منذ اللحظة التي انهار فيها نظام بشار الأسد في كانون الأول الماضي، بدا المشهد السوري أمام مفترق طرق جديد، حيث لم تقتصر تداعياته على الداخل السوري وحده، إنما امتدت لتطال خارطة النفوذ الإقليمي برمتها.
من بين القوى التي ظنّ كثيرون أن مصيرها في سوريا بات على المحك، برزت روسيا كحالة جدلية معقدة، فهل خسرت موسكو رهانها التاريخي بعد سقوط الحليف الأوثق؟ أم أنها على العكس، كانت تتحسّب لمثل هذا اليوم، فزرعت ألغام مصالحها بدهاء في عمق البنية السورية، ما يجعل خروجها من المشهد أكثر تعقيداً بكثير مما يُعتقد؟
في ظاهر الصورة الحالية، لم تسقط القواعد العسكرية الروسية، ولم تُلغَ العقود الاقتصادية الضخمة التي أبرمتها موسكو مع نظام الأسد، ما قد يوحي بأن روسيا ما زالت تمسك بزمام أوراق استراتيجية حيوية تمنحها نفوذاً لا يُستهان به. لكنها في العمق تواجه واقعاً جديداً أكثر تعقيداً، فالآن توجد سلطة انتقالية تتطلع لترسيخ شرعية مستقلة، ومناخ إقليمي متحرك يعيد ترتيب قواعد اللعبة بطريقة تُربك الحسابات الروسية، ناهيك عن ضغوط دولية متزايدة تجعل استمرار النفوذ الروسي رهاناً محفوفاً بالمخاطر.
وبين هذا وذاك، تبرز أسئلة ملحّة، فهل تملك روسيا حقاً القدرة على إعادة تشكيل نفوذها في سوريا من دون الأسد، أم أن أوراقها الحالية مجرد امتداد هشّ لحضور آيل للانكماش؟ وكيف ستوازن موسكو بين الحفاظ على مصالحها الاقتصادية والعسكرية وبين التكيف مع سلطة لا تشاركها ذات الرهانات، وما حدود قدرتها على المناورة بين القوى الإقليمية والدولية التي تتقاطع مصالحها في سوريا الجديدة؟
من النفوذ العسكري إلى النفوذ الاقتصادي
مع انكشاف خريطة النفوذ في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، لم يكن من المستغرب أن تعيد روسيا تموضعها من لاعب عسكري مباشر إلى قوة تركز على تثبيت مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية طويلة الأمد. فعلى الرغم من تراجع الدور العسكري، حافظت موسكو على وجودها العسكري عبر قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية، واللتين تمثلان ركيزة نفوذها في شرق المتوسط، وَفق الاتفاقيات التي وقّعتها مع نظام الأسد وتستمر صلاحيتها حتى منتصف القرن الحالي (تمتد حتى عام 2065). غير أن التحوّل الأكثر وضوحاً تمثل في تفعيل منظومة المصالح الاقتصادية، التي أصبحت بمثابة رافعة النفوذ الجديدة، حيث تعزز روسيا حضورها من خلال إدارة عقود طويلة الأمد في مجالات الطاقة، واستخراج الفوسفات، وتشغيل الموانئ، وحتى المشاركة في مشروعات إعادة الإعمار المستقبلية.
رغم أن هذه العقود لم تُنفَّذ فعلياً بسبب غياب شروط الاستقرار والتمويل الدولي، إلا أنها قد تُشكّل اليوم أداة ضغط روسية قابلة لإعادة التفعيل. يمكن لموسكو استخدامها سواء عبر المطالبة بالتعويض، أو عبر إدراجها في أي آليات مستقبلية لإعادة الإعمار.
هذا الشكل من النفوذ لا يُمارس داخل المؤسسات السورية الجديدة مباشرة، إنما يجري عبر قنوات غير سيادية، تشمل التأثير غير المباشر في بعض الهيئات الدولية أو المفاوضات المتعددة الأطراف التي ستُعنى لاحقاً بملف إعادة الإعمار.
الباحث السياسي الروسي، أندريه أونتيكوف، يشير خلال حديثه لموقع “تلفزيون سوريا” إلى أهمية عدم وجود أي خلاف بين موسكو ودمشق خلال الفترة الحالية وفق تقديره، مضيفاً بأن “روسيا مصمّمة على الحفاظ على قواعدها العسكرية في سوريا وتطالب بضمانات أمنية تحمي وجودها من أي استفزازات أو هجمات. كما تواصل موسكو تعزيز تعاونها الاقتصادي والتجاري مع السلطات الجديدة، وتؤكد استمرار الاتصالات لاستكشاف فرص دعم هذا التعاون”.
أشارت تقارير عدة إلى استمرار روسيا في السيطرة على عقود اقتصادية مهمة في سوريا، خاصة في قطاعات الطاقة والفوسفات. فعلى سبيل المثال، أكدت تحقيقات استقصائية، منها ما نشرته صحيفة “عنب بلدي”، أن شركة “Stroytransgaz” الروسية تدير قطاع الفوسفات في وسط سوريا بموجب عقد طويل الأمد وبدعم سياسي – عسكري يتيح لها نفوذاً أوسع من مجرد استثمار اقتصادي.
من جهة أخرى، أكد تحليل منشور في موقع “تشاتام هاوس” أن العقود الروسية صُمّمت بمرونة قانونية تتيح استمرارها حتى في حال تغيّر السلطة الحاكمة، ما يعكس سعي موسكو لربط مصالحها الاقتصادية ببنية سورية يصعب فك ارتباطها من دون كلفة سياسية وأمنية كبيرة.
كل ذلك يثير سؤالاً أساسياً يتمحور حول المدى الذي تستطيع فيه روسيا فعلاً الحفاظ على هذا النفوذ المتشابك في ظل مشهد سوري جديد يتسم بعدم الاستقرار الإقليمي ومحاولات إعادة توزيع النفوذ من قِبل قوى إقليمية مختلفة؟
المحلل السياسي المتخصص في الشؤون الروسية، سامر إلياس، أشار خلال حديثه لموقع “تلفزيون سوريا” إلى أهمية سوريا بالنسبة لروسيا، على اعتبارها نقطة استراتيجية محورية في الشرق الأوسط، فضلاً عن كونها منصة لوجستية لتوسيع نفوذ موسكو في القارة الإفريقية.
وأضاف: “لهذا السبب، سعت روسيا إلى الحفاظ على علاقات متوازنة مع السلطة الانتقالية، معلنة استمرار عمل سفارتها واستعدادها للمشاركة في جهود إعادة الإعمار، في محاولة لحماية مصالحها الحيوية وسط المشهد السياسي الجديد”.
وتابع إلياس موضحاً أن روسيا ترى في عقودها الاقتصادية داخل سوريا أداة أساسية لضمان استمرار نفوذها. واستدرك قائلاً: “لكن في ظل العقوبات الغربية، تجد موسكو نفسها عاجزة عن تنفيذ مشروعات اقتصادية فعلية في سوريا، كما تفتقر إلى الإمكانات المالية لدعم السلطة الانتقالية في هذه المرحلة. يُضاف إلى ذلك أن الأوروبيين وضعوا شرطاً صريحاً يقضي بإبعاد روسيا عن الساحة السورية كجزء من شروط إعادة الإعمار، ما يضع الطرفين أمام تحدٍّ بالغ الحساسية”.
طوال عقود، مثّلت سوريا نموذجاً كلاسيكياً لما يُعرف في الأدبيات السياسية بـ “الدولة الزبائنية”، أي الدولة التي تقوم علاقاتها الخارجية على مبدأ التبعية شبه الكاملة لقوة إقليمية أو دولية راعية. في هذا السياق، لعبت روسيا (وسابقاً الاتحاد السوفييتي) دور “الراعي” الذي يوفّر الدعم العسكري والاقتصادي والدبلوماسي مقابل ضمان ولاء النظام السوري. سقوط الأسد قَطَع هذا النسق التقليدي من العلاقة، لكنه لم يُلغِ آثارها البنيوية. إذ ما تزال البنية المؤسسية والاقتصادية السورية تحمل إرث هذه الزبائنية، ما يتيح لموسكو الاستمرار في الضغط والاستفادة من مكامن النفوذ السابقة، غير أن تحوّل سوريا إلى كيان سياسي جديد بقيادة انتقالية تحاول فرض استقلاليتها يهدّد بإعادة تعريف هذه العلاقة، ما يفتح الباب أمام سؤال أساسي فيما إذا كان يمكن لروسيا أن تحافظ على موقعها السابق كراعٍ، أم أنها ستجد نفسها مضطرة لإعادة التفاوض على مكانتها ضمن شروط جديدة أقل مركزية وأقل ارتباطاً بالنموذج الزبائني الكلاسيكي.
النفوذ الروسي بين الثبات والتآكل
في آذار الماضي، أرسل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رسالة إلى الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، أكد فيها دعم روسيا لجهود استقرار سوريا، مشدداً على أهمية “سيادة ووحدة وسلامة الأراضي السورية”. كما أعرب عن استعداد موسكو لتقديم “تعاون عملي” في مختلف المجالات، بما في ذلك المساعدة الإنسانية.
في حين صرح المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، بأن روسيا ترغب في رؤية سوريا “موحدة ومزدهرة وودية”، محذراً من أن عدم الاستقرار في سوريا قد يكون له تداعيات خطيرة على منطقة الشرق الأوسط بأكملها.
لا يمكن تحليل السلوك الروسي في سوريا بعد سقوط الأسد من دون استدعاء نماذج التدخل الروسي في مناطق أخرى من العالم، لا سيما أوكرانيا وليبيا. ففي الحالة الأوكرانية، مثّلت شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا نموذجاً كلاسيكياً للنفوذ الروسي العميق الذي يجمع بين السيطرة العسكرية المباشرة والهيمنة على البنى الاقتصادية والسياسية. هذا النموذج تكرّر بصيغة مختلفة في ليبيا عبر أدوات غير تقليدية مثل قوات فاغنر وعقود الاستثمار في قطاع الطاقة.
في سوريا، نلاحظ مزيجاً من هاتين التجربتين؛ حضور عسكري صلب يدعمه تمكين شبكة اقتصادية متجذّرة عبر عقود طويلة الأمد في الفوسفات والطاقة والموانئ. هذا نمط روسي ثابت يقوم على زراعة أدوات نفوذ هيكلية تجعل أيَّ انسحاب مستقبلي معادلاً لخسارة جيوسياسية فادحة، وهو ما يفسّر إصرار موسكو على إعادة تموضعها حتى بعد انهيار حليفها الأوثق في دمشق.
وفقاً لتقرير صادر عن صحيفة “وول ستريت جورنال” في آذار الماضي، تسعى روسيا للحفاظ على وجودها العسكري والاقتصادي في سوريا من خلال التفاوض مع الحكومة السورية الجديدة على صفقات طويلة الأمد تشمل القواعد العسكرية والاستثمارات في مجالات الغاز والبنية التحتية.
في حين كشفت دراسة صادرة عن معهد “واشنطن لسياسات الشرق الأدنى” أن “التدخل الروسي في سوريا كان نجاحاً استراتيجياً بتكلفة منخفضة نسبياً، مكّن موسكو من ترسيخ وجود عسكري دائم في منطقة استراتيجية حساسة، بما يمثل امتداداً لرؤيتها الجيوسياسية كقوة متوسطية ناشئة”.
هذا التحول من القوة الصلبة إلى ما يمكن تسميته بـ”النفوذ الهيكلي” يثير تساؤلات مركزية بشأن مدى قدرة روسيا على الاستمرار في لعب دور مؤثر في سوريا نت دون الاعتماد على مظلة سياسية موالية كما كان الحال مع نظام الأسد، وبشأن ما إذا كانت أدوات النفوذ الاقتصادي والعسكري وحدها كافية لضمان بقاء موسكو لاعباً رئيسياً في معادلة سوريا المستقبلية.
لايخلو هذا التحول أيضا من التحديات، فموسكو تدرك أن السلطة الانتقالية، رغم ضعفها المؤسسي، تسعى لبناء شرعية مستقلة، وتحظى بدعم بعض القوى الإقليمية التي قد ترى في النفوذ الروسي عبئاً يجب تقليصه. وفي هذا السياق، تواجه روسيا معضلة ما يُعرف بـ”النفوذ المتآكل”، أي أن الحفاظ على الأصول المادية وحدها لا يكفي إذا لم تُرفَد بأدوات سياسية واقتصادية تضمن استمرار الشرعية والفعالية.
يُضاف إلى ذلك أن السياق الدولي في ظل الحرب الروسية – الأوكرانية جعل روسيا أكثر انكفاءً على جبهتها الداخلية، ما يدفعها إلى إعادة توزيع أولوياتها الخارجية بحيث تبقى سوريا مهمة، ولكن بميزانية نفوذ أكثر انكماشاً. وهذا يتقاطع مع تحليلات الباحث الروسي ألكسندر شوميلين، الذي أشار في أكثر من مناسبة إلى أن سوريا تحوّلت من ساحة اختبار للقوة الصلبة الروسية إلى مختبر أكثر تعقيداً لاختبار أدوات “القوة الذكية”. حيث تسعى موسكو لتحقيق مكاسبها بأدنى كلفة ممكنة.
في هذا السياق، لم يكن الاعتماد على القوة العسكرية وحدها كافياً لضمان البقاء، فقد استفادت موسكو من تجربتها الممتدة في سوريا لتطوير قدراتها في مجالات القيادة والسيطرة، حيث ظهر بوضوح مفهوم “تفوق الإدارة”، أي القدرة على اتخاذ قرارات أسرع وأكثر دقة من الخصوم، ما يمنح روسيا أداة ضغط طويلة الأمد حتى في بيئات سياسية وأمنية متغيرة. وفقاً لتحليل صادر عن معهد “دراسة الحرب” فإن أحد أهم الدروس المستخلصة من التدخل الروسي في سوريا كان “ضرورة بناء منظومات قيادة مرنة تتيح استدامة النفوذ بأقل كلفة عسكرية ممكنة”. وقد أفاد تقرير صادر عن منظمة “Airwars“، بأن ما بين 15,631 و25,071 مدنياً قُتلوا نتيجة للعمليات العسكرية الروسية في سوريا
رغم التحولات العميقة في المشهد السوري، لم تتخلَّ روسيا عن طموحاتها في تثبيت موطئ قدم مستدام، فهي تسعى للجوء إلى تفعيل أدواتها الدبلوماسية والاقتصادية لإعادة إنتاج نفوذها في حقبة جديدة.
وأشار تقرير صادر عن معهد “واشنطن لسياسات الشرق الأدنى” إلى أن الحكومة الروسية “عملت بشكل حثيث للحفاظ على خطوط تواصل مفتوحة مع القيادة الجديدة في دمشق، مستندة إلى حقيقة أن جزءاً كبيراً من البنية التحتية السورية بما في ذلك شبكات الكهرباء ومرافق الطاقة؛ تم بناؤه بالشراكة مع موسكو، مما يجعل أي تفكيك للعلاقة مكلفاً ومعقداً”. ويتقاطع هذا مع تصريحات صدرت عن وزارة الخارجية الروسية في بداية العام الحالي، تؤكد أن “روسيا تَعتبر سوريا حليفاً استراتيجياً طويل الأمد، وتسعى لضمان استقرار علاقاتها الاقتصادية والأمنية معها، بغضّ النظر عن التغيرات السياسية الداخلية”.
بهذا النهج، تراهن موسكو على قوة الحقائق الجيوسياسية والاقتصادية كضمان لعدم إقصائها من المشهد، ولو بصورة مغايرة لما كان عليه الحال قبل سقوط الأسد.
العلاقات الدبلوماسية.. من التنافس إلى التكيّف
على صعيد العلاقات الدبلوماسية، برزت روسيا بعد سقوط الأسد كلاعب حذر يحاول موازنة مصالحه من دون الصدام المباشر مع السلطة الانتقالية.
بدت روسيا كأنها تمسك العصا من المنتصف؛ لم ترفض السلطة الانتقالية الجديدة علناً، لكنها أيضاً تجنّبت الاعتراف الصريح بها، في تكتيك دبلوماسي أقرب إلى ما يُسمى في العلاقات الدولية بـ “الاعتراف المحدود” أو “الاعتراف بحكم الواقع”، وهي استراتيجيات تعتمدها الدول حين تضطر للتعامل مع سلطات قائمة بحكم الأمر الواقع من دون منحها الشرعية القانونية الكاملة. غالباً ما تُستخدم هذه السياسات كأداة مناورة دبلوماسية، تتيح للقوى الكبرى الحفاظ على قنوات اتصال مفتوحة مع أطراف غير معترف بها رسمياً من قبلها، بانتظار تبلور مشهد سياسي أكثر استقراراً. ورغم زيارات واتصالات رمزية مثل إرسال بوغدانوف إلى دمشق واتصال بوتين بالشرع، ظل موقف موسكو محكوماً بـ “نهج المراوحة الدبلوماسية”، متردداً بين الحفاظ على حضور شكلي وبين خشية فقدان نفوذها التاريخي. هذه الاستراتيجية، وإن جنّبتها صداماً مباشراً، إلا أنها أضعفت أوراقها التفاوضية وأبقتها في موقع المراقب العالق بين خطاب قديم وواقع سياسي جديد يتشكّل من دونها.
في نيسان الماضي، أجرى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف اتصالاً هاتفياً مع نظيره الأمريكي ماركو روبيو، بناءً على طلب لافروف، تناول الاتصال الأوضاع في سوريا. هذا الاتصال يعكس استمرار التواصل بين البلدين بشأن الملف السوري رغم التوترات القائمة بينهما.
بالإضافة إلى ذلك، في آذار الماضي، تقدمت روسيا والولايات المتحدة بطلب مشترك لعقد اجتماع مغلق لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لمناقشة تصاعد العنف في سوريا، هذا التعاون غير المعتاد بين الطرفين في مجلس الأمن يشير إلى اهتمام مشترك بالاستقرار في سوريا.
الباحث السياسي الروسي، أندريه أونتيكوف، يقول لموقع “تلفزيون سوريا”، بشأن ذلك “بعد سقوط نظام بشار الأسد، تراجعت احتمالات التصعيد بين روسيا والولايات المتحدة بشكل ملحوظ، ولم تعد هناك نشاطات جوية مكثفة أو مؤشرات على مواجهة عسكرية مباشرة، إذ يركّز الطرفان حالياً على حماية مصالحهما من دون الانزلاق إلى صدامات”.
أظهرت موسكو وواشنطن براغماتية لافتة في إدارة الملف السوري بعد سقوط نظام الأسد، فقد أشار تقرير معهد “كوينسي” إلى أن الجانبين توصلا بحلول آذار 2025 إلى تفاهمات مبدئية تركز على الحفاظ على استقرار سوريا من دون المساس بالمصالح الاستراتيجية الأساسية لأي طرف، ولفت التقرير إلى أن هذه التفاهمات تعكس إدراكاً مشتركاً بأن أي فراغ أمني جديد سيعني تهديداً لمصالح روسيا والولايات المتحدة على حد سواء، ما يفسر القنوات المفتوحة بين وزارتي الخارجية والدفاع في كلا البلدين. وأكد المعهد أن روسيا، رغم عدم اعترافها الكامل بالسلطة الانتقالية، باتت تتبنى سياسة “إدارة الضرورة”.
روسيا بين تركيا وإسرائيل في سوريا
أما العلاقة الروسية – التركية في سوريا تبدو اليوم وكأنها تسير على حافة التوازن الهش، حيث يتقاطع التكتيك البراغماتي مع توترات بنيوية عميقة. رغم أن الاتصال الأخير بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أواخر آذار الماضي، أعاد إحياء قنوات الحوار بين الجانبين بعد فترة من الجمود، إلا أن هذه القنوات لم تنتج بعد تفاهمات جوهرية ملموسة، خصوصاً في ظل المشهد السوري المتغير. ما يحدث بين موسكو وأنقرة يوحي بأن العلاقات تدخل مرحلة اختبار معقدة، حيث تراهن كل من الدولتين على كسب الوقت وإعادة ترتيب أوراقها وفق المتغيرات الإقليمية الجديدة.
يبدو أن روسيا تجد نفسها مضطرة اليوم لإعادة تقييم موقعها في سوريا في ضوء صعود النفوذ التركي. فعلى الرغم من استمرارها في الاحتفاظ بوجود عسكري في الساحل السوري، إلا أن وزنها السياسي بات مرهوناً بقدرتها على التأقلم مع الواقع الجديد.
في الأفق المنظور، يُتوقع أن تواصل موسكو نهجها الحذر مع تركيا، متمسكة بخيوط الاتصال السياسي والعسكري من دون أن تغامر في كسر التحالف التكتيكي الذي بنته على مدى سنوات.
محلل الشؤون الروسية، سامر إلياس، اعتبر خلال حديثه لموقع “تلفزيون سوريا” أن لدى الروس أولوية واضحة بعد الانتهاء من أزمة الملف الأوكراني، تتمثل في إعادة ترميم دورهم في جنوبي القوقاز وآسيا الوسطى، باعتبار أن هذه المنطقة باتت مسرحاً لصراع واسع بين عدة قوى دولية.
أما على صعيد العلاقات الروسية – الإسرائيلية في الملف السوري فإنها تشهد مرحلة جديدة من الحذر البراغماتي، إذ تسعى موسكو وتل أبيب للحفاظ على الحد الأدنى من التنسيق الأمني رغم الانقلاب الكبير الذي أحدثه سقوط نظام الأسد.
مع وصول السلطة الانتقالية الجديدة، لم تظهر إشارات علنية إلى تغيّر جوهري في هذا النمط من العلاقة، وهو ما يعكس إدراك الطرفين لحساسية المرحلة. بالنسبة إلى روسيا، فإن الإبقاء على خطوط التفاهم مع إسرائيل يبدو ضرورة واقعية، خاصة في ظل محدودية قدرة موسكو على فتح جبهات إضافية أو الدخول في صراعات معقدة بعد استنزافها في أوكرانيا وتقلّص نفوذها الميداني عقب انهيار نظام الأسد.
يمكن توصيف العلاقة الراهنة بأنها أقرب إلى “شراكة الحذر المتبادل”، حيث يسعى كل طرف لتثبيت مصالحه من دون الانزلاق إلى صدامات غير محسوبة. ومع غياب أي إطار تفاوضي جديد أو تصريحات رسمية تعيد ضبط قواعد التنسيق بين الجانبين خلال المرحلة الحالية، يبقى المشهد مفتوحاً على احتمالات متعددة، أبرزها أن استمرار الغموض قد يقود إلى إعادة تقييم من الجانبين للحدود الآمنة لهذه العلاقة، خاصة إذا ما طرأت متغيرات جديدة تمسّ جوهر المصالح الحيوية لأي منهما.
أندريه أونتيكوف يوضح لموقع “تلفزيون سوريا” بأن العلاقة الروسية الإسرائيلية حالياً في سوريا غير تصادمية، “روسيا تنطلق من علاقاتها المشتركة في سوريا من خلال اهتمامها بالوجود في القواعد العسكرية في سوريا باعتبارها نقطة وصل بين روسيا المركز وبين النفوذ الروسي في إفريقيا”.
الرهانات المستقبلية وأفق النفوذ الروسي
يبدو المشهد السوري بعد سقوط الأسد كاختبار قاسٍ لمدى قدرة روسيا على الصمود كلاعب مركزي في شرق المتوسط، ففي حين قد يقرأ البعض هذا التحول كضربة موجعة لهيبة موسكو ومصالحها طويلة الأمد، إلا أن التجربة الروسية تؤكد ميلاً متجذراً لسياسات إعادة التموضع بدل الانسحاب. روسيا، التي اختبرت مراراً ديناميكيات التراجع والتقدم في مناطق النفوذ السوفييتي السابق، تدرك أن النفوذ يقاس بقدرة الدولة على إنتاج أدوات تأثير متجددة تتيح لها البقاء في قلب المشهد ولو بطرق مختلفة.
ومع أن التوازنات الجديدة فرضت على روسيا إعادة حسابات دقيقة، خصوصاً في ظل الضغط الغربي المتزايد عليها بفعل الحرب في أوكرانيا، فإن موسكو ما تزال تراهن على ربط الملفات الإقليمية ببعضها، معتبرة أن أي انتكاسة في سوريا يمكن تعويضها عبر أوراق ضغط في ملفات أخرى كأوكرانيا أو حتى منطقة القوقاز. من هنا، يتضح أن الهدف الروسي ليس فقط البقاء في سوريا بمعناه الجغرافي الضيق، بقدر استخدام الورقة السورية كورقة مساومة ضمن معادلة دولية أوسع تعيد إنتاج معادلات القوة والنفوذ على مستوى العالم.
مع تصاعد التحديات الإقليمية والدولية التي تواجهها موسكو، يبرز سؤال استراتيجي بالغ الأهمية؛ هل تجد روسيا نفسها عالقة في ما يُسمّى بـ “مصيدة النفوذ”؟ هذا المفهوم يُحيل إلى حالة تصبح فيها أعباء الحفاظ على النفوذ أثقل من مكاسبه، ما يؤدي إلى استنزاف القوة الراعية بدل تعزيز موقعها. في سوريا اليوم، تتزايد مؤشرات هذا الفخّ؛ من جهة، تحتفظ روسيا بوجود عسكري واقتصادي يبدو قوياً على الورق؛ ومن جهة أخرى، تواجه بيئة سياسية وأمنية غير مستقرة تعيق جني ثمار هذا النفوذ فعلياً.
فضلاً عن ذلك، فإن الغرق الروسي في أوكرانيا واستنزاف الموارد يجعل من سوريا عبئاً استراتيجياً يصعب الانسحاب منه من دون دفع أثمان سياسية باهظة، ويصعب الاستمرار فيه من دون كلفة متزايدة. بهذا المعنى، قد تمثل الساحة السورية نموذجاً كلاسيكياً لتحوّل النفوذ من أداة قوة إلى عبء استراتيجي خانق، ما يستدعي إعادة تقييم عميقة للخيارات الروسية في المدى المنظور.
- تلفزيون سوريا