تشكّل زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى باريس يوم الأربعاء الماضي حدثاً مهماً، في سياق التحوّل الجديد الذي تشهده سورية منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، إذ باتت أبواب أوروبا مفتوحة رسمياً أمام سورية بعد أكثر من عقد على القطيعة والتوتر، الأمر الذي يمهّد لبناء علاقات دولية على أسس جديدة، يتحدد فيها توجّه النظام السوري الجديد سياسياً واقتصادياً.
الانفتاح الفرنسي على سورية يشكّل خطوة رمزية، تتجاوز تقديم الدعم المباشر، إلى ما يشبه الرعاية للدولة الجديدة حتى تخرج من غرفة الإنعاش، وتنهض لتقف على قدميها. هي محاولة للوقوف إلى جانب السوريين من أجل التقاط الأنفاس، ومواكبة خطواتهم في المرحلة الانتقالية عن كثب، وتبادل مصالح سياسية واقتصادية وأمنية، يقدّم من أجلها كل طرف تنازلات للطرف الآخر، ريثما تستقر السلطة السورية الجديدة.
علاقات سورية وفرنسا
الصلات بين سورية وفرنسا تتسم بالمتانة، وذات حمولة تاريخية، تعود إلى ما قبل الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان بعد الحرب الثانية، وهي بعيدة ومتشابكة في أواصر الجوار، وتمتد إلى المشتركات في تاريخ وثقافة حوض البحر الأبيض المتوسط، ونظرة فرنسا الوجدانية والسياسية نحو الشرق بموروثه الديني والثقافي، التي تعكس نفسها في الأدب الفرنسي، وزوايا نظر السياسيين من نابليون بونابرت إلى الجنرال شارل ديغول تجاه هذه المنطقة من العالم العربي، وعلى هذا لم يشذّ رئيس فرنسي عن هذه القاعدة السياسية الاستراتيجية ذات البعد العاطفي، وكلما بدا أنّ حماس فرنسا المشرقي يتراجع ويخفت، فإنّ المؤشر يرتفع من جديد، ولذلك يظهر أن هناك فروقات في درجة هذه العاطفة بين رئيسين كفرانسوا ميتران البارد، وجاك شيراك الحار والودود.
بلدان الاتحاد الأوروبي حريصة على معرفة خيارات النظام السوري الجديد وتوجّهاته السياسية والثقافية والاقتصادية
سورية لا تهم فرنسا وحدها، بل عموم أوروبا، خصوصاً تلك التي ترتبط مع العرب والمسلمين بتماس قريب في المصالح وتاريخ مشترك كبريطانيا، وألمانيا، وإيطاليا، وإسبانيا. وليست مصادفة أنّ بلدان الاتحاد الأوروبي حريصة على معرفة خيارات النظام السوري الجديد وتوجّهاته السياسية والثقافية والاقتصادية، بما يتجاوز المخاوف المباشرة التي يروّج لها إعلام اليمين المتطرف القائمة على الإسلاموفوبيا، إلى منطق الشراكة المتوسطية التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي في مبادرة برشلونة لعام 1995، التي وضعت أسساً لعلاقات إقليمية جديدة، تمثّل نقطة تحوّل في العلاقات الأوروبية المتوسطية، وهدفت لبناء علاقات جوار جغرافي بكل ما تحمله من أبعادٍ ثقافية وأمنية واقتصادية، وكانت تطمح لتأسيس منطقة مشتركة للسّلام والاستقرار، عبر تعزيز حوار في حوض البحر المتوسط، يراعي الخصوصيات الجغرافية والتاريخية والثقافية بين الضفتَين.
وفي إطار هذه الروحية، سارعت فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا للاتصال مع الإدارة السورية الجديدة بمجرد وصولها إلى دمشق، والخلفية الفعلية لهذا التحرك الأوروبي تقوم على إدراك أهمية أن البيئة المتوسّطية غير مستقرّة في الاتجاهَين، بسبب غياب آليات للتعاون والتنسيق، ولا يمكن لذلك أن يجري إلّا على أساس من الندية والتعاون القائم على الشراكة بين الضفتَين، وهو المبدأ ذاته الذي كان هدف الاتحاد الأوروبي في مرحلة التسعينيات، لإقامة تكامل متوسّطي بنّاء، يحترم خصوصيات الدول في الضفة الجنوبية، ومساعدتها على تجاوز التحدّيات الاقتصادية والتنموية، بما يخدم الاستقرار السياسي، والحوكمة الرشيدة، وبناء تجارب محلية، تحول دون حصول حروبٍ وموجات هجرة داخلية وخارجية.
لعبت فرنسا في تلك المرحلة دور المحرّك لمبادرة برشلونة، وعمل الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك على إعطاء سورية موقعاً خاصاً في تلك الشراكة، لكنّ الجانب السوري لم يلاقه في منتصف الطريق، وحصلت المواجهة بينه وبين رئيس النظام السابق بشار الأسد عام 2004 بسبب القرار 1559، القاضي بانسحاب القوات السورية من لبنان، وأدى ذلك إلى شرخ كبير في العلاقات الثنائية لم يجرِ إصلاحه حتى سقوط الأسد.
استراتيجية ماكرون تجاه سورية
يتّبع الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون استراتيجية عمل خاصة بسورية، تسير في اتجاهات عدّة؛ فرنسي سوري، فرنسي عربي، فرنسي دولي. وعلى المستوى الثنائي تتعدد انشغالات فرنسا تجاه سورية بين سياسية، واقتصادية، وثقافية، وأمنية. وتولي باريس اهتماماً خاصة ببناء شراكة متطورة على هذه الصعد، ولذلك عيّنت سفيراً في دمشق هو السفير الفرنسي في الدوحة جان باتيست فافر، الذي يتحدث اللغة العربية بطلاقة، كي يتواصل مباشرة مع المسؤولين السوريين، وسوف يباشر مهامه في الفترة القريبة، إذ قام بإجراءات التوديع في الدوحة. وحسب مصادر فرنسية من وزارة الخارجية تحدثت لـ”العربي الجديد”، فإنّ باريس بصدد ترجمة النتائج التي توصل إليها لقاء ماكرون مع الشرع على نحو سريع، من خلال إطلاق سلسلة من المبادرات لدعم مساعي سورية من أجل النهوض، ومن المنتظر تقديم مساعدات عاجلة في مجالات عدّة كالتعليم والصحة والأمن. واستبقت دمشق الزيارة بتوقيع عقد لمدة 30 عاماً مع شركة فرنسية ستدير ميناء اللاذقية وتعمل على تطويره، وبعائدات أقل من التي كانت تدفعها الشركة عندما كانت تستثمر الميناء زمن نظام الأسد منذ عام 2009.
مصادر فرنسية: باريس بصدد ترجمة النتائج التي توصل إليها لقاء ماكرون والشرع على نحو سريع، بإطلاق سلسلة مبادرات لدعم سورية
وبدأت باريس منذ وصول الإدارة السورية الجديدة خطوات مهمة على هذا الطريق، إذ قامت في 12 فبراير/ شباط الماضي بترتيب مؤتمر دولي حول الانتقال السياسي والتحديات الأمنية والاقتصادية الكبيرة التي تواجهها سورية بعد سقوط الأسد، وذلك بمشاركة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني وهي أول زيارة رسمية له لدولة في الاتحاد الأوروبي، بعدما شارك في منتدى دافوس الاقتصادي في سويسرا في يناير/ كانون الثاني الماضي، كما شاركت الدول العربية على مستوى الوزراء فضلاً عن تركيا ودول مجموعة السبع ودول أوروبية، وكذلك الولايات المتحدة بصفة مراقب. وكان الهدف من المؤتمر حسب تصريحات ماكرون، إقامة “طوق أمان” لحماية العملية الانتقالية السورية من التدخّلات الأجنبية وتنسيق المساعدات وتمرير رسائل إلى السلطة السورية الجديدة، وإلى دعم القضاء الانتقالي ومكافحة الإفلات من العقاب.
ولم تقف باريس أمام حملات التحريض ضدّ الإدارة السورية الجديدة، بل حاولت موازنة موقفها، ومن أجل الرد على وسائل الإعلام التي أثارت مسألة الخلفية الجهادية للشرع، قال السفير الفرنسي السابق لدى سورية ميشال دوكلو “لم يرتكب الشرع حتى الآن أي خطأ”. وعلى هذا المنوال جاءت إجابة ماكرون على سؤال بهذا الصدد خلال زيارة الشرع لباريس، وهو ما ينسجم مع مواقف كل من أوروبا والولايات المتحدة، التي قرّرت فتح صفحة جديدة مع الإدارة السورية، تقوم على طلبات وشروط عدّة بخصوص الوضع الداخلي، وهي مرتبطة بخطوات الانفتاح الغربية تجاه سورية، وتسير معها خطوة بخطوة، وهذا هو تفسير الرفع التدريجي للعقوبات التي تحدث عنها أكثر من طرف دولي.
وفي ما يخصّ الجانب الفرنسي العربي، تعمل باريس مع الدوحة والرياض من أجل فتح الأبواب أمام سورية على الصعيد الدولي، والعمل معاً لتعزيز وضع الإدارة الجديدة، بما يمكّنها من تجاوز التحديات الصعبة، وخصوصاً على المستوى الاقتصادي. وقد لوحظ أن وسائل الإعلام الفرنسية المقربة من اليمين المتطرف الموالي لإسرائيل، هاجمت زيارة الشرع لباريس، ومن بين ما تحدثت عنه هو الدور القطري في ترتيبها، وادّعت أن الدوحة هي التي أقنعت ماكرون باستقبال الشرع.
ويتوجّه الجهد العربي الفرنسي المشترك إلى العمل على الساحة الدولية، وهو يخاطب الولايات المتحدة وأوروبا من أجل رفع العقوبات الاقتصادية على نحو يسهّل ضخ مساعدات واستثمارات مالية في الاقتصاد السوري المنهك. ولوحظ أن الاجتماع الفرنسي السوري جاء في اليوم ذاته الذي شهد زيارة المستشار الألماني الجديد فريدريش ميرز إلى باريس، وانعقاد سلسلة اجتماعات مع ماكرون وجزء من حكومته. وقد حضرت سورية في الاجتماع، وحصل توافق بين الطرفَين على تقديم الدعم لسورية من أجل تسريع عملية إعادة التعافي الاقتصادي، بما يساعد على عودة طوعية للاجئين السوريين.
يشار هنا إلى أن هناك نتيجة إيجابية تحققت بفضل المساعي العربية الأوروبية، وهي الحصول على موافقة أميركية لتمويل دولة قطر جزءاً من رواتب موظفي الدولة السورية بمعدل 29 مليون دولار شهرياً، وذلك يعدّ خطوة أولى، إذ من المنتظر تقديم مساعدة مالية مهمة من الدوحة والرياض. ومن الناحية السياسية هناك اتصالات مع البيت الأبيض من أجل ترتيب اجتماع للشرع مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب أثناء زيارته العاصمة السعودية الأسبوع المقبل، وفي حال نجاح هذا المسعى الدبلوماسي، فإن حملاً كبيراً يُزاح عن كاهل الإدارة السورية التي تسعى للحصول على اعتراف دولي كامل وتطبيع علاقاتها مع دول العالم كافة.
يبقى أن زيارة الشرع تساعد دمشق في تسهيل حل عقدة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، التي تسيطر على منطقة الجزيرة السورية بمحافظاتها الثلاث؛ الرقة، ودير الزور، والحسكة. وما تسعى له الإدارة الجديدة هو التوصل إلى استعادة هذا الجزء من سورية من دون حرب، وفي وسع باريس أن تساعد على ذلك، بما تملكه من علاقات جيدة ونفوذ على “قسد”.
- العربي الجديد