عاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب من جولته الخليجية محاطاً بشعور بالرضى، نابعٍ من حجم الاستقبال السخي الذي حظي به من قبل دول الخليج، ليس فقط من الناحية الاستثمارية، بل أيضاً لاقتناعه المتزايد بأنّ الشراكة مع الحلفاء الخليجيين تمثل للولايات المتحدة ركيزة استراتيجية قد تتجاوز حتى أهمية العلاقة مع إسرائيل.
هذا الإدراك تعزز في واشنطن بعد أن شعرت المملكة العربية السعودية، خلال ولاية الرئيس جو بايدن، بتراجع الالتزام الأميركي تجاه الخليج، خصوصاً في ظل انشغال الإدارة بالملف الإيراني. هذا التراجع دفع الرياض إلى المبادرة نحو طهران، حيث أبرمت اتفاقاً برعاية صينية لحماية مصالحها، في رسالة واضحة إلى واشنطن مفادها أنها لم تعد تحتمل تجاهلها. أثار هذا التحرك امتعاضاً لدى الأميركيين، ما دفعهم إلى إعادة تقييم مقاربتهم تجاه المنطقة.
في الفترة الممتدة بين عامي 2021 و2023، غاصت إدارة بايدن في تداعيات الحرب الأوكرانية، ما وفّر فرصة لكل من إيران والصين لتعزيز نفوذهما في الشرق الأوسط. الإيرانيون استغلوا الغياب الأميركي لرفع سقف مطالبهم فيما يتعلق بالملف النووي والنفوذ الإقليمي، بينما فتحت الصين قنوات اختراق ناعمة في المنطقة.
أمام هذا الواقع، سعت واشنطن إلى ترميم علاقاتها مع أبرز حليفين لها في المنطقة: إسرائيل والسعودية. الهدف كان واضحاً: الدفع باتجاه تسويات كبرى تؤسس لتوازن جديد في الشرق الأوسط يحفظ مصالحها الحيوية. وفي هذا الإطار، طرحت السعودية شرطاً أساسياً للمضي قدماً في أي مسار سلام مع إسرائيل، وهو التمسك بمبادرة السلام العربية الصادرة عن قمة بيروت عام 2002، والتي تنص على مبدأ “الأرض مقابل السلام” وقيام دولة فلسطينية مستقلة.
إيران سعت من خلالها إلى منع الرياض من الحصول على دعم نووي أميركي، وعرقلة التقارب السعودي الإسرائيلي، وإجبار الأطراف كافة على الاعتراف بموقع طهران في أي تسوية إقليمية مقبلة.
ورغم إبداء إسرائيل استعداداً شكلياً لمناقشة هذه المبادرة، فإنها اشترطت “تحديثها” لتتوافق مع التحولات الإقليمية والدولية التي حصلت خلال العقدين الماضيين. وانطلقت بالفعل ورشة داخل الجامعة العربية لبحث صيغة مطورة للمبادرة يمكن طرحها مجدداً كمرجعية للمفاوضات مع إسرائيل، ما أعطى انطباعاً بوجود تحرك عربي متكامل نحو تسوية سياسية.
لكن هذا المسار تلقى ضربة قاسية في السابع من أكتوبر 2023، مع تنفيذ حماس لعملية “طوفان الأقصى”، التي سرعان ما أشعلت حرباً اقليمية المنطقة. وأدى هذا التطور إلى تجميد كل المساعي السياسية. يرى بعض المحللين أن العملية هدفت، من وجهة نظر “حماس”، إلى إحباط مسار التطبيع بين السعودية وإسرائيل، الذي كان على وشك تحقيق اختراق في الملف الفلسطيني. وخاصة أن إيران سعت من خلالها إلى منع الرياض من الحصول على دعم نووي أميركي، وعرقلة التقارب السعودي الإسرائيلي، وإجبار الأطراف كافة على الاعتراف بموقع طهران في أي تسوية إقليمية مقبلة.
وهذا التصور خرج للعلن مع التحقيق الذي نشرته صحيفة وول ستريت جورنال والذي كشفت من خلاله عن وثائق عُثر عليها في أنفاق في غزة. ووفقاً لهذه الوثائق، فإن قائد الحركة في غزة يحيى السنوار خطط للعملية منذ عامين، واختار توقيت تنفيذها بهدف قطع الطريق على التسوية السياسية الجارية آنذاك بين الرياض وتل أبيب.
كما ذكر التحقيق أن التنسيق بين “حماس”، و”حزب الله”، وطهران، بدأ منذ صيف 2021، وشمل دعماً لوجستياً وعسكرياً وتدريباً قبيل العملية. غير أن الإيرانيين والحزب أكدا للحركة أنهما لا يرغبان في التورط بحرب مفتوحة ضد إسرائيل.
رغم الخلافات بين ترامب وبايدن، فقد أدرك كلاهما أن الدور السعودي لا غنى عنه في أي تسوية، وأن القرار النهائي في يد دول الخليج.
وتفيد إحدى الوثائق السرية التي أعدتها “حماس” في آب 2022، بأن الحركة قررت إعادة تموضعها السياسي والعسكري بهدف إبقاء القضية الفلسطينية في صدارة الاهتمام، في مواجهة موجة التطبيع العربي. وهذا يتطلب، بحسب الوثيقة، تعزيز التنسيق مع “حزب الله” وفصائل فلسطينية أخرى.
في ضوء ذلك، تتبلور اليوم معطيات جديدة تُسهم في تفكيك خلفيات المشهد السياسي والعسكري المتفجر، ويمكن استخلاص أبرز الحقائق التالية:
أولاً: كانت هناك فعلياً ملامح تقدم في مسار التسوية السلمية، بمشاركة سعودية قائمة على مبادرة بيروت، لكن الالتزام الإسرائيلي الجاد لم يكن مؤكداً.
ثانياً: جاءت عملية “طوفان الأقصى” بهدف مباشر لإجهاض هذا المسار ومنع أي اختراق سياسي لا يلحظ مستقبل الدولة الفلسطينية.
ثالثاً: وقفت إيران خلف هذا الخيار، سعياً لوقف التطبيع السعودي الإسرائيلي ومنع حصول الرياض على تكنولوجيا نووية، مع الحفاظ على حضورها في المعادلات الإقليمية.
رابعاً: رغم الخلافات بين ترامب وبايدن، فقد أدرك كلاهما أن الدور السعودي لا غنى عنه في أي تسوية، وأن القرار النهائي في يد دول الخليج.
خامساً: حرص حزب الله، بدفع من إيران، على ضبط مشاركته في الحرب ضمن حدود الدعم الميداني، تفادياً لانزلاق المنطقة إلى مواجهة شاملة.
وقبل أي تطورات مرتقبة، لا بد من ترقب الجولة الجديدة للموفدة الأميركية، التي يُمهد لها بتصريحات مرتفعة النبرة. وفي حين يتمسك حزب الله بسلاحه بغض النظر عن الضغوط والظروف، مستعداً لتحمل تبعات هذا الخيار مهما تصاعدت، تشير المعطيات الواردة من واشنطن، إلى وجود تقدم ملموس في المفاوضات الجارية بين الولايات المتحدة وإيران. ومن المؤكد أن هذا التقدم لا يقتصر على الملف النووي وحده، رغم إصرار الوفد الإيراني على حصر النقاش في هذا الإطار إعلامياً، بل يشمل ملفات إقليمية متعددة. وربما تكون بيروت دمشق يترقبان بصيص الأمل الآتي من مسقط.
- تلفزيون سوريا