في ظل هذا الفعل الوحشي، لا تكفي الإدانة وحدها، رغم ضرورتها الأخلاقية والسياسية، إن لم يتبعها سعي حقيقي لتفكيك أسبابه العميقة، فالتحقيقات الأمنية، والقبض على الجناة، وإعلان تنظيم إرهابي مسؤوليته، كلها إجراءات ضرورية، لكنها لا تمسّ جذور الأزمة، فالمشكلة هنا أعمق: اجتماعية، نفسية، ثقافية وسياسية على وجه التحديد.
في آذار/مارس الماضي، شهد المكان نفسه حادثة أقل عنفاً لكنها شديدة الدلالة: سيارة دعوية إسلامية تمر أمام الكنيسة، تستفز بعض الشبان بعبارات خارجة عن سياق المكان والزمان، وتطور الموقف إلى اشتباك لفظي، ومر دون معالجة جدية، هل كان التفجير انتقاماً؟ ربما، لكن المؤكد أن تلك اللحظة عكست هشاشة العلاقة بين مكونات المجتمع، وغياب القانون الناظم لاحترام التنوع والاختلاف.
المشكلة إذاً ليست في التطرف وحده، بل في مناخ يسمح له بالازدهار. في سوريا اليوم، نعيش حالة من الضبابية القانونية والسياسية فيما يخص الحريات الفردية والعامة، السلطة منهمكة بخطاب موجّه للخارج، بينما يُترك المواطن في الداخل دون ضمانات، بلا قوانين واضحة، وبلا مؤسسات تحمي حقه في التعبير والانتماء والاختلاف.
وتتداخل المهام، وتضيع المسؤوليات، ويُترك مفهوم “الحرية” نهباً للتفسيرات المتضاربة، وفي هذا الفراغ، يجد الخطاب المتطرف أرضاً خصبة، بل إن بعض مظاهره تتسلل إلى مراكز القرار، ويتم التهرب من مواجهته بذريعة “الخصوصية الثقافية”، بينما تُترك فئات كاملة من المجتمع عرضة للتمييز، أو تُحمَّل مسبقاً شبهة “الفتنة” لمجرد اختلافها.
ما يحدث اليوم هو فرض لرؤية ضيقة للمجتمع، رؤية تذيب الفرد داخل جماعة تدّعي احتكار الحقيقة، وتمارس الوصاية باسم الدين أو “العادات”، وتُفرض هذه الرؤية بالقانون حيناً، وبالفوضى حيناً آخر.
لقد أصبح مألوفاً أن تُحل الخلافات الخطيرة بلا عدالة، أن تُذوب الجرائم في قوالب “مصالحة”، أو تُختصر بتبريرات غامضة، كما حدث في قضية مسؤول أمني في حلب مع قاضٍ، أو في الاعتداءات المتكررة على مطاعم وشبان في دمشق وحمص وحماة.
كل هذه الوقائع تُرسخ فكرة واحدة: لا قانون، لا محاسبة، لا عدالة، فقط تسويات وصمت، وهذه أحد أبرز أوجه الأزمة التي تجسد غياب الإرادة السياسية لتفعيل القانون كمنظومة تحمي الجميع، لا كأداة انتقائية لحماية المتنفذين أو تبرير التجاوزات، وهذا يقوض بناء الدولة الحديثة التي لا تقاس بعدد وحجم الأجهزة الأمنية، بل بنوعية القوانين التي تصون الإنسان وحقوقه.
في سوريا، لا تزال القوانين الناظمة للحريات إما فضفاضة أو متناقضة، وتُستخدم عبارات مثل “التحريض” و”الإخلال بالأمن” و”مخالفة الأخلاق العامة” لحجب الحقوق الأساسية في التعبير والتدين والاختلاف، ويؤدي ذلك إلى خلق بيئة يخشى فيها المعتدلون، ويُكافأ فيها المتشددون بالصمت أو التغاضي.
وبطبيعة الحال “الدولة تحتكر العنف المشروع” بوصفه منظماً ومداراً بالقانون، لكن هذا الاحتكار يفقد شرعيته حين تفشل الدولة في فرض القانون بعدالة، وتغض الطرف عن عنف غير رسمي، تمارسه جماعات متشددة، أو أفراد محسوبون على الأجهزة، أو حتى إعلام يُحرّض بدلاً من أن ينوّر.
وهنا يتكرّر مشهد الانهيار في تجارب تاريخية قاتمة: من حروب البلقان إلى العراق بعد 2003، حيث أدى تآكل المؤسسات إلى انفجار مجتمعاتها من الداخل، ولم يكن الخطر فقط في الجماعات المسلحة، بل في دولة تهاونت مع خطاب الكراهية، وتخلت عن وظيفتها كضامن للتعدد والحقوق.
مسؤولية الدولة اليوم ليست فقط في إدانة التفجير، بل في تفكيك البيئة التي أنتجته، وقطع الطريق على أية شرعية زائفة تُمنح للعنف، فلا يجوز لبلد مثخن بالجراح أن يُبرر مجدداً العنف بذريعة “العادات”، أو “الخصوصية”، أو حتى “ظروف المرحلة”.
كما على الدولة عدم التراخي في مواجهة الخطاب المتطرف لأن تأخير المواجهة يشرعن وجوده، ويحوّل المجتمع إلى ساحة من الخوف والتفجير الرمزي والمادي.
وحين تُنتزع كرامة الأفراد باسم الأمن أو الدين أو الهوية، يصبح الانفجار مسألة وقت، ويصبح القاتل فرداً لا يسكن الظل، بل يعيش بيننا، ويتغذى على خطاب كراهية صامت أو مبرَّر أو مروَّج له.
التفجير، أيّاً كانت خلفياته، ليس إلا عرضاً لمرض أعمق: غياب العقد الاجتماعي، فالحرية الفردية لا تُهدّد السلم الأهلي، بل تحميه، والكرامة الإنسانية ليست ترفاً، بل شرطاً لبناء وطن، ولا مجتمع آمن دون احترام للحقوق، ولا استقرار بلا قانون، ولا دولة دون مؤسسات تجرّم الكراهية وتحاصرها، بدل التواطؤ معها.
في النهاية، هذا ليس تفجير كنيسة فحسب. هذا تفجير لفكرة التعايش، للحرية، للكرامة. وإذا لم نواجهه بالعمق، فسنكون شهوداً صامتين على إعادة إنتاج الكارثة، بل شركاء في تدويرها.