لا تملك السلطة الجديدة في سوريا تصوراً لنموذج النظام السياسي المقبل بعد سقوط نظام بشار الأسد، والتصريحات التي أطلقها الرئيس أحمد الشرع، خلال إطلالاته الإعلامية، وحاول فيها طمأنة الخارج والداخل، لا تحمل مضموناً محدّداً حول شكل الدولة، ولا ملامح النظام السياسي المنشود لسوريا الجديدة.
من جهة أخرى، لم تحدّد الإجراءات التي اتخذتها السلطة الجديدة في دمشق، من تعيين الفصائل المسلحة لأحمد الشرع رئيساً للبلاد، وعقد مؤتمر الحوار الوطني المبستر، الإعلان الدستوري الإشكالي، شكلاّ للنظام السياسي المُبتغى. وتجعلنا هذه الإجراءات، رغم المشاكل التي اعترتها، نستبعد تمسك حكام سوريا الجدّد بنموذج الحركات الجهادية، التي تحدثت عن «خلافة إسلامية»، رغم بعض الاجراءات القمعية في الشارع، يمارسها الأمن العام على هذا الأساس، مثل التأكد من صلة قرابة بين شاب وفتاة في الشارع، وإذا لم يكن هناك قرابة، يُعاقب الشاب بالضرب أو الاعتقال، ويُبلغ أهل الفتاة، أو ضرب رجال في الجامع، لأنهم يقيمون مولداً نبوياً، مما يعتبرونه بدعة، كما جرى في حماة. رغم أن عصب الفصائل المسلحة، وعلى رأسها «هيئة تحرير الشام» دعت سابقاً لقيام «خلافة اسلامية»، لا يبدو أن السلطة الجديدة تستهدف ذلك، من دون أن يلغي ذلك أنها تستهدف شكلاً إسلامياً للدستور والدولة.
وبحكم عدم وجود تصور لشكل الدولة لدى السلطة الجديدة، أغرت الرعاية التركية للسلطة الجديدة، بالاعتقاد أن شكل الدولة السورية قد يعتمد النموذج العلماني التركي. وما عزز هذا التقدير، أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حين كان رئيسا للوزراء، وأثناء زيارته القاهرة في عام 2011 بعد سقوط الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك بفعل ثورة 25 يناير/كانون الثاني، قال: «في تركيا دستور علماني، تقف الدولة من خلاله على مسافة متساوية من جميع الأديان، والعلمانية لا تعني الإلحاد بالتأكيد، وأنصح باعتماد دستور علماني في مصر». أثارت تصريحات أردوغان حينها استياء «الإخوان المسلمين» الساعين للسلطة في مصر حينها، واعتبروا ذلك محاولة لتسويق النموذج التركي في مصر بعد الثورة، وتدخلا في الشأن الداخلي المصري، رافضين هذه التصريحات، وطلبوا من أردوغان عدم التدخل في الشؤون المصرية، رافضين استيراد النماذج من الخارج. لا يجعل هذا التصريح المنفرد من أردوغان والإسلام السياسي الذي يمثله، دعاة للدولة العلمانية كشكل للحكم في البلدان الأخرى. والدولة العلمانية التي طلب من مصر اعتمادها بعد الثورة، من المستبعد أن يطلب من حلفائه حكام سوريا الجدّد اعتمادها. يُعلن الخطاب السياسي المستجد لأحمد الشرع وهيئة تحرير الشام، التي يُفترض أنها حلت نفسها، لكنها فعلياً تحكم عبر صيغة «الأمانة العامة للشؤون السياسية» التي أعلن تأسيسها وزير الخارجية أسعد الشيباني، تحولاً ذاتياً وعميقاً من موقع إلى آخر، بعد الإمساك بالسلطة، ولا أحد ينكر حق القوى السياسية في التحوّل، ولكن التغيرات الشكلية على مستوى لباس القادة الجهاديين، الذي أصبحوا وزراء ومسؤولين في السلطة الجديدة، لا تكفي للاستنتاج أن هؤلاء الجهادين قد غيّروا تفكيرهم بتغيير ملابسهم. ومما لا شك فيه، أن لتركيا أثراً مباشراً على هذه المتغيرات، التي ما زالت على المستوى الشكلي فقط، حتى على مستوى الخطاب السياسي، وهو ليس بعيداً عن الأيادي التركية، التي يبدو أنها تعمل في خلفية المشهد.
من الواضح، التناقض بين خطاب السلطة الجديدة المُطمئن، والسلوك على الأرض. وفي الوقت الذي تسعى التصريحات المرنة لطمأنه الخارج، فإن سلوك السلطة الداخلي هو سلوك استئثاري، فقد وزع أحمد الشرع كل المناصب التي شغرت بعد انهيار النظام وفرار أعوانه على مجموعته، حتى تلك التي تحتاج إلى تكنوقراط، وبعد تشكيل الحكومة الانتقالية جاءت التغيرات شكلية، بإشراك أشخاص لا وزناً سياسياً لهم، باستثناء وزراء الهيئة. والفصائل العسكرية هي التي اجتمعت وعينت الشرع رئيساً لسوريا، وجاء الإعلان الدستوري ليكرس احتكار الرئيس لكل السلطات. وكان أول ما فعلته السلطة الجديدة، انها لم تعترف بأي تشكيل سياسي، وتعاملت مع الجميع كأفراد، و«قسد» هي الجهة الوحيدة التي تعاملت معها على أساس قوة سياسية ووقعت معها اتفاقاً، وكانت مدفوعة لإنجاز سياسي بعد مذابح الساحل السوري، التي أودت بحياة المئات على أيدي فصائل من السلطة ذاتها وممن يؤيدونها. تدير السلطة الجديدة الأوضاع الحالية، للسيطرة المطلقة على الفترة الانتقالية، التي ستستمر لخمس سنوات، كما قرّر الإعلان الدستوري، فلا عمل للقوى السياسية، التي عليها انتظار قانون الأحزاب، ولا إدارة سياسية للمرحلة الانتقالية، سوى رجال الهيئة وبعض التكنوقراط، وبالتالي استمرار السلطة احتكاراً لجهة سياسية واحدة.
تقول كل المؤشرات إنه لن تكون هناك دولة علمانية على الطريقة التركية، ولا ديمقراطية، وهي الكلمة التي تجنبت كل الوثائق التي صدرت عن السلطة الجديدة وتصريحات قادتها، استخدامها، ولم يصدر عن أي مسؤول تركي، تصريح بهذا الشأن، كالتصريح الذي جاء على لسان أردوغان في مصر، ولا تُظهر ممارسات أو تصريحات السلطة الجديدة، أنه ستتم مناقشة دستور دائم ديمقراطي، وبحقوق مواطن وحرية تعبير، أو حرية تشكيل الأحزاب السياسية، وبضمانات دستورية لهذه الحريات، ولانتخابات سياسية تنافسية تقف على مسافة واحدة من الجميع. ما يجري هو إدارة استئثارية لا تُخفي نفسها.
الدستور العلماني على الطريقة التركية، أو المؤسس على الديمقراطية، ليس في الأفق السوري، فالحركة الإسلامية في تركيا، احتاجت لعقود للتكيّف مع معه، الذي فُرض من الأعلى وحماه الجيش منذ تأسيس الجمهورية التركية وإلغاء الخلافة، أي الدستور التركي لم يكن من صنع الحركة الإسلامية في تركيا، بقدر ما تكيّفت معه. في التجربة السورية، هناك القادمون من الحركات الجهادية، والذين كانوا يرون في الديمقراطية والتعددية كفراً لا يمكن التعامل معه، واليوم يريدون التكيّف وعدم معاداة المحيط والعالم، ولكن من المستبعد أن يخرجوا من جلدهم بالمطلق. وهذا ما يجعل شكل الدولة مسألة صراعية، خلال الفترة المقبلة، حيث على المجتمع السوري المنهك والمدمر، أن يجد تعبيراته السياسية والمدنية بأسرع وقت، لتكون شريكا في صياغة شكل النظام السياسي، الذي لا يرسمه أفراد، بقدر ما هو بحاجة إلى قوى سياسية واجتماعية قادرة على التعبير عن نفسها وعن مصالحها، وقادرة على صياغة ما يحمي الحريات والحقوق بوثائق تضمن المستقبل، وألا ستترك صناعة المستقبل لسلطة الأمر الواقع، غير القادرة هذه الفترة بقواها الذاتية على القبض على المجتمع. هناك أمل، ويكبر هذا الأمل كلما استطاع السوريون، ومن الأسفل خلق الهيئات التي تعبر عنهم وعن مصالحهم وعن مستقبلهم.
*كاتب فلسطيني
- القدس العربي