في لحظة كانت تستحق أن تكون لحظة بعث وطني، تنهض فيها سوريا من تحت ركام الحرب الطويلة، يُخيَّل إلينا أن صوت الشعب قد ارتفع أخيراً. لكن ما نسمعه ليس صوتاً نابعاً من جذور الأرض، بل صدى مرتد من جدران غرف الدردشة وصفحات التواصل الاجتماعي، حيث المعرفة لحظية، والمعلومة وليدة محرك بحث، والتاريخ ملخص في مسلسل.
ثمة شيء فادح يحدث. شيء أعمق من الأزمة السياسية أو الاقتصادية. سوريا تمر بأزمة وجودية تتعلق بهويتها نفسها. ليس لأن السوريين تخلوا عنها، بل لأن كثيرين منهم لا يعرفونها أصلاً.
لم تعد المشكلة اليوم في الجهل وحده، بل في الجهل المتبجّح، الذي يرتدي ثوب الوعي ويعلن عن نفسه قائداً ثقافياً ومشروعاً فكرياً. نعيش اليوم شعبوية معرفية خانقة، لا تقتصر على العامة، بل تسللت إلى الوسط السياسي والثقافي، بل وأصبحت لهجة “الدولة الوليدة” ذاتها. يختصر فيها كثير من السوريين هويتهم الوطنية في صور نمطية: مسلسل “باب الحارة” هو دمشق، و”الزند” هو الساحل، أما الدولة الأموية فهي ما جاء في مسلسل “معاوية”، وكأن الدراما صارت المرجع الأوحد للوعي التاريخي.
إنه وعي استهلاكي، سريع، سطحي، صاخب، وغير نقدي، يعيد إنتاج نفسه يومياً على منصات التواصل، حيث الجهل المنتشر أكثر حضوراً من المعرفة الدقيقة، والنتيجة: انتماء زائف لا يصمد أمام سؤال بسيط: من نحن؟ وماذا نعرف عن أنفسنا حقاً؟.
حين يصنع الاستبداد ذاكرة شعب
ليست الدراما هنا بريئة. على مدى عقود، استثمرت أجهزة الأمن السورية في صناعة وعي جماهيري مشوّه، يُحاكي الماضي كما تريده السلطة، ويُقصي من الرواية كل من لا يخدم سرديتها. لم يكن “باب الحارة” مسلسلاً ترفيهياً فقط، بل مشروعاً ثقافياً يُعيد تشكيل صورة دمشق كما تراها المخابرات: مدينة خضوع، ذكورية، عنفوية، مُختزلة في عائلة، وحيّ، وشارع. وكذلك فعلت مسلسلات أخرى، اجتزأت، شوّهت، ضخّمت، وصادرت التاريخ.
وهكذا تربّى جيل جديد على أن تاريخ سوريا يُروى عبر حبكات درامية، وليس عبر وثائق وكتب وفكر. لا يعرف هؤلاء عن مدنهم أكثر مما رآه في الشاشة، ولا عن حضارتهم أكثر مما قاله ممثل يلعب دوراً مشوّهاً.
وقد تضاعفت خطورة هذا التشويه مع صعود منصات التواصل الاجتماعي، حيث تُعاد إنتاج هذه السرديات الدرامية المختزلة عبر منشورات مكررة، ومقاطع مجتزأة، ونقاشات شعبوية صاخبة تحوّل المغالطات إلى “رأي عام”. وهكذا التقت دراما السلطة مع غوغائية السوشيال ميديا في تعميق الانفصال الجماعي عن التاريخ الحقيقي، وفي تكريس هوية مصنوعة من الصور النمطية لا من المعرفة.
حين تكتب النساء وعي البلاد
وسط هذا الغبار الثقافي، يظهر خطاب لا يقل خطورة: فلنكن سنغافورة. فلنستورد نموذجاً جاهزاً. ولكن كيف يُبنى وطن على أنقاض ذاكرته؟ وأي نهضة تلك التي تبدأ من الخارج لا من الداخل؟ ليست المشكلة في احترام تجارب الآخرين، بل في نسيان الذات لصالحها، وكأن السوريين لا يملكون من العراقة والمعرفة ما يكفي لابتكار مسارهم الخاص.
كل مشروع وطني يبدأ من سؤال الهوية. من وعي الذات. ومن إعادة الاعتبار لما طمسته عقود الاستبداد من وعي وفكر وثقافة.
وهنا نرى أن غياب الصوت النسائي في سوريا اليوم، ليس سوى نتاج التهميش والإقصاء، لا انعكاساً لتاريخ صامت. فمنذ القرن التاسع عشر، كانت مريانا مراش من حلب تكتب في مجلات النهضة عن تعليم المرأة واستقلالها، بل كانت أول سورية تكتب مقالات فكرية في الصحافة. وسبقتها نعمت الحمصي، التي حوّلت مدينتها إلى فضاء للتعليم النسائي، ووقفت في وجه الاحتلال الفرنسي بقلمها ومدرستها.
وفي القرن العشرين، جاءت عفيفة المهايني لتدخل مجال الفلسفة الجامعية، وتُدرّس المنطق والفكر العقلاني في قاعات جامعة دمشق، متحدّية هيمنة الذكور على الفلسفة الأكاديمية.
ثم، وفي مواجهة الموت نفسه، وقفت هالة محمد بالشعر، تمزج الرِقة بالثورة، وتكتب عن الغياب وكأنها تنقش الحقيقة بالدموع. أما رشا عمران، فحوّلت القصيدة إلى بيان ثقافي ضد الطغيان، وكتبت الثورة بلغة تفيض بالحب والخسارة معاً.
ومثلت رقيّة حسن (نيسان إبراهيم) ذروة هذا الامتداد: شابة من الرقة، واجهت الإرهاب بالكلمة، ودفعت حياتها ثمناً لحق السوريين في أن يعرفوا الحقيقة. وكانت ابنة عصرها، لكنها حفيدة روحية لنساء كتبن قبلها بقرون.
ولا يمكن إغفال اسم دعد حداد، التي مزجت بين الشعر والموقف، وكانت من أبرز الأصوات النسوية السورية التي كتبت عن الخسارة والانتماء بلغة عالية ووجدان جمعي، فتركت أثراً صامتاً لكنه متين في وجدان الثقافة السورية الحديثة.
هؤلاء النساء، من مراش إلى رقيّة وحداد، لا يجمعهن الزمن، بل الإيمان بأن الوعي يُكتب، وأن الهوية السورية ليست رجالية خالصة، بل خليط من النبرة الحازمة والحنان المتمرّد، من المقال الفلسفي إلى القصيدة إلى التدوينة الأخيرة قبل الغياب.
المفكرون في الهامش، والضجيج في المركز
في هذا السياق، تغيب أو تُغيَّب أصوات المفكرين والفلاسفة السوريين الحقيقيين. تُطرد من المجال العام، أو تُستبدَل بمثقفين شعبويين، أو تُتّهم بالنخبوية والانفصال عن “الشارع”. لكن التاريخ يعلمنا أن كل نهضة بدأت من نخبة فكرية، أعادت تعريف الذات، وتفكيك الرواية المهيمنة، ورسمت ملامح وطن يتجاوز الصورة التي فرضتها عليه الأنظمة.
أما من الرجال، فبقي إرث صادق جلال العظم، وجورج طرابيشي، وبرهان غليون، وعبد الله حنا، علامات في النقد والفكر والهوية. مثل هؤلاء، لا غيرهم، يجب أن يكونوا مرجع البناء الثقافي لسوريا الجديدة.
لأنه، إذا بقي من يتصدر المشهد هم أبناء “باب الحارة”، ومن يقررون المستقبل هم من لا يعرفون من دمشق إلا حيّاً خيالياً، ومن يضعون تصور الدولة القادمة هم من يستمدون تاريخهم من حبكة درامية، فلن تكون سوريا الجديدة سوى تكرار أكثر سطحية لسوريا القديمة.
المعركة اليوم هي معركة على الذاكرة، وعلى الهوية، وعلى جوهر الكينونة السورية. وهي ليست معركة سياسية فقط، بل ثقافية وفكرية وأخلاقية . ولا نهضة بدونها.
الوقت لم يفت. لكن النافذة تضيق. وما لم نستدعِ من الهامش إلى المركز كل صوت حر، كل عقل ناقد، كل مفكر ومفكرة تم تهميشهم عمداً، سنظل نركض خلف هوية لا نملكها، ونبني دولة لا تشبهنا، ونرسم مستقبلاً بلا جذور.
- المدن