تراجعت جزئياً المخاطر المحيطة بالتعارض الصارخ في مصالح تركيا وإسرائيل في سوريا بعدما عقد البلدان أول اجتماع بينهما على المستوى الأمني والاستخباري في أذربيجان من أجل التوصل إلى آلية لخفض التصعيد وتجنب وقوع اشتباك غير مرغوب فيه.
إن العوامل التي تضغط على البلدين لتجنب الاحتكاك العسكري المباشر في سوريا كثيرة. فمن جانب، يجلب مثل هذا الاحتكاك تكاليف باهظة على الطرفين ولا يبدو أي منهما مُستعداً لتحمّلها. ومن جانب آخر، وضع توبيخ الرئيس الأميركي دونالد ترامب لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال اجتماعهما في البيت الأبيض في 5 أبريل الماضي خطوطاً حمراء أمام الاندفاعة الإسرائيلية.
وضع التحول السوري تركيا وإسرائيل وجهاً لوجه للمرة الأولى وأي خطأ في الحسابات قد يؤدي إلى وضع مُرتفع المخاطر على تركيا ومصالحها في سوريا.
مع ذلك، تبدو إدارة الرئيس رجب طيب أردوغان للتحدي الإسرائيلي، والتي تتسم بكثير من الهدوء والدبلوماسية، أحد العوامل الحاسمة في تفضيل إدارة المواجهة على الانجرار إلى فخ نتنياهو في اللعب على حافة الهاوية. تُدير أنقرة عملية تشكيل علاقتها بسوريا الجديدة من منظور واقعي. فهي من جانب تظهر تصميماً على الانخراط القوي في دعمها لأنه ضمانة لتعظيم فرص نجاحها ولتقويض المشاريع التي تسعى لإفشالها. ومن جانب آخر، تدرك الحاجة إلى مساعدة الرئيس أحمد الشرع في الحد من ضغوط الجغرافيا السياسية عليه لا مضاعفتها. وفي المحصلة، يُساعد هذا المنظور في بناء هادئ ومنخفض التكاليف لشراكة استراتيجية ذات قيمة لتركيا وسوريا. لقد أكد أردوغان مؤخراً على ثلاث لاءات تركية في سوريا. لا زعزعة لاستقرارها، ولا سماح بإنشاء ممر إرهابي في شمالها (كيان انفصالي)، ولا سماح بتقسيمها عبر ممرات أخرى. هذه اللاءات هي لاءات سورية أيضاً وعربية كذلك، وتنسجم مع حقيقة وجود سوريا على أحد أخطر خطوط الصدع في الجغرافيا السياسية الإقليمية.
هناك أربعة أسباب تُفسر النهج التركي في مقاربة التحدي الإسرائيلي:
– أولاً، وضع التحول السوري تركيا وإسرائيل وجهاً لوجه للمرة الأولى وأي خطأ في الحسابات قد يؤدي إلى وضع مُرتفع المخاطر على تركيا ومصالحها في سوريا.
– ثانياً، يُحرك هدف الاستقرار (استقرار سوريا الذي يؤدي إلى استقرار المصالح التركية) سياسة أنقرة على عكس إسرائيل التي يُحرك سياساتها هدف منع الاستقرار (منع استقرار الحكم الجديد يمنع استقرار المصالح التركية). وبالتالي، فإن تركيا تنظر إلى إبعاد المخاطر المرتفعة للتحدي الإسرائيلي عن سوريا على أنه بوابة رئيسية لتحصين تحوّلها أيضاً وتعزيز حضورها في سوريا ثانياً.
– ثالثاً، حسابات أردوغان مع ترامب. فقد استطاعت أنقرة بالإدارة الهادئة للموقف استمالة ترامب إلى جانبها من خلال الإقرار بدورها المُهيمن في سوريا الجديدة والطلب من نتنياهو أن يكون عقلانياً. كما تسعى لتحصين تفاهمها مع الأميركيين بخصوص معالجة مُعضلة قوات سوريا الديمقراطية في الشمال.
إن تصوير التعارض الصارخ بين تركيا وإسرائيل في سوريا على أنه تنافس بعيد عن الواقع ويتجاهل حقائق كثيرة.
لقد أصبحت أولويات ترامب في سوريا واضحة إلى حد بعيد وهي تتمثل من جانب في توفير ظروف مناسبة لقرار سحب القوات من سوريا دون قلق من الفراغات المُحتملة. ويبدو ترامب جادا في تحقيق الانسحاب. وإذا استقر هذا التوجه فهو انتكاسة لنتنياهو الذي صعد مع تركيا لإرباك الاتجاه. ومن جانب آخر، يُراهن ترامب على تركيا لمنع ظهور تحديات أمنية وجيوسياسية تُهدد المصالح الأميركية في سوريا وفي المنطقة انطلاقاً من سوريا.
علاوة على ذلك، رسم ترامب خطوطا حمراء أمام نتنياهو عندما تُهدد اندفاعته بإشعال صراع مع حليف آخر هو تركيا.
تتجاوز أهمية التواصل التركي الإسرائيلي بشأن سوريا هدف إدارة المخاطر الفورية وسيفرض على إسرائيل الالتزام بقواعد واضحة لتحركاتها. وهذا يعني بالضرورة تغييراً (قد يكون جزئياً وليس كلياً بالضرورة) في الاستراتيجية الإسرائيلية على المدى المنظور إن كان من حيث إعادة تشكيل الأهداف عبر التخلي عن الأهداف التي ترفع المخاطر مع تركيا والتركيز على الأخرى التي تقلل المخاطر أو من حيث الأدوات المُستخدمة فيها والتركيز على مزيج من الدبلوماسية المُتعددة الأطراف والقوة.
تُعقد الاندفاعة الإسرائيلية في سوريا إدارة تركيا للموقف وهي مُصممة في أحد أهدافها لهذا الغرض. فمن جانب، تُساعد الإدارة الهادئة للموقف أنقرة في تجنب اندفاعة مماثلة لا تضمن منع احتكاك عسكري. ومن جانب آخر، من غير المرجح أن يردع هذا النهج إسرائيل عن مواصلة اندفاعتها. مع ذلك، يبقى رهان تركيا على التعامل الهادئ مع لعب نتنياهو على حافة الهاوية الخيار الأكثر واقعية والأقل كلفة، كونه يبعدها عن هذه الحافة ويترك مجالاً للدبلوماسية لاحتواء التصعيد وحماية سوريا من مخاطره. إن تصوير التعارض الصارخ بين تركيا وإسرائيل في سوريا على أنه تنافس بعيد عن الواقع ويتجاهل حقائق كثيرة. هو صدام جيوسياسي حتمي أسست له تحوّلات مُتراكمة في نظرة كل من تركيا (أردوغان) وإسرائيل (نتنياهو) لدورهما في الشرق الأوسط وفراغ الانكفاء الإيراني بعد 7 أكتوبر وأخرجه للعلن التحول السوري. سوريا بهويتها وواقعها الجديد لا يُمكن أن تكون ساحة تنافس بين البلدين لأن هويتها وواقعها الجديد ينسجمان مع تركيا بقدر يُمكن النقاش بشأنه، وليس مع إسرائيل قطعاً.
- تلفزيون سوريا