إيران والمفاوضات: خطوة للأمام وعشر للوراء

بعد إعلان وقف الحرب بين إيران وإسرائيل، الذي وضع حدّاً لاشتباك ومعركة استمرّت نحو اثني عشر يوماً، يمكن القول إنّ هذا الإعلان لم يكن إعلاناً لنهاية حالة العداء بين الطرفين، بل قد يشكّل مرحلة انتقالية من أبرز معالمها العودة إلى سياسة الضغط بمستويات أعلى على إيران ونظامها. وقد تكون أيضاً مرحلة استراحة بين معركتين، يعمل كلّ من الطرفين على إعادة ترميم ما لحق به من أضرار، وتقويم القدرات التي يمتلكها والإمكانات المتوافرة في ترسانته السياسية والعسكرية والأمنيّة، قبل العودة إلى المواجهة من جديد.

تسبّب الدخول الأميركي العلني على مسار هذه الجولة من الحرب، وتدمير ثلاث منشآت أساسية في البرنامج النووي الإيراني (فوردو ونطنز وأصفهان)، وهو تدمير تدور كثير من الشكوك حول نجاحه، بتعقيد المشهد المرتبط باليوم التالي وما ستكون عليه العمليّة السياسية والدبلوماسية بين إيران وواشنطن من جهة، وإيران وإسرائيل من جهة أخرى، وأيضاً بين إيران ودول الترويكا الأوروبية التي تنتظر الفرصة للعودة إلى تفعيل دورها.

لا عودة قريبة إلى المفاوضات؟

على الرغم من نسبة التفاؤل المرتفعة التي تبديها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وتحديداً مبعوثه الخاصّ للتفاوض مع إيران ستيف ويتكوف، بإمكان العودة إلى طاولة التفاوض مع إيران في الأسبوع المقبل، يبدو أنّ طهران لم تحسم قرارها في هذا الشأن، مع تأكيدها الدائم أنّها لم تغادر طاولة التفاوض، وأنّها تعرّضت لخديعة كبيرة من المفاوض الأميركي الذي استغلّ الإيجابيّة الإيرانيّة والرغبة في التوصّل إلى اتّفاق يضمن الحقوق النوويّة، ليعطي الضوء الأخضر لتل أبيب ونتنياهو لبدء الهجوم على إيران.

لم تعلن طهران مقاطعتها للتفاوض مع واشنطن، إلّا أنّها تشكّكت في جدوى هذا التفاوض ما دام المفاوض الأميركي يمارس ضغوطاً عليها

تبدو العودة إلى طاولة التفاوض مساراً معقّداً وغير واضح المعالم، لجهة أنّ كلا الطرفين لم يتراجعا عن شروطهما المسبقة أو النتائج التي ينتظرانها من التفاوض. فالرئيس الأميركي وفريقه ما يزال متمسّكاً بموقفه الرافض لأيّ تخصيب على الأراضي الإيرانية. في حين أنّ طهران تتمسّك بهذا الحقّ، خاصّة أنّها قد قدّمت الثمن الكبير من أجل الدفاع عنه.

حالة عدم اليقين الأميركية والإسرائيلية من نتائج الضربة “المدمّرة” للمنشآت الرئيسة للبرنامج الإيراني، وظّفتها طهران لبناء مسار من الغموض البنّاء في التعامل مع واشنطن ولآليّة عقابيّة ثنائيّة تستهدف الوكالة الدوليّة للطاقة الذرّية وعواصم الترويكا الأوروبية.

من جهة لم تعلن طهران مقاطعتها للتفاوض مع واشنطن، إلّا أنّها تشكّكت في جدوى هذا التفاوض ما دام المفاوض الأميركي يمارس ضغوطاً عليها من أجل إجبارها على الرضوخ لشروطه وطلباته. ومن جهة أخرى، قلّلت من التأثير الإيجابي لعواصم الترويكا الأوروبية التي لا تملك أيّ دور في التفاوض، علاوة على أنّها عجزت عن الإيفاء بتعهّداتها سابقاً في اتّفاق 2015، وكأنّ لسان حال طهران يقول لهذه العواصم إنّكم تابع للّاعب الأميركي.

وصف وزير الخارجية عبّاس عراقجي ما تحاول أن تمارسه الترويكا الأوروبية من ضغوط لإجبار إيران على التخلّي عن برنامجها النووي من دون اتّفاق شامل، بأنّه “وهم”، خاصّة أنّهم لا يملكون آليّات لرفع العقوبات أو تقديم ضمانات عمليّة تدفع إيران لعدم الذهاب إلى طاولة التفاوض.

في العلاقة مع الوكالة الدولية، فقد فضّلت إيران السير بين النقاط، أو على ما يقول المثل العربي “تريد أكل العنب ولا تريد قتل الناطور”

تعليق التّعامل مع الوكالة الدّوليّة لا الانسحاب

أمّا في العلاقة مع الوكالة الدولية، فقد فضّلت إيران السير بين النقاط، أو على ما يقول المثل العربي “تريد أكل العنب ولا تريد قتل الناطور”. فالقانون الذي دفع به البرلمان الإيراني والذي أقرّ تعليق التعامل مع الوكالة الدولية ومفتّشيها، على جميع المستويات الخاصّة بمعاهدة الحدّ من انتشار أسلحة الدمار الشامل والبروتوكولات الإضافية، كان منزلةً بين منزلتين. فلا هي أعلنت انسحابها من المعاهدة، ولا هي استمرّت في تنفيذها أو تطبيقها، فدخلت الوكالة وواشنطن والمجتمع الدولي في دائرة الغموض لمعرفة مصير هذا البرنامج ومستقبل المخزون الكبير من اليورانيوم المخصّب بدرجة 60 في المئة، الذي استطاعت طهران إنقاذه وإبعاده عن الاستهداف الأميركي.

إذا كان لا بدّ أن ينتظر قانون تعليق التعاون مع الوكالة إنهاء الإجراءات الدستورية ليدخل حيزّ التنفيذ، أي موافقة مجلس صيانة الدستور على شرعيّته، وأن يصادق عليه المجلس الأعلى للأمن القومي، فيُصار بعدئذٍ إلى إبلاغ الحكومة ليكون تنفيذه ملزماً لها، فإنّ إمكان تجاوز هذه الخطوات قد يكون مرجّحاً وبسرعة في حال  عبّر هذا القانون عن إرادة القيادة العليا للنظام وشخص المرشد الذي يملك صلاحيّة رسم السياسات الاستراتيجيّة للنظام والدولة، كما حصل مع القانون الذي أقرّه البرلمان في كانون الأوّل من عام 2020 وألزم حكومة الرئيس حسن روحاني تطبيقه وفرض عليه عدم التوقيع على أيّ اتّفاق لا يضمن حقوق إيران في امتلاك برنامج نوويّ سلميّ ويرفع العقوبات عنها.

ما تقوله طهران هو أنّ لديها الرغبة بإعادة تفعيل المسار الدبلوماسي والتفاوضيّ، لكن على أساس الاعتراف بحقوقها المضمونة في المعاهدات الدولية

غروسّي يستعجل العودة إلى المنشآت

مدير الوكالة الدولية رافائيل غروسّي الذي يتعرّض لحملة اتّهامات واسعة من مختلف مستويات القرار الإيراني، والذي توعّده مستشار المرشد علي لاريجاني بالمحاسبة بعد انتهاء الحرب، اصطدمت مساعيه لإعادة نشاط المفتّشين بجدار القانون الجديد. (الان غروسي في المقابل) وهو مشغول راهناً بمعرفة مصير اليورانيوم المخصّب وأماكن تخزينه الجديدة، ويضغط للعودة إلى داخل المنشآت من أجل التحقّق من مدى فعّاليّة الضربة الأميركية، وممّا إذا باتت الطريق مفتوحة أمام واشنطن والوكالة الدولية لفرض اتّفاق جديد يفكّك البرنامج النووي الإيراني نهائيّاً، أم ما زالت إيران قادرة على إعادة تفعيل هذه الأنشطة واستئنافها من النقطة التي وصلت إليها.

موقف “المنزلة بين المنزلتين” من الوكالة الدوليّة الذي لجأت إليه طهران، بالإضافة إلى انتظار ما سيكون عليه الموقف الأميركي وشروطه لطاولة التفاوض، وضَع إيران بين مسارين: إمّا القبول بالشروط المشدّدة وغير المنصفة في بعضها، والذهاب إلى مفاوضات من الصعب التكهّن بنتائجها، وإمّا التمسّك بشروطها من موقع القوّة للعودة إلى الدبلوماسية والتفاوض.

وصف عراقجي ما تحاول أن تمارسه الترويكا الأوروبية من ضغوط لإجبار إيران على التخلّي عن برنامجها النووي من دون اتّفاق شامل، بأنّه “وهم”

طهران ستتمسّك بشروطها

القانون الذي أصدره البرلمان، والمواقف الصادرة عن رأس الدولة والإدارة الدبلوماسية، تعزّز الاعتقاد بأنّ طهران في طريقها لتبنّي المسار الثاني المتمسّك بموقفها، خاصّة أنّ الحرب التي لم تكن ترغب بها قد حصلت، وأنّها قدّمت الأثمان الكبيرة من أجل ذلك، مع ترك المجال مفتوحاً لإمكان حصول تحوّلات في موقف واشنطن، خاصّة أنّ طهران لم تقدّم أيّ رواية نهائية عن نتائج الضربة الأميركية تنفي بشكل قاطع رواية البيت الأبيض، في وقت بدأ فيه ترميم منشأة فوردو بعيداً عن أعين الوكالة الدولية والمفتّشين.

ما تقوله طهران هو أنّ لديها الرغبة بإعادة تفعيل المسار الدبلوماسي والتفاوضيّ، لكن على أساس الاعتراف بحقوقها المضمونة في المعاهدات الدولية، وأن يبدأ مسار جدّي وحقيقيّ لبناء الثقة المتبادلة بين طرفَي التفاوض، خاصّة بعد الخديعة التي تعرّضت لها في الجولات الخمس من التفاوض التي خاضتها قبل الهجوم الإسرائيلي عليها، وأن تحافظ وستحافظ على حالة الحذر والاستنفار والاستعداد لموجة جديدة من الاعتداءات إذا ما تمسّكت واشنطن بسقوفها العالية والمرتفعة.

• أساس ميديا