يحدثُ في سوريا شيءٌ كبير: توقيع اتّفاق مع شركة موانئ دبي العالمية لتطوير مرفأ طرطوس بقيمة 800 مليون دولار (بعد أسابيع من توقيع مذكّرة التفاهم)، ليصبح لدى سوريا مرفق دوليّ حرّ للاستيراد والتصدير، بإدارة القطاع الخاصّ، للمرّة الأولى منذ تحوّلها إلى دولة اشتراكية قبل ستّين عاماً.
ولوضع الاتّفاق في سياقه، يكفي استحضار ما رواه السياسي الإماراتيّ عبدالخالق عبدالله بعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020، من أنّ الشركة الإماراتيّة نفسها عرضت على الرئيس الشهيد رفيق الحريري مشروعاً لإدارة مرفأ بيروت وربطه بميناء دبي بسكّة حديد تمرّ بأربع دول عربية، لاختصار نقل السلع بين أوروبا وآسيا إلى 36 ساعة، على حدّ قوله.
تأسّست سوريا بحدودها القائمة اليوم بلا مرفأ. كانت بيروت منفذها الرئيسي للتجارة مع أوروبا، وظلّ الأمر كذلك حتّى بعد إنشاء مرفأي اللاذقيّة وطرطوس
ماذا عن مرفأ طرطوس؟
ما لا يعرفه كثيرون عن مرفأ طرطوس أنّ مساحته تعادل أكثر من ضعفَي مساحة مرفأ بيروت، وأنّ عدد الأرصفة فيه أكبر. وما ستضيفه الشركة الإماراتية أنّها ستزيد من عمق الأحواض لتستقبل السفن الكبرى، وستضيف إلى مرافقه مناطق حرّة صناعية ولوجستية، وستربطه بشبكتها التي تزيد على 70 مرفأً ومحطّة حاويات في العالم، من المكسيك والبرازيل إلى لندن وهونغ كونغ والسعوديّة.
تتغيّر سوريا سريعاً، ولا يبدو أنّ لبنان مدركٌ لمدى الحاجة إلى التغيير ليحتفظ بدوره وحيويّة اقتصاده. وربّما تعطي بيانات الأشهر الأولى من العام الحالي بعض الإشارات الأولى إلى اتّجاه لبنان نحو العزلة الاقتصادية، فيما تتّجه سوريا إلى فتح اقتصادها وتطوير موانئها.
ما لا يدركه لبنان أنّ الوضع الجديد يتطلّب جهداً مضاعفاً عشر مرّات. فالوضع السابق، على سوئه، لم يكن يتطلّب من لبنان الكثير من الجهد للمنافسة. بل تكفّل النظام الاشتراكي والعقوبات الغربية بجعل لبنان الرئة التجارية والمصرفية الوحيدة للشقيقة الكبرى. فكان التجّار السوريّون يعتمدون على فتح الاعتمادات المستنديّة عبر المصارف اللبنانية، ثمّ شحن البضائع عبر مرفأ بيروت، لتُنقل لاحقاً برّاً إلى سوريا. لكنّ الانهيار المصرفي اللبناني عام 2019 أنهى الدور التاريخي للمصارف اللبنانية على هذا الصعيد. وفوق ذلك، أتى الانفجار الكارثيّ في مرفأ بيروت عام 2020 ليضعف دور لبنان أكثر. واستمرّ الاعتماد عليه فقط لغياب البدائل داخل سوريا.
الاستغناء عن لبنان
ما تظهره البيانات الأخيرة ينذر ببوادر استغناء عن لبنان، إذ بدأ التجّار السوريّون بالابتعاد عن بيروت. ففي الأشهر الخمسة الأولى من العام الحالي، تراجع عدد السفن الراسية في مرفأ بيروت بنحو 8%، وانخفض عدد مجموع الحاويات برسم “المسافنة”، أي العابرة كترانزيت، بنسبة 19%. ومع ذلك ارتفعت أرقام الاستيراد الإجمالية في المرفأ في هذه الفترة بسبب ارتفاع الاستيراد للاستهلاك المحلّي بنسبة تقارب 20% تقريباً، باعتبار أنّ الحركة في السنة الماضية كانت ضعيفة أصلاً في ظلّ اشتعال جبهة الجنوب. وهذا ربّما يشير إلى تراجع اعتماد التجّار السوريّين على مرفأ بيروت.
يحدثُ في سوريا شيءٌ كبير: توقيع اتّفاق مع شركة موانئ دبي العالمية لتطوير مرفأ طرطوس بقيمة 800 مليون دولار (بعد أسابيع من توقيع مذكّرة التفاهم)
بالتوازي، سجّلت أعداد المسافرين الواصلين إلى مطار رفيق الحريري الدولي تراجعاً بنسبة 17% في شهر حزيران بالمقارنة مع الشهر نفسه من العام الماضي، فيما تراجعت أعداد المغادرين بنحو 3.3%، على الرغم من فارق الظروف مع الصيف الماضي، إذ انتُخب رئيسٌ وتشكّلت حكومةُ وانتهت حربٌ منذ ذلك الحين. وربّما يكون التراجع عائداً إلى انخفاض أعداد المسافرين السوريّين عبر مطار بيروت.
تعبّر حركة المرفأ والمطار عن تحوّل انعزالي متردّد في لبنان تجاه سوريا، وعن قصورٍ في فهم خطورة تحوُّلها من دولة اشتراكية مغلقة لا منفذ لها إلّا لبنان، بمرفئه ومطاره ومصارفه ومستشفياته وجامعاته، إلى دولة ذات اقتصادٍ حرّ، تدير مرفأيها اثنتان من أكبر شركات إدارة الموانئ والخطوط الملاحية في العالم، جاعلتَين البلاد في قلب شبكة التجارة الدولية وفي عقدة الوصل بين أوروبا وآسيا.
سوريا الجديدة فرصة للبنان
ما يحتاج لبنان إلى فهمه أنّ انفتاح سوريا وتحرير اقتصادها يوفّر فرصة أكبر بكثير ممّا توفّره سوريا المغلقة والمعزولة، والمثال الحاضر علاقة سنغافورة، التي لا تزيد مساحتها على 7% من مساحة لبنان، بجارتها الكبيرة ماليزيا. فبعد كلّ التاريخ الشائك، تقوم بين البلدين تجارة بنحو 80 مليار دولار سنوياً، ويعبر 300 ألف شخص يوميّاً بينهما، وتشكّل سنغافورة المنفذ التجاري واللوجستي الرئيسي لماليزيا، فيما تعتمد على جارتها الكبيرة للحصول على المياه العذبة والغاز وغيرهما من الإمدادات.
إقرأ أيضاً: دمشق أمام أزمة “عقد اجتماعيّ”
لا شكّ أنّ الفرصة ما تزال قائمة أمام لبنان للمنافسة والاستفادة من حركة إعادة الإعمار في سوريا، بشرط الجهوزيّة من حيث البنية التحتية والكفاية الإدارية. وفوق ذلك، سيحتاج لبنان إلى سوريا للوصول إلى الأسواق العربية، ولاستيراد الغاز بتكلفة أقلّ، وللربط الكهربائي، ولقطاعات كثيرة أخرى.
لكنّ لبنان بحاجة إلى المبادرة وليس انتظارها من دمشق. إلّا أنّ مشكلته أنّه ما يزال حتّى اليوم يقدّم الحساسيّات التاريخية على المصالح البراغماتية في إدارة العلاقات الاقتصادية مع سوريا.
- أساس ميديا