواقع عسكرية، لكن مطامعها تتجاوز حدود هذه المحافظات. وتريد أن تذهب بهذا المشروع أبعد مما نتصوره.
واشنطن.. أين تقف من كل هذا؟
المخطط الأميركي في سوريا يعتمد على سياسة “الاختراق الناعم” (soft penetration) المستمدة من الإرث البريطاني. تبدو واشنطن وكأنها تبكي مع الراعي وتأكل مع الذئب.
يُعد اتفاق (الشرع – عبدي) إحدى أدواتها الغامضة، حيث لم تُعلن تفاصيله كاملة على الملأ، لكن المؤشرات تبدو وكأن الخطط المعدة تتجاوز حدود سوريا من حيث الطموح السياسي والعسكري، لكن من المؤكد أن النسخة الأساسية باتت في الكونغرس والبيت الأبيض ولا شك أنها قيد الدراسة والتحليل، بينما النسخة الإعلامية تضمنت عبارات وجملًا مضللة للرأي العام، وبالتالي أخفت الحقيقة عن الناس التي باتت اليوم حديث الجميع.
الموقف الروسي.. صفقات تحت الطاولة
الغموض في الموقف الروسي حيال التقلبات السياسية والعسكرية في سوريا يقودنا إلى سيناريو مفاده أن موسكو قبضت الثمن في أوكرانيا مقابل تخفيف حضورها وتأثيرها في الملف السوري.
ويبدو أن التحالفات السرية بين موسكو وواشنطن، وما رافقها من انسحاب أوكرانيا من إقليم كورسك، كلها إشارات إلى أن روسيا ضمنت مصالحها على حساب دورها في سوريا، ولهذا السبب لم تتدخل عسكريًا لدعم الانقلاب على الحكومة الجديدة انطلاقًا من الساحل.
من المستهدف من هذا المشروع؟
تركيا تبدو الهدف النهائي، إذ يبدو أن الدول المعنية بالشأن السوري مجتمعة ومتفقة فيما بينها على فرض حزام طائفي لعزلها عن سوريا، وهذا يذكرنا بالعبارة الشهيرة لمؤسس حزب العدالة والتنمية الحاكم “نجم الدين أربكان” عندما قال قبل ثلاثين عامًا: (إن رأيتموهم يتقاتلون على سوريا فاعلموا أن تركيا هي الهدف).
الصراع التاريخي بين باريس وأنقرة تجدد اليوم، وتلعب واشنطن وإسرائيل وإيران بطريقة أو أخرى دورًا في تكثيف الضغط على تركيا عبر دعم قسد وفصائل السويداء المسلحة وفي التنف لتحجيم دور الحكومة في دمشق ومنع تمددها، وبالتالي لتقزيم دورها داخل المشهد السوري، وهذا ما يتحسس منه إسرائيل عبر تصريحات متكررة لقادتها حول هذا الملف الشائك والمعقد.
بالمحصلة المنطقية:
اليوم، تعيش المنطقة حالة مخاض عسير. فتقاطر الدول والبكاء على العلويين والدروز والكرد ليس محبة بهم، إنما الطموح يتجاوز هذه الطوائف والقوميات. سوريا هي الهدف وتقسيمها هو الاستراتيجية. وبالتالي، حاليًا تحاول تل أبيب من خلال استهداف المواقع العسكرية وضرب البنية التحتية العسكرية لمنع الدولة من فرض سيطرتها على كامل الأراضي السورية. بالمقابل، تضخ السلاح والأموال إلى فصائل السويداء، وشرقي الفرات تحت العلم الأميركي، رغبة منها في الوصول إلى الفرات وربط آبار النفط والغاز داخل سوريا بميناء حيفا عبر معبر داوود المزعوم، وبالتالي إدخال المنطقة برمتها إلى نفق مظلم، ومحاصرة تركيا على المدى البعيد وعزلها عن العالم العربي وتركها للوجبة الثانية.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: هل ستقبل تركيا بتمرير هذا المشروع؟ الجواب بالطبع لا، حتى لو كلفها ذلك حربًا مباشرة مع فرنسا داخل سوريا.
ولا شك أن المنطقة أمام حرب جديدة، ومعالمها باتت تتوضح شيئًا فشيئًا، وهي مسألة وقت. أما بقية التفاصيل والاتفاقيات والتفاهمات فما هي إلا أدوات لإدارة الأزمة وانتزاع مزيد من الوقت حتى تكتمل الطبخة بكامل تفاصيلها لتصبح واقعًا على الأرض، ولا مفر منه، وعلى الجميع تقبله بالتي هي أحسن.
- تلفزيون سوريا